جو سوينسون تراهن على سقوط «الثنائية الحزبية» في بريطانيا

هل تصبح «صغيرة البرلمان» الليبرالية صانعة القادة في «انتخابات بريكست»؟

جو سوينسون تراهن على سقوط «الثنائية الحزبية» في بريطانيا
TT

جو سوينسون تراهن على سقوط «الثنائية الحزبية» في بريطانيا

جو سوينسون تراهن على سقوط «الثنائية الحزبية» في بريطانيا

كانوا حتى أمس القريب يسمونها «صغيرة المجلس»، لكنها أصبحت اليوم من أهم وجوه السياسة البريطانية.
إنها جو سوينسون، زعيمة حزب الديمقراطيين الأحرار، التي كانت أصغر نواب مجلس العموم سنّا عندما انتخبت عن دائرة شرق دونبارتون شير، في وسط أسكوتلندا، عام 2005، وهي لا تزال في الـ25. لكنها اليوم، وهي تقترب من الـ40، تجد سوينسون نفسها في واجهة الساحة السياسية البريطانية، وقد رفعت شعاراً مثيراً للجدل كان شبه محرّم في أروقة «قصر ويسمنستر» (حيث مقر مجلسي العموم واللوردات) في لندن قبل أسابيع. ألا وهو شعار «البقاء في الاتحاد الأوروبي»، وعكس نتيجة استفتاء يونيو (حزيران) 2016، الذي قرّر خلاله نحو 52 في المائة من الناخبين وضع حد لعقود من عضوية بريطانيا في الأسرة الأوروبية.

قد يبدو رهان جو سوينسون، زعيمة حزب الديمقراطيين الأحرار، وحزبها، مخاطرة كبيرة، إلا أنه يعيد تعريف ذلك الحزب الليبرالي الذي لطالما كان متأرجحاً بين اليمين واليسار، فاتّهمته المعارضة «العمالية» بأنه «مُسهّل» للمحافظين، بينما اتّهمه المحافظون بأنه أوروبي أكثر منه بريطاني. وفي وقت تزداد الثنائية الحزبية المهيمنة على السياسة البريطانية هشاشة، قد تنجح سوينسون في انتزاع أصوات «عمالية»، أو حتى «محافظة» داعمة لمعسكر البقاء في الاتحاد الأوروبي. فمن هي جو سوينسون؟ وهل تنجح استراتيجيتها الانتخابية المعتمدة على «عكس بريكست» في تغيير الخريطة السياسية البريطانية كما نعرفها؟

طموح سياسي مبكر
جوان كيت سوينسون، سياسية بريطانية وُلدت في مدينة غلاسغو كبرى مدن أسكوتلندا يوم 5 فبراير (شباط) من عام 1980، ودرست الإدارة في كلية لندن للاقتصاد - إحدى أعرق وأرقى جامعات بريطانيا وأوروبا. وبعد التخرّج عملت لفترة قصيرة في مجال العلاقات العامة، قبل أن تُنتخب لعضوية مجلس العموم عن دائرة شرق دونبارتون شير عام 2005، لتصبح أصغر أعضاء البرلمان سناً في ذلك الوقت.
ومع أن سوينسون خسرت مقعدها في عام 2015 أمام جون نيكلسون، مرشح «الحزب القومي الأسكوتلندي»، فإنها استرجعته في الانتخابات المبكرة عام 2017. ثم شغلت سوينسون خلال عملها نائبة منصب الناطقة بلسان «الديمقراطيين الأحرار»، وغطّت قضايا مختلفة شملت أسكوتلندا والمساواة بين الجنسين، وشؤون الخارجية و«الكومنولث».
عام 2010، بعدما دخل «الديمقراطيون الأحرار» في حكومة ائتلافية مع حزب المحافظين، برئاسة ديفيد كاميرون، شغلت سوينسون منصب السكرتير البرلماني الخاص لنائب رئيس الوزراء نيك كليغ، وعُينت لاحقاً وكيلة وزارة الدولة لعلاقات التوظيف.
وبعد وقت قصير من عودتها إلى البرلمان عام 2017، لمع نجم سوينسون، وبدأ أعضاء في الحزب يرونها «وريثة» طبيعية لزعيمه آنذاك فينس كايبل، وبالفعل، انتخبت بالإجماع نائبة لزعيم «الديمقراطيين الأحرار». ثم، خلال شهر مايو (أيار) عام 2019، أعلنت سوينسون نيّتها خلافة كايبل، متحدّية الوزير والمرشح البارز السير إد دايفي. وفي انتخابات الزعامة، فازت بالمنصب في يوليو (تموز) الماضي متغلبة على دايفي، لتصبح أول امرأة وأصغر زعيم لحزب الديمقراطيين الأحرار.
ما يذكر، أنه إلى جانب نشاط سوينسون السياسي، حازت مواقفها الداعمة لحقوق الآباء الجدد، وساعات العمل المرنة، والمعارضة لتخصيص حصص لتوظيف النساء، الكثير من الاهتمام في الأوساط الاقتصادية. كما اختارتها صحيفة «الإيفنينغ ستاندرد»، واسعة الانتشار، إحدى أكثر 1000 شخصية تأثيراً في لندن، خلال أعوام 2011 و2012 و2013 و2014.

حزب الوسط؟
«بلادنا تستحق أفضل مما يُقدّمه الحزبان المحافظ والعمالي المتقادمان والمتعبان، كلاهما يريد (بريكست). (...) لن أضع حدًا لطموحي وطموح (الديمقراطيين الأحرار) لبناء مستقبل أفضل (...)، أستطيع أن أكون رئيسة وزرائكم»، تكرّر سوينسون هذه الشعارات في التجمعات الانتخابية، والقنوات التلفزيونية، وربما الأهم منهما، في منصّات التواصل الاجتماعي، بلا كلل.
ومع اقتراب موعد الانتخابات العامة المبكرة في 12 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، ينتهج حزب سوينسون استراتيجية مختلفة عن حزبي اليمين واليسار. إذ جعل حزب المحافظين بقيادة رئيس الوزراء بوريس جونسون - المحسوب على يمين حزبه - «تحقيق الخروج من الاتحاد الأوروبي الشعار الرئيسي لحملته الانتخابية»، في حين تعهد منافسه المباشر، حزب العمال، للناخبين بإجراء استفتاء جديد بشأن «بريكست»، مرسلاً إشارات خجولة إلى أنه يفضّل البقاء في الاتحاد.
من ناحية أخرى، تسعى سوينسون إلى تقديم نفسها للناخبين كوجهٍ جديد، غير معروف لدى كثيرين، يطرح نهجاً وسطياً وعقلانياً مختلفاً عن الحزبين التقليديين في وضوحه تجاه قضايا مثل «بريكست»، ونظام الرعاية الصحية، ومواجهة تحديات التغيّر المناخي.
وتوافقاً مع هذا النهج، اعترفت سوينسون بما اعتبرته «أخطاء» الحزب السابقة، خصوصاً تلك التي ارتكبها بمشاركته في حكومة المحافظين برئاسة كاميرون عام 2010. ولقد أدت مشاركته تلك إلى تعرّض الحزب لهزيمة قاسية في انتخابات 2015، تراجع معها عدد مقاعد الحزب من 57 إلى 8 مقاعد فقط. كذلك، عبّرت عن أسفها لدعم الحزب سياسات اعتبرها البعض تقشّفية، وتغييرات في نظام الرعاية الصحية، وضريبة إضافية على السكن.
واليوم، تأمل سوينسون في إحداث قطيعة مع أخطاء الماضي، وإعادة تعريف الحزب وتوجّهاته ومبادئه، واختارت قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كقضية محورية لتحقيق ذلك.
وفي دعوة حزبها إلى إلغاء مادة 50 من «معاهدة لشبونة»، التي أطلقت عملية «بريكست» رسمياً، تضاعف عدد «الديمقراطيين الأحرار» في الساحة السياسية، وأصبحوا فعلياً «حزب البقاء في أوروبا». وبذا، نجح الحزب حيث فشل آخرون، مثل حزب «التغيير» الذي وُلد من رحم انشقاقات من الحزبين الأساسيين (المحافظون والعمال) لكنه لم يستمرّ سوى بضعة أشهر، ليعلن غالبية أعضائه الانضمام إلى «الديمقراطيين الأحرار».
وفي حين يُحسب هذا الإنجاز لحزب سوينسون، الذي نال المرتبة الثالثة في استطلاعات رأي حديثة، فإن فوزه بغالبية المقاعد مستبعد للغاية، إن لم يكن مستحيلاً. ونقلت صحيفة «الفاينانشال تايمز» أخيراً عن مصادر مقرّبة من دوائر القرار في الحزب، أن قيادييه يُدركون أن الفوز بـ45 مقعداً سيُعدّ انتصاراً بارزاً، يعيد الحزب إلى الحسابات السياسية الدائرة في مجلس العموم. خصوصاً وأن الحزب، رغم تعافيه النسبي من نتيجة تحالفه الكارثي مع المحافظين، لم يحصل إلا على 12 مقعداً في انتخابات 2017 المبكّرة التي دعت إليها تيريزا ماي.
في أي حال، في حال أفضت الانتخابات المبكرة إلى «سيناريو» البرلمان المعلّق - أي من دون غالبية مطلق لأي حزب - كما تتوقع استطلاعات الرأي، واستعاد «الديمقراطيون الأحرار» المقاعد التي خسروها بعد 2010، فإن سوينسون قد تصبح «صانعة القادة» الجديدة... وتحدّد هوية ساكن «10 داونينغ ستريت» الجديد.

تهديد للمقاعد «العمالية»
على مدار الأسابيع الخمسة المقبلة، يأمل «الديمقراطيون الأحرار» في الفوز بأصوات ناخبين يبحثون عن الوسطية، وسط أجواء سياسية مشحونة بين سعي جونسون إلى خروج «قاسٍ» لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبرنامج غريمه العمالي جيريمي كوربن، الذي يوازيه وربما يبزّه في «راديكاليته»... ولكن يساراً.
وعلى الرغم من أن التوقعات، حتى اللحظة، لا ترقى لطموح سوينسون بالفوز برئاسة الوزراء، فإن «الديمقراطيين الأحرار» قد يجدون أنفسهم في موقع قوة في 12 ديسمبر (كانون الأول) المقبل (تاريخ الانتخابات التشريعية المقبلة). والواضح أن حملة سوينسون تركّز على انتزاع مقاعد «عمالية» في المناطق التي صوّتت للبقاء في الاتحاد الأوروبي، واستغلال غضب بعض المعاقل «العمالية» التقليدية من نهج كوربن المتردد حيال «بريكست». ومعلوم أنه منذ أصبح كوربن داعماً لتنظيم استفتاء ثانٍ على الخروج من الاتحاد الأوروبي، تحت ضغوط من داخل حزبه، فإنه رفض تحديد ما إذا كان سيدعم الخروج أو البقاء.
في المقابل، فإن سوينسون تراهن على أن موقف حزبها كان متماسكاً منذ البداية، وأنه لم يتخلَّ أبداً عن تأييده للاستفتاء وللبقاء في الاتحاد الأوروبي. إلى ذلك، فإن «الديمقراطيين الأحرار» يراهنون على الفوز بتأييد بعض المحافظين، المعارضين لـ«بريكست»، إلا أن فرص حصول ذلك تبقى ضئيلة.
وفي مقابل هذا التفاؤل، اعتبر أنتوني ويلز، مدير الأبحاث في مؤسسة الاستطلاعات «يوغوف»، أن تحقيق «تقدم حقيقي» يشكل تحدياً كبيراً لـ«الديمقراطيين الأحرار». وهو رأي كرّره بعض المراقبين السياسيين، الذين أعربوا عن مخاوف من أن الحزب حدّ من جاذبيته لناخبي المناطق خارج العاصمة لندن (التي صوتت لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي)، بدعوته الصريحة لنقض الخروج من الاتحاد الأوروبي.
في المقابل، يشكك البعض الآخر في معارضة «الديمقراطيين الأحرار» للحكومة الحالية، ومن هؤلاء نيكولا ستورجن، وزيرة أسكوتلندا الأولى والزعيمة القومية الأسكوتلندية، التي وصفتهم أمس بـ«حزب ويسمنستر»، لا حزب «معارضة بريكست».
بدوره، قال نيل باريش، وهو نائب محافظ، إن مواقف «الديمقراطيين الأحرار» ضمنت له مقعده في البرلمان. وتابع في تصريحات صحافية: «قد تنجح (استراتيجيتهم) في أجزاء من لندن، لكنها لن تنجح خارجها»، في إشارة إلى أجزاء كثيرة جنوب غربي إنجلترا. ثم أردف: «إن الناس يريدون فقط الخروج من الاتحاد الأوروبي».

التصويت التكتيكي
ولكن، في محاولة لمواجهة نقاط ضعفهم، يدعو مرشحون من «الديمقراطيين الأحرار»، الناخبين، إلى «التصويت تكتيكياً» لقطع الطريق أمام عودة المحافظين، مع أن معارضة سوينسون الشديدة والصريحة لزعيم حزب العمال كوربن، وسياساته، قد تعيق نجاح هذه الاستراتيجية.
ويرى الكاتب السياسي مارتن كيتل، في هذا السياق، أن حزب سوينسون لن ينجح في تعزيز عودته إلى الساحة السياسية سوى عن طريق انتخاب المزيد من نواب داخل البرلمان. ولن يحدث ذلك في نظره، إلا إذا كان هناك «نوع من الاقتراع التكتيكي في الانتخابات العامة المقبلة، شبيه بالذي ساعد بادي آشداون، الزعيم الأسبق للحزب، على زيادة عدد النواب الديمقراطيين الأحرار عام 1997 بأكثر من الضعفين». ويضيف: «أدرك الناخبون التقدميون آنذاك أنه قاد حزباً يمكنه العمل مع حزب توني بلير». بيد أن كيتل استدرك في مقال رأي نشره في صحيفة «الغارديان» فقال: «على النقيض من ذلك، تواجه سوينسون حالياً علاقة أكثر صعوبة مع قيادة حزب العمال الحالية التي لا يدعمها الكثير من مؤيدي الديمقراطيين الأحرار. ومع ذلك، ما لم تتمكن من جعل هذه العلاقة ناجحة، سيكون هناك فائز واحد فقط، ولن يكون الحزب الديمقراطي الحر».
في المقابل، وبينما ترفض سوينسون دعم كوربن، فإنها تسعى إلى التقرّب من الأحزاب المعارضة الأخرى. وحقاً، أعلنت أصغر ثلاثة أحزاب في بريطانيا، أول من أمس، اتفاقاً انتخابياً في محاولة لجذب المزيد من النواب البرلمانيين الذين يفضلون البقاء في الاتحاد الأوروبي.
وانضم «الديمقراطيون الأحرار» إلى حزب «الخضر» البيئي و«الحزب القومي الويلزي»، في اتفاق تعاون للحصول على 60 مقعداً من أصل الـ650 مقعداً في البرلمان في الانتخابات المقبلة، ما يعني أن مرشحاً واحداً فقط سيمثل الأحزاب الثلاثة عن كل دائرة انتخابية تخوضها، كما نقلت وكالة الأنباء الألمانية.
وعلقت جو سوينسون، في تغريدة، على الاتفاق بالقول «أنا سعيدة لأننا استطعنا إعلان هذا الترتيب للتأكد من أننا سنحصل على أكبر عدد ممكن من النواب المؤيدين للبقاء في الاتحاد الأوروبي».
وأضافت: «مستقبلنا الأكثر إشراقاً سنصنعه بالعمل معاً، وبالتالي، يمكننا الاتحاد للبقاء (في التكتل الأوروبي)».
بدوره، قال حزب «الخضر» إن الاتفاقية ستسمح له «بالتنافس على 10 مقاعد في إنجلترا وويلز». وأفاد الزعيم المشارك للحزب جوناثان بارتلي، في بيان، بأن «هذا يتمحور حول إدراك كم سيكون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مضراً - للأفراد وللبيئة - وضمان أن يكون هناك أكبر عدد ممكن من الأحزاب المنادية بالبقاء في البرلمان المقبل قدر المستطاع». ومن جهته، أكد آدم برايس زعيم «القوميين الويلزيين»، أن حزبه «سيولي أولوية لمصلحة ويلز الوطنية، وينحي السياسات الحزبية جانباً، للحصول على دعم أكبر عدد ممكن من النواب من الأحزاب المؤيدة للبقاء في الاتحاد الأوروبي في هذه الانتخابات الحاسمة».
وعلى أي حال، ستكشف الأسابيع القليلة المقبلة ما إذا كان رهان سوينسون ناجحاً، وما إذا كان حزبها سينهي عقوداً من «الثنائية الحزبية»، ويرجح كفة البرلمان لصالح دعم استفتاء جديد يفضي إلى البقاء في الاتحاد الأوروبي.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».