تحقيق: بقاء أميركا لـ«حماية النفط السوري» يُربك الحلفاء ويُريح الأعداء

دول التحالف الدولي ضد «داعش» تتساءل عن مبررات المساهمة العسكرية

تحقيق: بقاء أميركا لـ«حماية النفط السوري» يُربك الحلفاء ويُريح الأعداء
TT

تحقيق: بقاء أميركا لـ«حماية النفط السوري» يُربك الحلفاء ويُريح الأعداء

تحقيق: بقاء أميركا لـ«حماية النفط السوري» يُربك الحلفاء ويُريح الأعداء

استطاع حلفاء واشنطن ومستشارو الرئيس الأميركي دونالد ترمب «تطويع» محاولته الثالثة لـ«الانسحاب العسكري الكامل» من شمال شرقي سوريا، عبر تقديم مبرر جديد، هو منع سقوط حقول النفط والغاز في أيدي «داعش»، لكن هذا المبرر أدخل المشاورات داخل المؤسسات الأميركية والاتصالات الدبلوماسية بين واشنطن والحلفاء ضمن إشكالية «عدم توفر الشرعية القانونية» للمساهمة العسكرية في التحالف الدولي، شرق سوريا، في وقت أعطى فيه ذخيرة مريحة لخصوم واشنطن. الذين سعوا للدخول الى الرقة «عاصمة» تنظيم «داعش».
كان الرئيس ترمب قرر، الشهر الماضي، سحب عشرات من القوات الأميركية من قرب الحدود السورية - التركية، ما فتح الباب لشن الجيش التركي وفصائل موالية عملية «نبع السلام» بين تل أبيض ورأس العين، شرق نهر الفرات. كما أعطى ترمب الضوء الأخضر لوزارة الدفاع (البنتاغون) لسحب باقي القوات التي تُقدَّر بـ1200 جندي، إضافة إلى ألف آخر من الدول الأوروبية الحليفة.
ومع أن المستشارين الأميركيين والمسؤولين الأوروبيين كانوا دائماً يقولون إن ترمب قد يغرد على موقع «تويتر»، في أي لحظة عن قراره بسحب القوات الأميركية، فإن اتخاذ القرار كان له وقع المفاجأة على الجيش الأميركي والدبلوماسيين في واشنطن والعواصم الأوروبية، كما أنه ترك شعوراً بـ«الخيانة» لدى «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية - العربية التي دحرت مع التحالف، تنظيم «داعش»، إضافة إلى أن أطلق سباقاً روسياً - تركياً - سورياً لملء الفراغ الأميركي.
وأبرمت «قوات سوريا الديمقراطية»، برعاية روسية، اتفاقاً مع الحكومة السورية سمح بنشر الجيش والأمن والشرطة، ورفع العلم الرسمي السوري في مناطق سيطرتها، ومنبج وعين العرب (كوباني)، وعودة الخدمات ورموز الدولة، وتأجيل التفاوض السياسي حول مستقبل الإدارة الذاتية.

كما أبرمت أنقرة اتفاقاً مع موسكو «شرعن» الوجود التركي في «نبع السلام» بين تل أبيض ورأس العين بعمق 32 كلم، وسمح بنشر حرس الحدود السوري في المناطق غير المشمولة في هذا الجيب. كما أجاز تسيير دوريات روسية - تركية بعمق 10 كلم، وإبعاد «وحدات حماية الشعب» الكردية بعمق 30 كلم بعيداً من الحدود.
في موازاة ذلك، كان النقاش مكثفاً في واشنطن سواء المؤسسات التنفيذية أو في «الكونغرس»، أو في العواصم الأوروبية الشريكة عسكرياً في التحالف الدولي. حملة الإقناع على ترمب كانت ترمي إلى «عدم التخلي عن الأكراد والبحث عن مبرر للبقاء العسكري». قيل بداية إن السبب هو مواجهة إيران وروسيا والضغط على دمشق، إلى أن استقر الرأي على «حماية النفط ومنع سقوطه بأيدي (داعش) من شرق سوريا»، وليس من غرب العراق، كما اقترح.
وقال وزير الدفاع مارك إسبر إن الهدف هو «منع (داعش) وغيره من اللاعبين في المنطقة» من الوصول إليه. ولم يحدد إسبر «اللاعبين الآخرين» الذين كان يتطرق لهم، فيما لم يوضح أي مسؤول في «البنتاغون»، إن كان يقصد النظام السوري وروسيا. وكان مقرراً أن يقدم إسبر، الجمعة الماضي، مقترحات إلى ترمب حول العدد الفعلي للقوات الأميركية التي ستبقى قرب حقول النفط والغاز. وبحسب قول مسؤول غربي لـ«الشرق الأوسط»، فإن ترمب حسم أمره وقرر الاحتفاظ بقوات لحماية النفط إذ يجري الحديث عن العناصر الآتية:
1- نشر 700 جندي أميركي وعشرات العربات والمدرعات الأميركية (التي أُرسلت لأول مرة ولم تُستعمل خلال الحرب ضد «داعش») قرب منشآت النفط والغاز في محاذاة حدود العراق من البوكمال جنوباً إلى فش خابور شمال شرقي سوريا.
2- الإبقاء على الحماية الجوية.
3- الإبقاء على التنسيق مع «قوات سوريا الديمقراطية» لمحاربة خلايا «داعش».
4- الاحتفاظ بـ150 جندياً في قاعدة التنف في الزاوية السورية - الأردنية - العراقية.
5- الطلب من الدول الحليفة التعويض عن سحب بعض الأميركيين والمساهمة في حماية حقول النفط والغاز.
6- قبول انتشار حرس الحدود السوريين على الحدود مع تركيا.
7- دعم موقف «قوات سوريا الديمقراطية» في التفاوض مع دمشق بضمانة موسكو.
لذلك، حسب المسؤول الغربي، لم تمانع واشنطن قيام قائد «قوات سوريا الديمقراطية» مظلوم عبدي، وقائد «وحدات حماية الشعب» الكردية، سبان حمو، بزيارات إلى دمشق والقاعدة الروسية في حميميم، حيث تمسَّك الجانب الحكومي السوري بـنشر الجيش والشرطة والأمن والعلم الرسمي ورموز الدولة في جميع المناطق، وترك الحوار السياسي إلى مرحلة لاحقة.
لكن قرار ترمب بحماية حقول النفط في محافظة دير الزور، حمل وزارة الدفاع الأميركية على إرسال تعزيزات إلى تلك المنطقة، في وقت ابتعد فيه الجنود الأميركيون عن المناطق القريبة من الحدود السورية - التركية. وبدأت التعزيزات بالوصول إلى دير الزور، بينما أُرسل بعض الجنود إلى الشمال للمساعدة في تأمين عملية الانسحاب من تلك المنطقة، كما نُقل البعض الآخر من سوريا إلى شمال العراق. لكن بالمجمل، لم يتغيّر بشكل كبير عدد الجنود الأميركيين عمّا كان عليه قبل إعلان الانسحاب في منتصف أكتوبر (تشرين الأول). وقال المسؤول الغربي: «لا يزال العدد عند أقل من ألف. حصل انسحاب وتعزيز إرسال المعدات والآليات».
وإذ نشر الجيش الأميركي مدرعاته وآلياته قرب منشآت النفط والغاز، عاد قبل أيام إلى تسيير دوريات شرق القامشلي، ذات البعد الرمزي للأكراد، لإعطاء الانطباع بأن «واشنطن لم تخُن الأكراد»، حسب المسؤول الغربي (تركيا وروسيا سيرتا دوريات في الدرباسية غرب القامشلي). وقال المسؤول: «أسهل طريقة لإقناع ترمب كانت القول له بضرورة تعزيز الوجود العسكري لمنع سقوط النفط بأيدي (داعش). لكن هناك إدراكاً بأن النفط السوري قليل واستثماره يتطلب كثيراً من الموارد وسط وجود عقبات قانونية: هل هذا كافٍ لمنع الحكومة من السيطرة عليها؟ كيف يمكن تصدير النفط؟ إلى مَن؟ هل يمكن استمرار القبول بالتعامل بين الإدارة الكردية والحكومة السورية لتوفير موارد مالية للإدارة؟».
لكن السؤال الأساسي في «البنتاغون»: أن الوجود الحالي كان ضمن تشريعات صدرت بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2011، بملاحقة «القاعدة» وحماية الأمن القومي الأميركي، ما سمح بقتال «داعش»، لكن كيف يمكن الحصول على التبرير القانوني بـ«حماية النفط»؟ وفي حال هاجمت قوات الحكومة السورية أو روسيا المنشآت، ما الأرضية القانونية للعمل العسكري الأميركي، عدا «الدفاع عن النفس»؟
لا تزال مسألة قانونية العملية الأميركية لحراسة حقول النفط موضع نقاش حتى داخل «البنتاغون». كما أن دولاً أوروبياً متحفظة على المشاركة في نشر قواتها الخاصة بسبب العقبات القانونية، لأن وجود القوات البريطانية والفرنسية قائم على محاربة «داعش»، وليس حماية النفط. يُضاف إلى ذلك، أن «حجة النفط عززت نظرية المؤامرة في أن التدخل الأميركي لأسباب اقتصادية وليست أخلاقية، ما أضاف ذخيرة لموسكو ودمشق وأنقرة وطهران التي تشكك بأهداف وشرعية الوجود الأميركي»، بحسب المسؤول الغربي.
وطُرِحت بعض هذه الأسئلة خلال اجتماع تلفزيوني، الأسبوع الماضي، للنواة الصلبة لكبار موظفي دول التحالف ضد «داعش»، لكن الاجتماع الوزاري للتحالف في واشنطن، 14 من الشهر الحالي، سيركز على تقديم إجابات عن أسئلة شرعية الوجود العسكري بعد هزيمة «داعش» جغرافياً، ومدى شرعية المساهمة في «حماية النفط»، إضافة إلى تناول مستقبل التنظيم بعد القضاء على زعيمه أبو بكر البغدادي الذي انتقلت «عاصمته» السابق من ايدي حلفاء واشنطن الى حلفاء موسكو.

- موسكو تستعد لـ«مواجهة طويلة» مع واشنطن شرق الفرات
- موسكو: رائد جبر
لم تخفِ أوساط روسية خلال كل المراحل التي سبقت التوصل إلى اتفاق سوتشي بين موسكو وأنقرة حول الوضع في المناطق الحدودية مع تركيا، أن قلقها الأساسي يتركز على الوجود الأميركي في مناطق غنية بالنفط.
راقبت موسكو بحذر المفاوضات التركية - الأميركية، حول «المنطقة الآمنة» في الشمال السوري، قبل أن تدخل على الخط لقلب المعادلات من خلال طرح خطتها للوضع على الشريط الحدودي. لكنها في الوقت ذاته، واصلت التشكيك بنيات واشنطن خلال وبعد إعلان الأخيرة عن سحب جزء من قواتها من المنطقة. وسرعان ما اتضح أن الموقف الروسي لم يأتِ من فراغ. وعلى الرغم من المكاسب السياسية التي حققتها موسكو عبر اتفاق سوتشي، ونجاحها في تغيير خرائط النفوذ في مناطق الشمال، وتوسيع رقعة سيطرة القوات الحكومية قرب المنطقة الحدودية، فضلاً عن حصر التوغل التركي في الأراضي السورية في منطقة محدودة، لكن في مقابل هذه الإنجازات، وُجدت موسكو عاجزة عن التحكم في رقعة شاسعة تضم الجزء الأعظم من مخزون سوريا من النفط والغاز. وجاء الإعلان عن خطط واشنطن لتعزيز الوجود العسكري في مناطق شرق الفرات عبر إقامة قاعدتين عسكريتين جديدتين وزج قوات وآليات، ليطلق رد فعل روسياً غاضباً برز من خلال استخدام لهجة لم يسبق لموسكو أن تعاملت بها في خطابها السياسي، إذ اتهمت وزارة الدفاع الروسية واشنطن بـ«سرقة» الثروات السورية، ووصفت الأميركيين بأنهم «قطّاع طرق على مستوى دولي».
ونشرت الوزارة خرائط وصوراً تُبرز مسارات «تهريب النفط السوري» برعاية عسكرية أميركية. بينما أطلقت الخارجية الروسية حملة قوية أعلنت من خلالها أن «الوجود الأميركي في هذه المنطقة أمر لا يمكن القبول به» في إشارة إلى تصعيد نشاط دبلوماسي وعسكري لعرقلة خطط واشنطن بتثبيت هذا الوجود، وهو أمر عبّر عنه بوضوح وزير الخارجية سيرغي لافروف، عندما قال إن بلاده «لن تقبل بالوجود غير الشرعي للولايات المتحدة في مناطق الشرق السوري وسوف تدافع عن موقفها».
ويرى خبراء روس أن وراء الحملة الروسية على تحركات واشنطن تكمن مخاوف جدية لدى موسكو، من أن تصرفات واشنطن ستعرقل نهج التسوية السياسية الذي سعت موسكو طويلاً لفرضه عبر مسار آستانة وعبر إطلاق عمل اللجنة الدستورية بعد مخاض عسير، والأهم من ذلك، عبر التفاهمات الروسية - التركية التي وضعت آلية مشتركة رأت فيها موسكو نقطة انطلاق لحسم الملفات العسكرية والأمنية العالقة تمهيداً لتعزيز مسار سياسي يستند عموماً إلى القرار 2254 لكنه لا يقوم على تطبيق دقيق لكل بنوده، بل يعكس موازين القوى التي عملت موسكو على تكريسها خلال سنوات.
بهذا المعنى، فإن تعزيز الوجود الأميركي في شرق الفرات، يحبط فكرة توسيع رقعة سيطرة الحكومة السورية على الجزء الأعظم من الأراضي، ويمنح الولايات المتحدة وحلفاءها ورقة ضغط قوية، ويشكل تهديداً دائماً للرؤية الروسية للتسوية النهائية.
أما في البعد الاقتصادي، فإن سيطرة واشنطن على الخزان النفطي لسوريا، يُسقط من يد موسكو أهم عناصر الدفع نحو إطلاق مشروع دولي لإعادة الإعمار في سوريا، ويقطع الطريق على الشركات الروسية الكبرى التي تطلعت طويلاً لحصة مهمة من الكعكة السورية.
في المحصلة، كما أشار خبير روسي مرموق، فإن موسكو تكون «نجحت في حماية الدولة السورية وعرقلت كل المشروعات التي سعت لإسقاطها أو تفكيكها، لكنها حصلت في النتيجة على كيان يقوم على أكثر بقليل من ثلثي الأراضي لكنه متهالك ويفتقر للاعتراف الدولي الواسع، وأكثر من ذلك أنه بحاجة إلى مساعدات متواصلة، لا تبدو روسيا والصين وإيران وبعض البلدان القريبة من نهج موسكو قادرة على تقديمها دائماً».
راهنت موسكو على أن السجالات الداخلية في واشنطن قد تعلب دوراً لصالحها خصوصاً أمام إصرار الرئيس دونالد ترمب على الدفاع عن مواقفه بالانسحاب من المنطقة، قبل حلول موعد الانتخابات المقبلة، لكن التطورات اللاحقة أثبتت عدم جدوى الرهان الروسي، وهذا يفسّر إعراب الوزير لافروف اللافت أخيراً، عن تشاؤم في إمكانية التوصل إلى اتفاقات مع الولايات المتحدة بخصوص الوضع في شمال شرقي سوريا. وقال الوزير إنه ليس لديه شعور بأن «الاتفاق مع الولايات المتحدة على أي شيء وارد في هذه المرحلة». وأعادت هذه العبارة التذكير بإعلان موسكو عزمها تصعيد تحركاتها ضد تعزيز الوجود الأميركي في شرق سوريا في إطار المؤسسات الدولية عبر الانطلاق من «عدم شرعية الوجود» وأيضاً في إطار النشاط الميداني على الأرض، وفي هذا الاتجاه تواصل موسكو مساعيها لإقناع الأكراد بتوسيع قنوات الحوار مع دمشق، بهدف التوصل إلى تفاهمات على حساب التحالف القائم مع واشنطن، والذي تعرض لهزة قوية بعد قرار الانسحاب من منطقة العمليات العسكرية التركية.
ورغم تعالي أصوات برزت من خلال تعليقات أو مقالات تدعو إلى تعزيز التوجه الروسي لمواجهة خطط واشنطن في المنطقة من خلال دعم تحركات عسكرية قد تقوم بها القوات الحكومية أو قوات داعمة لها لتوسيع رقعة سيطرتها في بعض مناطق شرق الفرات، يبدو هذا محفوفاً بالمخاطر، إذ لا ترغب موسكو في استفزاز مواجهة عسكرية مع القوات الأميركية أو المكون الكردي. وهو أمر فضلاً عن كونه لا يمكن التنبؤ بعواقبه لجهة أنه يقوّض إعلان موسكو عن انتهاء العمليات العسكرية والانتقال إلى المسار السياسي، فهو في الوقت ذاته يعيد إلى الأذهان المواجهات السابقة التي تعرضت فيها موسكو لضربة موجعة.
ويكفي إيراد أن المواجهة الوحيدة في سوريا التي سقط فيها مئات القتلى والجرحى من الروس على أيدي القوات الأميركية كانت بسبب محاولة وحدات من الجيش السوري ترافقها مجموعات «جيش فاغنر» التقدم نحو مواقع نفطية في منطقة خشام قرب دير الزور. وقع ذلك في فبراير (شباط) من العام الماضي، وأشارت مصادر روسية إلى أن «جيش فاغنر» خسر 217 من مسلحيه الذين قُتلوا تحت قصف مركّز من جانب الطائرات الأميركية. وتجنبت موسكو حينها تصعيد الموقف.
وقد يكون تذكير وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر أخيراً بأن القوات الأميركية ستقوم بـ«حماية» الحقول النفطية إشارة واضحة. لذلك ترى أوساط روسية أن موسكو ستتجنب في الغالب تصعيداً عسكرياً لكنها تستعد لـ«مواجهة طويلة وصعبة» مع واشنطن في هذه المنطقة.

- كيف تبدلت القوى المسيطرة على مصادر الطاقة السورية خلال السنوات الأخيرة؟
- القامشلي: كمال شيخو
في حقل العمر النفطي الذي يقع على بعد 50 كيلومتراً شرق مدينة دير الزور، توجد خزانات ضخمة تحولت إلى قطع متفحمة وصدئة. أنابيب مهترئة تناثرت على الأرض، ومصافٍ منهارة، في حين المباني كانت شبه مدمرة جراء المعارك.
منذ خروج أكبر حقول النفط في سوريا عن سيطرة النظام في نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، وسقوطه في قبضة «داعش» صيف 2014، حتى انتزاعها على يد «قوات سوريا الديمقراطية» العربية - الكردية والمدعومة من تحالف دولي تقوده واشنطن نهاية 2017، بقيت المنشأة على حالها والعمر كان ينتج أكثر من 90 ألف برميل يومياً قبل النزاع الدائر في البلاد 2011.
في حقل التنك المجاور الذي يبعد 32 كيلومتراً شرقي منشأة العمر النفطية، وكان يعد ثاني أكبر الحقول من حيث الإنتاج، لا يختلف المشهد كثيراً عن العمر. فبسبب المعارك الدائرة داخله وبجواره، تحول المكان إلى أكوام من الخردة وجبال من الركام والخراب وبقايا صهاريج وخزانات وأنابيب وآبار كانت تنتج في يومٍ ما 40 ألف برميل من النفط الخام، وتمركزت القوات الأميركية في هذه الحقول وأعادت انتشار جنودها لحمايتها.
شمالاً، وفي مدينة الحسكة، وتحديداً بمحاذاة الحدود مع تركيا، تجوب دوريات أميركية الطريق الدولية الواصلة بين مدينة رميلان النفطية، والقامشلي الواقعة أقصى شمال شرقي سوريا، تتفقد حقول النفط بعد إعلانها الإبقاء على قواتها لحماية هذه المنشآت من التهديدات التركية المتصاعدة.
وباتت «قوات سوريا الديمقراطية» تبسط سيطرتها على نحو 85 في المائة من الثروة النفطية في بلد مزقته نيران الحرب، إضافة إلى 45 في المائة من إنتاج الغاز الطبيعي؛ الأمر الذي قد يفتح فصلاً جديداً من الحروب بين أطراف النزاع في سوريا، المحلية منها والإقليمية والدولية المتصارعة على الأرض السورية.
في مارس (آذار) من عام 2013، تمكنت «وحدات حماية الشعب» الكردية من طرد «جبهة النصرة» (التي أصبحت لاحقاً باسم «هيئة تحرير الشام») وفصائل سورية مقاتلة، من حقول النفط في بلدة رميلان الواقعة على بعد 165 كيلومتراً شمال شرقي الحسكة و65 كيلو شرقي مدينة القامشلي، وبعد إعلان الإدارة الذاتية الكردية بنهاية العام نفسه، وضعت يدها على الحقول وبدأ كوادرها استثمار النفط، أما موظفو مديرية حقول الرميلان التابعة لوزارة النفط الحكومية وكان يقدر عددهم آنذاك بنحو 5500 عامل وموظف، فعاد قسم إلى مسقط رأسه وهاجر آخرون خارج البلاد، لكن القسم الأكبر بقي في عمله، بحسب مسؤول كردي بارز في الإدارة الذاتية.
وقبل 2011 كانت تنتج حقول الرميلان 90 ألف برميل يومياً، ويقدر خبراء في اقتصاديات الطاقة والنفط عدد الآبار النفطية التابعة لها بنحو 1322 بئراً، أما حقول السويدية المجاورة فتنتج 116 ألف برميل يومياً، كما توجد 25 بئراً من الغاز الطبيعي في هذه الحقول، في حين كانت تصل إنتاجية حقول الشدادي والجبسة والهول إلى 30 ألف برميل في اليوم، ونحو مليون وربع متر مكعب من الغاز.
ويقول المسؤول الكردي، إن كميات الإنتاج اختلفت عما كانت عليه سابقاً، «بداية 2014 كنا نستثمر 200 بئراً نفطية من أصل 1320، لغياب الخبراء والفنيين وقطع التبديل والغيار التي كانت تأتي من العاصمة دمشق»، وكانت بالكاد تغطي احتياجات السوق المحلية، لكن مع بداية عام 2015 وسعت الهيئة أنشطتها وضمت حقولاً جديدة، ووصل عددها لأكثر من 400 بئر وحقل نفطي، وكان يصل إنتاجها إلى ما يزيد على 30 ألف برميل نفط يومياً، وأكثر من مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي، وبلغت عائداتها إلى أكثر من 10 ملايين دولار شهرياً.
وتغيرت خريطة السيطرة على النفط بسوريا مع بداية عام 2016، بعدما انتزعت «قوات سوريا الديمقراطية» مدن وبلدات الشدادي والهول والجبسة جنوب شرقي مدينة الحسكة من قبضة عناصر تنظيم «داعش»، ليتجاوز الإنتاج 50 ألف برميل نفط ونحو مليون ونصف المليون من الغاز يومياً، وبحسب خبراء تصل عائداتها المالية لأكثر من 25 مليون دولار أميركي، يذهب الجزء الأكبر لتغطية رواتب نحو نصف مليون موظف يعملون في 7 إدارات ذاتية، وهي هياكل حكم تدير مناطق شرق الفرات، وقوات عسكرية قوامها 60 ألف مقاتل.
وعُقدت اتفاقية بين ثلاث جهات سورية محلية، تمثلت الأولى بالحكومة السورية التي أوعزت إلى موظفيها والخبراء الفنيين والتقنيين بالعودة إلى عملهم، والثانية العشائر العربية، أبرزها قبيلة شمر العربية المتحالفة مع الوحدات الكردية، في حين استولت الجهة الثالثة المتمثلة بالوحدات والإدارة الذاتية السيطرة على حقول النفط، ونص الاتفاق على بقاء النفط ثروة وطنية حقاً لكل السوريين، وإفساح المجال لسلطات الإدارة الكردية بوضع يدها على أبرز الموارد الاقتصادية بالمنطقة، لقاء تقاسم توزيع عادل لثرواتها المالية.
ولفت المسؤول الكردي، إلى أن أبرز بنود وثيقة العقد الاجتماعي الخاصة بالإدارة الذاتية: «يعد النفط والغاز ثروة وطنية سورية ملكاً لكل السوريين، وتوزعيه بشكل عادل، وكان من بين أبرز المطالب التي تفاوضت عليها الإدارة ومسؤولو (قسد) مع الحكومة السورية»، في إشارة إلى التفاهم بين دمشق والقامشلي.
ولم يكشف المسؤول الكردي كميات الإنتاج في حقول الحسكة أو إيراداتها المالية، لكنه أكد بأنها تغطي احتياجات مناطق شرق الفرات والتي تشكل ثلث مساحة سوريا.
75% من الاحتياط الاستراتيجي في دير الزور
منذ نهاية 2012، وبسبب المعارك الدائرة شرقي الفرات، توقّف ضخ النفط عبر محطة تل عدس من حقول الحسكة إلى مصفاتي حمص وبانياس، وبعد ثماني سنوات من الحروب المستمرة تصدر قطاع النفط الأكثر تضرراً، وقدرت وزارة النفط بالحكومة السورية خسائرها بأكثر من 62 مليار دولار.
كما انخفض إنتاج النفط في سوريا بنسبة 96 في المائة في عام 2014 إلى 9329 برميلاً يومياً، بعد سيطرة تنظيم «داعش» على مدينتي دير الزور شرقاً، والرقة شمالاً، حيث كان يجني منها نحو 40 مليون دولار شهرياً في ذروة قوته سنة 2015 بحسب وزارة الخزانة الأميركية.
ويُقدر خبراء اقتصاديون، أن إجمالي الاحتياطي النفطي الاستراتيجي في سوريا يبلغ نحو 300 مليار برميل، يتوزع 75 في المائة من هذه الاحتياطيات في الحقول المحيطة بمحافظة دير الزور شرقي سوريا.
والى جانب حقلي العمر والتنك، توجد حقول الورد والتيم ومحطة (T2) والجفرة، وعفرا وكوري وجرنوف وأزرق وقهار وشعيطاط وغلبان، وتقع جميعها شرقي نهر الفرات ببادية الجزيرة، كانت تنتج قبل 2011 نحو 200 ألف برميل نفط يومياً، أما اليوم فلا يتجاوز إنتاجها 25 ألف برميل يومياً في أحسن الأحوال، بينما يعد حقل غاز كونوكو أكبر حقول الغاز الطبيعي في سوريا، وكان ينتج نحو 10 ملايين متر مكعب يومياً من الغاز.



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.