جو سوينسون تراهن على سقوط «الثنائية الحزبية» في بريطانيا

هل تصبح «صغيرة البرلمان» الليبرالية صانعة القادة في «انتخابات بريكست»؟

جو سوينسون تراهن على سقوط «الثنائية الحزبية» في بريطانيا
TT

جو سوينسون تراهن على سقوط «الثنائية الحزبية» في بريطانيا

جو سوينسون تراهن على سقوط «الثنائية الحزبية» في بريطانيا

كانوا حتى أمس القريب يسمونها «صغيرة المجلس»، لكنها أصبحت اليوم من أهم وجوه السياسة البريطانية.
إنها جو سوينسون، زعيمة حزب الديمقراطيين الأحرار، التي كانت أصغر نواب مجلس العموم سنّا عندما انتخبت عن دائرة شرق دونبارتون شير، في وسط أسكوتلندا، عام 2005، وهي لا تزال في الـ25. لكنها اليوم، وهي تقترب من الـ40، تجد سوينسون نفسها في واجهة الساحة السياسية البريطانية، وقد رفعت شعاراً مثيراً للجدل كان شبه محرّم في أروقة «قصر ويسمنستر» (حيث مقر مجلسي العموم واللوردات) في لندن قبل أسابيع. ألا وهو شعار «البقاء في الاتحاد الأوروبي»، وعكس نتيجة استفتاء يونيو (حزيران) 2016، الذي قرّر خلاله نحو 52 في المائة من الناخبين وضع حد لعقود من عضوية بريطانيا في الأسرة الأوروبية.

قد يبدو رهان جو سوينسون، زعيمة حزب الديمقراطيين الأحرار، وحزبها، مخاطرة كبيرة، إلا أنه يعيد تعريف ذلك الحزب الليبرالي الذي لطالما كان متأرجحاً بين اليمين واليسار، فاتّهمته المعارضة «العمالية» بأنه «مُسهّل» للمحافظين، بينما اتّهمه المحافظون بأنه أوروبي أكثر منه بريطاني. وفي وقت تزداد الثنائية الحزبية المهيمنة على السياسة البريطانية هشاشة، قد تنجح سوينسون في انتزاع أصوات «عمالية»، أو حتى «محافظة» داعمة لمعسكر البقاء في الاتحاد الأوروبي. فمن هي جو سوينسون؟ وهل تنجح استراتيجيتها الانتخابية المعتمدة على «عكس بريكست» في تغيير الخريطة السياسية البريطانية كما نعرفها؟

طموح سياسي مبكر
جوان كيت سوينسون، سياسية بريطانية وُلدت في مدينة غلاسغو كبرى مدن أسكوتلندا يوم 5 فبراير (شباط) من عام 1980، ودرست الإدارة في كلية لندن للاقتصاد - إحدى أعرق وأرقى جامعات بريطانيا وأوروبا. وبعد التخرّج عملت لفترة قصيرة في مجال العلاقات العامة، قبل أن تُنتخب لعضوية مجلس العموم عن دائرة شرق دونبارتون شير عام 2005، لتصبح أصغر أعضاء البرلمان سناً في ذلك الوقت.
ومع أن سوينسون خسرت مقعدها في عام 2015 أمام جون نيكلسون، مرشح «الحزب القومي الأسكوتلندي»، فإنها استرجعته في الانتخابات المبكرة عام 2017. ثم شغلت سوينسون خلال عملها نائبة منصب الناطقة بلسان «الديمقراطيين الأحرار»، وغطّت قضايا مختلفة شملت أسكوتلندا والمساواة بين الجنسين، وشؤون الخارجية و«الكومنولث».
عام 2010، بعدما دخل «الديمقراطيون الأحرار» في حكومة ائتلافية مع حزب المحافظين، برئاسة ديفيد كاميرون، شغلت سوينسون منصب السكرتير البرلماني الخاص لنائب رئيس الوزراء نيك كليغ، وعُينت لاحقاً وكيلة وزارة الدولة لعلاقات التوظيف.
وبعد وقت قصير من عودتها إلى البرلمان عام 2017، لمع نجم سوينسون، وبدأ أعضاء في الحزب يرونها «وريثة» طبيعية لزعيمه آنذاك فينس كايبل، وبالفعل، انتخبت بالإجماع نائبة لزعيم «الديمقراطيين الأحرار». ثم، خلال شهر مايو (أيار) عام 2019، أعلنت سوينسون نيّتها خلافة كايبل، متحدّية الوزير والمرشح البارز السير إد دايفي. وفي انتخابات الزعامة، فازت بالمنصب في يوليو (تموز) الماضي متغلبة على دايفي، لتصبح أول امرأة وأصغر زعيم لحزب الديمقراطيين الأحرار.
ما يذكر، أنه إلى جانب نشاط سوينسون السياسي، حازت مواقفها الداعمة لحقوق الآباء الجدد، وساعات العمل المرنة، والمعارضة لتخصيص حصص لتوظيف النساء، الكثير من الاهتمام في الأوساط الاقتصادية. كما اختارتها صحيفة «الإيفنينغ ستاندرد»، واسعة الانتشار، إحدى أكثر 1000 شخصية تأثيراً في لندن، خلال أعوام 2011 و2012 و2013 و2014.

حزب الوسط؟
«بلادنا تستحق أفضل مما يُقدّمه الحزبان المحافظ والعمالي المتقادمان والمتعبان، كلاهما يريد (بريكست). (...) لن أضع حدًا لطموحي وطموح (الديمقراطيين الأحرار) لبناء مستقبل أفضل (...)، أستطيع أن أكون رئيسة وزرائكم»، تكرّر سوينسون هذه الشعارات في التجمعات الانتخابية، والقنوات التلفزيونية، وربما الأهم منهما، في منصّات التواصل الاجتماعي، بلا كلل.
ومع اقتراب موعد الانتخابات العامة المبكرة في 12 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، ينتهج حزب سوينسون استراتيجية مختلفة عن حزبي اليمين واليسار. إذ جعل حزب المحافظين بقيادة رئيس الوزراء بوريس جونسون - المحسوب على يمين حزبه - «تحقيق الخروج من الاتحاد الأوروبي الشعار الرئيسي لحملته الانتخابية»، في حين تعهد منافسه المباشر، حزب العمال، للناخبين بإجراء استفتاء جديد بشأن «بريكست»، مرسلاً إشارات خجولة إلى أنه يفضّل البقاء في الاتحاد.
من ناحية أخرى، تسعى سوينسون إلى تقديم نفسها للناخبين كوجهٍ جديد، غير معروف لدى كثيرين، يطرح نهجاً وسطياً وعقلانياً مختلفاً عن الحزبين التقليديين في وضوحه تجاه قضايا مثل «بريكست»، ونظام الرعاية الصحية، ومواجهة تحديات التغيّر المناخي.
وتوافقاً مع هذا النهج، اعترفت سوينسون بما اعتبرته «أخطاء» الحزب السابقة، خصوصاً تلك التي ارتكبها بمشاركته في حكومة المحافظين برئاسة كاميرون عام 2010. ولقد أدت مشاركته تلك إلى تعرّض الحزب لهزيمة قاسية في انتخابات 2015، تراجع معها عدد مقاعد الحزب من 57 إلى 8 مقاعد فقط. كذلك، عبّرت عن أسفها لدعم الحزب سياسات اعتبرها البعض تقشّفية، وتغييرات في نظام الرعاية الصحية، وضريبة إضافية على السكن.
واليوم، تأمل سوينسون في إحداث قطيعة مع أخطاء الماضي، وإعادة تعريف الحزب وتوجّهاته ومبادئه، واختارت قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كقضية محورية لتحقيق ذلك.
وفي دعوة حزبها إلى إلغاء مادة 50 من «معاهدة لشبونة»، التي أطلقت عملية «بريكست» رسمياً، تضاعف عدد «الديمقراطيين الأحرار» في الساحة السياسية، وأصبحوا فعلياً «حزب البقاء في أوروبا». وبذا، نجح الحزب حيث فشل آخرون، مثل حزب «التغيير» الذي وُلد من رحم انشقاقات من الحزبين الأساسيين (المحافظون والعمال) لكنه لم يستمرّ سوى بضعة أشهر، ليعلن غالبية أعضائه الانضمام إلى «الديمقراطيين الأحرار».
وفي حين يُحسب هذا الإنجاز لحزب سوينسون، الذي نال المرتبة الثالثة في استطلاعات رأي حديثة، فإن فوزه بغالبية المقاعد مستبعد للغاية، إن لم يكن مستحيلاً. ونقلت صحيفة «الفاينانشال تايمز» أخيراً عن مصادر مقرّبة من دوائر القرار في الحزب، أن قيادييه يُدركون أن الفوز بـ45 مقعداً سيُعدّ انتصاراً بارزاً، يعيد الحزب إلى الحسابات السياسية الدائرة في مجلس العموم. خصوصاً وأن الحزب، رغم تعافيه النسبي من نتيجة تحالفه الكارثي مع المحافظين، لم يحصل إلا على 12 مقعداً في انتخابات 2017 المبكّرة التي دعت إليها تيريزا ماي.
في أي حال، في حال أفضت الانتخابات المبكرة إلى «سيناريو» البرلمان المعلّق - أي من دون غالبية مطلق لأي حزب - كما تتوقع استطلاعات الرأي، واستعاد «الديمقراطيون الأحرار» المقاعد التي خسروها بعد 2010، فإن سوينسون قد تصبح «صانعة القادة» الجديدة... وتحدّد هوية ساكن «10 داونينغ ستريت» الجديد.

تهديد للمقاعد «العمالية»
على مدار الأسابيع الخمسة المقبلة، يأمل «الديمقراطيون الأحرار» في الفوز بأصوات ناخبين يبحثون عن الوسطية، وسط أجواء سياسية مشحونة بين سعي جونسون إلى خروج «قاسٍ» لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبرنامج غريمه العمالي جيريمي كوربن، الذي يوازيه وربما يبزّه في «راديكاليته»... ولكن يساراً.
وعلى الرغم من أن التوقعات، حتى اللحظة، لا ترقى لطموح سوينسون بالفوز برئاسة الوزراء، فإن «الديمقراطيين الأحرار» قد يجدون أنفسهم في موقع قوة في 12 ديسمبر (كانون الأول) المقبل (تاريخ الانتخابات التشريعية المقبلة). والواضح أن حملة سوينسون تركّز على انتزاع مقاعد «عمالية» في المناطق التي صوّتت للبقاء في الاتحاد الأوروبي، واستغلال غضب بعض المعاقل «العمالية» التقليدية من نهج كوربن المتردد حيال «بريكست». ومعلوم أنه منذ أصبح كوربن داعماً لتنظيم استفتاء ثانٍ على الخروج من الاتحاد الأوروبي، تحت ضغوط من داخل حزبه، فإنه رفض تحديد ما إذا كان سيدعم الخروج أو البقاء.
في المقابل، فإن سوينسون تراهن على أن موقف حزبها كان متماسكاً منذ البداية، وأنه لم يتخلَّ أبداً عن تأييده للاستفتاء وللبقاء في الاتحاد الأوروبي. إلى ذلك، فإن «الديمقراطيين الأحرار» يراهنون على الفوز بتأييد بعض المحافظين، المعارضين لـ«بريكست»، إلا أن فرص حصول ذلك تبقى ضئيلة.
وفي مقابل هذا التفاؤل، اعتبر أنتوني ويلز، مدير الأبحاث في مؤسسة الاستطلاعات «يوغوف»، أن تحقيق «تقدم حقيقي» يشكل تحدياً كبيراً لـ«الديمقراطيين الأحرار». وهو رأي كرّره بعض المراقبين السياسيين، الذين أعربوا عن مخاوف من أن الحزب حدّ من جاذبيته لناخبي المناطق خارج العاصمة لندن (التي صوتت لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي)، بدعوته الصريحة لنقض الخروج من الاتحاد الأوروبي.
في المقابل، يشكك البعض الآخر في معارضة «الديمقراطيين الأحرار» للحكومة الحالية، ومن هؤلاء نيكولا ستورجن، وزيرة أسكوتلندا الأولى والزعيمة القومية الأسكوتلندية، التي وصفتهم أمس بـ«حزب ويسمنستر»، لا حزب «معارضة بريكست».
بدوره، قال نيل باريش، وهو نائب محافظ، إن مواقف «الديمقراطيين الأحرار» ضمنت له مقعده في البرلمان. وتابع في تصريحات صحافية: «قد تنجح (استراتيجيتهم) في أجزاء من لندن، لكنها لن تنجح خارجها»، في إشارة إلى أجزاء كثيرة جنوب غربي إنجلترا. ثم أردف: «إن الناس يريدون فقط الخروج من الاتحاد الأوروبي».

التصويت التكتيكي
ولكن، في محاولة لمواجهة نقاط ضعفهم، يدعو مرشحون من «الديمقراطيين الأحرار»، الناخبين، إلى «التصويت تكتيكياً» لقطع الطريق أمام عودة المحافظين، مع أن معارضة سوينسون الشديدة والصريحة لزعيم حزب العمال كوربن، وسياساته، قد تعيق نجاح هذه الاستراتيجية.
ويرى الكاتب السياسي مارتن كيتل، في هذا السياق، أن حزب سوينسون لن ينجح في تعزيز عودته إلى الساحة السياسية سوى عن طريق انتخاب المزيد من نواب داخل البرلمان. ولن يحدث ذلك في نظره، إلا إذا كان هناك «نوع من الاقتراع التكتيكي في الانتخابات العامة المقبلة، شبيه بالذي ساعد بادي آشداون، الزعيم الأسبق للحزب، على زيادة عدد النواب الديمقراطيين الأحرار عام 1997 بأكثر من الضعفين». ويضيف: «أدرك الناخبون التقدميون آنذاك أنه قاد حزباً يمكنه العمل مع حزب توني بلير». بيد أن كيتل استدرك في مقال رأي نشره في صحيفة «الغارديان» فقال: «على النقيض من ذلك، تواجه سوينسون حالياً علاقة أكثر صعوبة مع قيادة حزب العمال الحالية التي لا يدعمها الكثير من مؤيدي الديمقراطيين الأحرار. ومع ذلك، ما لم تتمكن من جعل هذه العلاقة ناجحة، سيكون هناك فائز واحد فقط، ولن يكون الحزب الديمقراطي الحر».
في المقابل، وبينما ترفض سوينسون دعم كوربن، فإنها تسعى إلى التقرّب من الأحزاب المعارضة الأخرى. وحقاً، أعلنت أصغر ثلاثة أحزاب في بريطانيا، أول من أمس، اتفاقاً انتخابياً في محاولة لجذب المزيد من النواب البرلمانيين الذين يفضلون البقاء في الاتحاد الأوروبي.
وانضم «الديمقراطيون الأحرار» إلى حزب «الخضر» البيئي و«الحزب القومي الويلزي»، في اتفاق تعاون للحصول على 60 مقعداً من أصل الـ650 مقعداً في البرلمان في الانتخابات المقبلة، ما يعني أن مرشحاً واحداً فقط سيمثل الأحزاب الثلاثة عن كل دائرة انتخابية تخوضها، كما نقلت وكالة الأنباء الألمانية.
وعلقت جو سوينسون، في تغريدة، على الاتفاق بالقول «أنا سعيدة لأننا استطعنا إعلان هذا الترتيب للتأكد من أننا سنحصل على أكبر عدد ممكن من النواب المؤيدين للبقاء في الاتحاد الأوروبي».
وأضافت: «مستقبلنا الأكثر إشراقاً سنصنعه بالعمل معاً، وبالتالي، يمكننا الاتحاد للبقاء (في التكتل الأوروبي)».
بدوره، قال حزب «الخضر» إن الاتفاقية ستسمح له «بالتنافس على 10 مقاعد في إنجلترا وويلز». وأفاد الزعيم المشارك للحزب جوناثان بارتلي، في بيان، بأن «هذا يتمحور حول إدراك كم سيكون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مضراً - للأفراد وللبيئة - وضمان أن يكون هناك أكبر عدد ممكن من الأحزاب المنادية بالبقاء في البرلمان المقبل قدر المستطاع». ومن جهته، أكد آدم برايس زعيم «القوميين الويلزيين»، أن حزبه «سيولي أولوية لمصلحة ويلز الوطنية، وينحي السياسات الحزبية جانباً، للحصول على دعم أكبر عدد ممكن من النواب من الأحزاب المؤيدة للبقاء في الاتحاد الأوروبي في هذه الانتخابات الحاسمة».
وعلى أي حال، ستكشف الأسابيع القليلة المقبلة ما إذا كان رهان سوينسون ناجحاً، وما إذا كان حزبها سينهي عقوداً من «الثنائية الحزبية»، ويرجح كفة البرلمان لصالح دعم استفتاء جديد يفضي إلى البقاء في الاتحاد الأوروبي.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.