عندما تتفتح الورود شتاء

المفترض فيها حالياً أن تبدو نسوية أكثر منها أنثوية

«فالنتينو» (هوت كوتور خريف وشتاء 2020)   ... وعرض آخر لـ «فالنتينو»  -  من اقتراحات ريتشارد كوين للموسم المقبل
«فالنتينو» (هوت كوتور خريف وشتاء 2020) ... وعرض آخر لـ «فالنتينو» - من اقتراحات ريتشارد كوين للموسم المقبل
TT

عندما تتفتح الورود شتاء

«فالنتينو» (هوت كوتور خريف وشتاء 2020)   ... وعرض آخر لـ «فالنتينو»  -  من اقتراحات ريتشارد كوين للموسم المقبل
«فالنتينو» (هوت كوتور خريف وشتاء 2020) ... وعرض آخر لـ «فالنتينو» - من اقتراحات ريتشارد كوين للموسم المقبل

لعل كثير منا يتذكر ردة فعل النجمة ميريل ستريب، في فيلم «الشيطان يلبس برادا»، وهي تنتقد بسخرية اقتراح إحدى الخبيرات عن موضة الورود، قائلة: «ورود؟ وفي فصل الربيع؟ يا لها من فكرة ثورية». ردة فعلها مفهومة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذه الموضة تظهر دائماً في موسمي الربيع والصيف. لو قيل لميريل ستريب (التي كانت تُجسد شخصية أنا وينتور، رئيسة تحرير مجلة «فوغ» النسخة الأميركية، في الفيلم آنذاك) إنها لفصل الشتاء، لكانت ردة فعلها مختلفة تماماً. كانت ستتقبلها كفكرة تخض المتعارف عليه حينذاك، بأن هذه الموضة حكر على الربيع والصيف. فهذا هذا هو دور الموضة: أن تبحث عن أفكار جديدة. وإن لم تنجح، فعلى الأقل تُطوع القديم بشكل جديد مبتكر. وبعد صدور الفيلم بفترة، ظهرت آنا وينتور بمعاطف مطرزة بالورود، فيما يمكن اعتباره إقراراً بأن هذه الموضة لم تعد تعترف بالفصول والمواسم، ولا بالمكانة الاجتماعية. لكن هذا التوجه أخذ شكلاً جديداً هذا الموسم، حيث طالعتنا كثير من النجمات والشخصيات به. وملكة إسبانيا ليتيزيا مثلاً اعتمدته من خلال فستان سهرة مغطى بالكامل بالورود، خلال حضورها حفل تنصيب ناروهيتو إمبراطوراً لليابان.
وسواء أعجبنا بفستان الملكة أم لا، فإن الموضة قالت رأيها هذا الموسم: إن نقشات الورود حاضرة وبقوة. وكانت هناك محاولات لإيجاد مضادات تحل محلها، وتُخفف من وهجها، من دون نتيجة، فقد بينت عبر العقود أنها قد تتراجع قليلاً، إلا أنها سرعان ما تتفتح من جديد، لسبب بسيط لخصه النحات الفرنسي أوغست رودان بقوله إنها «تتحاور مع الفنانين والمُبدعين عندما تتمايل أوراقها وتتفتح بتلاتها». وفي الخمسينات من القرن الماضي، تبنى المصمم كريستيان ديور هذه الموضة، وكانت له مقولة شهيرة في هذا الصدد، مفادها أن «أجمل شيء منحه الله للعباد، بعد المرأة، هو الورود». ومنذ ذلك الوقت وهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأنوثة والرومانسية. ولا يختلف اثنان على أنها «قديمة»، لكن ليس بمعنى أن الزمن ولى عليها، ولم تعُد مواكبة للعصر، بل بمعنى أنها ازدهرت منذ قرون في الشرق الأقصى، قبل أن تتعزز في بداية القرن الماضي في أوروبا، على يد تجار الأقمشة والعطارين، لتنتقل عدواها إلى المصمم كريستيان ديور، ومنه إلى آخرين من أمثال الثنائي «فيكتور أند رولف»، والثنائي «دولشي أند غابانا»، وجيامباتيستا فالي، وغيرهم ممن لا يتوقفون عن تجديدها. ومع هؤلاء، تأخذ دائماً أبعاداً فنية ثلاثية الأبعاد، يعتمدون فيها على الأحجام والألوان تارة، وعلى الخلفيات التي تُطبع عليها تارة أخرى، ويراعون فيها تطورات العصر إلى حد أنها يمكن أن تكون قراءة لكل حقبة.
فبعد أن سوقها الراحل كريستيان ديور للعالم من خلال فساتين طويلة وتنورات مستديرة في نهاية الأربعينات والخمسينات، أدخلتها لورا آشلي في السبعينات عصراً مختلفاً، شهدت فيه إقبالاً من الكبار والصغار على حد سواء. لكن ورودها سُرعان ما تحولت إلى نقمة لأسباب كثيرة، نذكر منها ارتباطها الوثيق بأسلوب ريفي إنجليزي يعكس أسلوب طبقة معينة. ثم جاءت موجة «الهيبيز» لتمنحها إيحاءات، عبارة عن رسائل حب تُعبر عن رغبة في معانقة الآخر وثقافات بعيدة. ومع حلول حقبة الثمانينات، بدأت هذه الموضة تتراجع قليلاً، بسبب تنكر المرأة لكل ما هو رومانسي أو يشي بالأنوثة بمعناها المثير، إذ انصب اهتمام المرأة حينها على فرض نفسها في أماكن العمل، والتأكيد أنها ليست أقل من الرجل كفاءة وقدرة على إدارة الأعمال والمؤسسات الكبيرة. ولم تكن الورود سلاحا يمكنها الاعتماد عليه، مقارنة بالألوان الترابية والخطوط المستقيمة والجاكيتات ذات الكتافات الصارمة والبنطلونات الواسعة أو المستقيمة. والطريف في هذه الحقبة أن الرجل هو من تبنى هذه الموضة، من خلال قمصان «هاواي» التي روج لها نجوم السينما والتلفزيون، مثل آل باتشينو في فيلم «سكارفيس»، وتوم سيليك في السلسلة التلفزيونية «ماغنوم بي آي»، وغيرهما. ولحسن الحظ أنها كانت مجرد صرعة سرعان ما انتهت مدة صلاحيتها، وأصبحت مجرد صورة للتفكه.
أما بالنسبة للمرأة، فإن الأمر يختلف. فرغم معانقتها للتايورات والألوان الترابية، وكل ما يرفع شعار «القليل كثير»، لم تخاصم الورود كلياً، أو بالأحرى لم تستطع ذلك، لأن بيوت أزياء مهمة، مثل «ديور»، لم تتوقف عن تقديمها في تصاميم مُغرية.
وما ساعدها على الصمود أيضاً تجددها الدائم لتناسب مستجدات كل عصر تظهر فيه. فهي اليوم تختلف عن تلك التي طرحتها المصممة لورا آشلي في السبعينات من القرن الماضي. كما أن المغرق في الرومانسية منها لم يعد مناسباً بقدر ما تحول إلى مجرد صور تُلهم المصممين الجُدد. والاختلاف يكمن في أن ورود وأزهار خريف وشتاء هذا العام تتميز بالقوة والجرأة في آن واحد. تلفت الأنظار بتناقضاتها وتضارب أحجامها، لكن من دون أن تصدم العين. والجميل فيها أنها تخففت من «حلاوة» أيام زمان، واكتسبت حداثة، بدليل تشكيلات كثير من المصممين، من نيكولا غيسكيير مصمم دار «لويس فويتون»، التي ظهرت فيها بأحجام كبيرة طبعها على أقمشة عملية أكثر منها مُترفة، إلى تشكيلة بيير باولو بيكيولي مصمم دار «فالنتينو»، حيث كانت سخية في عددها وأحجامها. ولحسن الحظ أن حرفيتها العالية وتصاميمها المميزة أنقذتها من الوقوع في فخ المبالغة. ولا يمكن عدم الحديث هنا عن تشكيلات إيلي صعب، وجيامباتيستا فالي، ودريز فان نوتن، وسيمون روشا، وهلم جرا ممن تفننوا فيها، كل حسب أسلوبه وفهمه لزبوناته. ومع ذلك، يبقى القاسم المشترك بينهم جميعاً أخذهم بعين الاعتبار أنها يمكن أن تكون سيفاً ذا حدين: فكما قد تكون رومانسية عصرية، يمكنها أيضاً أن تبدو «دقة قديمة»، لهذا كان أن اتفقوا على طرحها بلغة العصر الجديد: تجمع القوة بالنعومة، ولا تظهر على استحياء في جزء جانبي من فستان أو بين طيات، بل - على العكس - يمكن أن تغطيه بالكامل. كما لا يقتصر الأمر على فساتين السهرة والمساء، بل أيضاً يضم قطعاً خاصة بالنهار، تظهر فيها في أكمام أو على أكتاف، أو تتفتح على تنورة منسدلة أو ببليسيهات. والواضح في ورود هذا الموسم أنها لا تعتذر عن حجمها، ولا عن صراخ ألوانها وتضاربها، بل على العكس تماماً: كلما كانت قوية متوهجة فرضت حضورها، وليس أدل على ذلك من إبداعات مصمم دار «غوتشي»، أليساندرو ميكيلي. فهو مصمم لا يؤمن بالحل الوسط، ويقدمها بشكل مبالغ فيه. والنتيجة أنها تترك الأفواه مشدوهة والعيون مبهورة في الوقت ذاته. فكبر أحجامها وكثرة ألوانها جعلاها تبدو وكأنها لوحة رسمها فنان في لحظة إلهام سريالية. وفلسفة أليساندرو ميكيلي أن الموضة حالياً تحتاج إلى ألوان ونقشات تُحركها و«ترد لها الروح». والأهم من هذا، تتطلب تخليصها من أي إيحاءات «قديمة»، وهذا يعني أنها يجب أن تبدو نسوية أكثر منها أنثوية. الطريقة باختيارها مرسومة على خلفيات داكنة مثل الأسود، أو بأشكال عشوائية، حتى تبدو وكأنها حديقة غير مشذبة. وإذا لم يتوفر الأسود، فإن هناك ألواناً خريفية أخرى يمكن أن تفي بالمطلوب، مثل القرمزي الداكن عوض الوردي والفوشيا، أو الأزرق الغامق عوض البنفسجي، وهكذا. المصمم إيرديم موراليوغلو، مؤسس دار «إيرديم»، من بين من أعلنوا حبهم للورود، وعدم استغنائهم عنها. فمنذ بدايته، يتفنن في تطريزاتها، لكنه - مثل غيره - انتبه إلى أن الزمن تغير، وأن ما كان يناسب المرأة في السابق قد لا يناسبها في الحاضر. ومثلهم، حرص في تشكيلته الأخيرة على أن تكون أرضيتها داكنة سوداء. وعندما سُئل عن هذا التغيير، رد بأن المرأة الرومانسية التي كان يتصورها في خياله سابقاً، وكانت تمرح وتلعب في الحقول وشعرها وفساتينها تتطاير في الهواء، تختلف عن امرأة معاصرة تقضي أوقاتها في الملاهي والنوادي، وتستقل المواصلات العامة، عوض سيارة يقودها سائق خاص، لهذا كان لا بد أن يحصل هذا التغيير. ثم أضاف، وكأنه يُبرر توجهه الأخير: «هناك شيء رائع عندما يتخلل الأشياء الجميلة بعض السواد».
أما بالنسبة للمرأة، أو بالأحرى سر إقبالها على هذه الموجة، واستمتاعها بها في كل المناسبات، فيعود إلى أنها تجمع الأنيق بـ«الكاجوال»، وهو ما بات يلخص أسلوب حياتها وإيقاعه السريع. فقد تلبس بنطلون جينز عادياً، لكن ما إن تنسقه مع قميص مُورد، أو تلبس كنزة عادية مع تنورة مطبوعة بالورود، حتى تتغير الإطلالة بشكل يبث السعادة في النفس. ورغم أن هذه الموجة ولدت لمناسبات المساء والسهرة، وعلى خامات مثل المخمل والموسلين والحرير، فإنها في الوقت الحالي تناسب النهار، ولا تبدو فيه نشازاً. المهم أن تكون بكميات سخية وألوان متداخلة.
- همسات
> لا تزال هذه الورود تأخذ نكهة منطلقة ورومانسية في موسم الصيف، على العكس من فصل الشتاء الذي يجب أن تأخذ فيه شكلاً درامياً. فحتى الورود الصغيرة التي ارتبطت بلورا آشلي في السبعينات مقبولة الآن، شريطة أن تأتي على أرضية سوداء أو داكنة.
- يمكن ارتداء فستان قصير مطبوع بالورود مع جوارب سميكة وحذاء برقبة عالية. وإذا كنت تفضلين حذاء رياضياً، فمن الأفضل الاستغناء عن الجوارب.
> إذا كنت جديدة على هذه الموضة، وترهبين تأثيرها الدرامي، يمكنك الاقتصار على قطعة واحدة، مثل قميص أو كنزة مطرزة مع بنطلون عادي، أو العكس: تنورة مطرزة مع قميص بلون واحد. ولا تنسي أيضاً الاستعانة بجاكيت (بلايزر) من شأنه أن يخفف من قوتها بسهولة. وهناك أيضاً إمكانية أن تقتصر هذه الموضة على الأكسسوارات، مثل إيشارب أو حقيبة يد أو حذاء.
> ما تطرحه محلات الموضة الشعبية لا ينقصه الجمال، فهم يعرفون أنه لا مجال للاسترخاص، إذا كانوا يطمحون إلى البقاء والصمود أمام المنافسة الشرسة. لكن مع ذلك، لا بد من بعض الحذر فيما يتعلق باختيارها بأقمشة جيدة، وإلا بدت رخيصة جداً. الحرير رائج ناعم، لكن الدانتيل أو التول يمنحها بُعداً في غاية الأناقة في مناسبات المساء.
- الورود عبر التاريخ
> بغض النظر عن البيئة والجغرافيا والعمر، كانت الورود - ولا تزال - رمزاً للجمال، تبث السعادة والأمل في النفوس. ويقال إنها ظهرت على الأقمشة أول مرة في آسيا، ومنها جُلبت إلى الغرب، حيث كانت تُباع بأسعار باهظة، لأنها كانت من الحرير. وكانت وردة الفاوانيا مشهورة في الصين في عهد سلالة تانغ، في الفترة بين 618 و907 قبل الميلاد، وكانت مفضلة لدى الرسامين أيضاً، حيث كانت ترمز للجاه والقوة والرتبة العالية.
> في القرن الخامس عشر، انتقل حب الورود إلى أوروبا، لكن على الدانتيل، وهذا يعني أنه لم يكن بألوان صارخة، بل بلون القماش نفسه، وكان حينها مناسباً لكلا الجنسين.
> ظهرت الورود الكبيرة المتفتحة في القرنين السادس عشر والسابع عشر في الدولة الإسلامية على أقمشة ثقيلة غنية مثل المخمل، ولم تعد تقتصر على وردة الفاوانيا، بل شملت التوليب وزهر الرمان أكثر.
> في القرن السابع عشر، جلب التجار البريطانيون والهولنديون إلى أوروبا أقمشة من القطن من الهند مطبوعة بأنواع أخرى من الورود حققت لهم أرباحاً طائلة. ففي عام 1759، فكوا ألغازها، من طرق رسمها إلى كيفية مزج ألوانها، وأصبحوا يطرحونها بأسعار أقل. وهذا ما حصل أيضاً بعد ألف عام، أي في القرن التاسع عشر، مع انتشار الورود في أوروبا، وظهور ورشات تُقلد وتستنسخ الورود الآسيوية، لكن على أقمشة أرخص من الحرير، الأمر الذي جعلها متاحة بنسبة أكبر للناس.
> في العصر الفيكتوري، كانت الوردة المفضلة هي عباد الشمس، التي ظهرت في الأقمشة وأوراق الجدران والبلاطات.


مقالات ذات صلة

«ذا هايف»... نافذة «هارودز» على السعودية

لمسات الموضة جانب من جلسات العام الماضي في الرياض (هارودز)

«ذا هايف»... نافذة «هارودز» على السعودية

في ظل ما تمر به صناعة الترف من تباطؤ وركود مقلق أكدته عدة دراسات وأبحاث، كان لا بد لصناع الموضة من إعادة النظر في استراتيجيات قديمة لم تعد تواكب الأوضاع…

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة «موكا موس» له تأثير حسي دافئ ولذيذ من دون بهرجة (برونيللو كوتشينيللي)

درجة العام الجديد «موكا موس»… ما لها وما عليها

الألوان مثل العطور لها تأثيرات نفسية وعاطفية وحسية كثيرة، و«موكا موس» له تأثير حسي دافئ نابع من نعومته وإيحاءاته اللذيذة.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة لقطة أبدعت فيها «ديور» والمغنية لايدي غاغا في أولمبياد باريس (غيتي)

2024... عام التحديات

إلى جانب الاضطرابات السياسية والاقتصادية، فإن عودة دونالد ترمب للبيت الأبيض لا تُطمئن صناع الموضة بقدر ما تزيد من قلقهم وتسابقهم لاتخاذ قرارات استباقية.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة ماثيو بلايزي مصمم «بوتيغا فينيتا» سابقاً (غيتي)

2024...عام الإقالات والتعيينات

تغييرات كثيرة شهدتها ساحة الموضة هذا العام، كانت من بينها إقالات واستقالات، وبالنتيجة تعيينات جديدة نذكر منها:

جميلة حلفيشي (لندن)

الجينز الياباني... طرق تصنيعه تقليدية وأنواله هشة لكن تكلفته غالية

في معمل كوجيما تعكف عاملة على كي قماش الدنيم (أ.ف.ب)
في معمل كوجيما تعكف عاملة على كي قماش الدنيم (أ.ف.ب)
TT

الجينز الياباني... طرق تصنيعه تقليدية وأنواله هشة لكن تكلفته غالية

في معمل كوجيما تعكف عاملة على كي قماش الدنيم (أ.ف.ب)
في معمل كوجيما تعكف عاملة على كي قماش الدنيم (أ.ف.ب)

تحظى سراويل الجينز اليابانية المصبوغة يدوياً بلون نيلي طبيعي، والمنسوجة على أنوال قديمة، باهتمام عدد متزايد من عشاق الموضة، الذين لا يترددون في الاستثمار في قطع راقية بغض النظر عن سعرها ما دامت مصنوعةً باليد. وعلى هذا الأساس يتعامل كثير من صُنَّاع الموضة العالمية مع ورشات يابانية متخصصة في هذا المجال؛ فهم لا يزالون يحافظون على كثير من التقاليد اليدوية في صبغ قطنه وتصنيعه من الألف إلى الياء.

يوضع القطن في وعاء يحتوي على سائل أزرق داكن لا يلوّنها وحدها بل أيضاً أيدي العاملين (أ.ف.ب)

داخل مصنع «موموتارو جينز» الصغير في جنوب غربي اليابان، يغمس يوشيهارو أوكاموتو خيوط قطن في وعاء يحتوي على سائل أزرق داكن يلوّن يديه وأظافره في كل مرّة يكرر فيها العملية. يتم استيراد هذا القطن من زيمبابوي، لكنّ الصبغة النيلية الطبيعية المستخدَمة مُستخرجةٌ في اليابان، ويؤكد أوكاموتو أنّ لونها غني أكثر من الصبغات الاصطناعية. وكانت هذه الطريقة التي يشير إلى أنها «مكلفة» و«تستغرق وقتاً طويلاً»، شائعةً لصبغ الكيمونو في حقبة إيدو، من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر.

العمل في هذه المصانع صارم فيما يتعلق بمختلف جوانب التصنيع من صبغة إلى خياطة (أ.ف.ب)

وتشكِّل «موموتارو جينز» التي أسستها عام 2006 «جابان بلو»، إحدى عشرات الشركات المنتِجة لسراويل الجينز، ويقع مقرها في كوجيما، وهي منطقة ساحلية تشتهر بجودة سلعها الحرفية، بعيداً عن سراويل الجينز الأميركية المُنتَجة على نطاق صناعي واسع. ويقول رئيس «جابان بلو»، ماساتاكا سوزوكي، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «نحن صارمون جداً فيما يتعلق بمختلف جوانب التصنيع». ويشمل ذلك «جودة الخياطة والصبغة»، ما يجعل الاعتماد على مهارات التصنيع التقليدية للحرفيين المحليين، مسألة ضرورية.

بيد أن كل ما هو منسوج يدويا ومصنوع بهذا الكم من الحرفية له تكلفته، إذ يبلغ سعر النموذج الرئيسي من الجينز الذي تنتجه «موموتارو» نحو 193 دولاراً. أما النموذج الأغلى والمنسوج يدوياً على آلة خشبية محوّلة من آلة نسج كيمونو فاخرة، فيتخطى سعره 1250 دولاراً.

يعمل أحد الحرفيين على تنفيذ بنطلون جينز باليد بصبر رغم ما يستغرقه من وقت (أ.ف.ب)

ومع ذلك، ازداد الاهتمام بما تنتجه «جابان بلو» على أساس أنها إحدى ماركات الجينز الراقية على غرار «إيفيسو»، و«شوغر كين». وتمثل الصادرات حالياً 40 في المائة من مبيعات التجزئة، كما افتتحت الشركة أخيراً متجرها السادس في كيوتو، ويستهدف السياح الأثرياء بشكل خاص. يشار إلى أن صناعة الجينز ازدهرت في كوجيما بدءاً من ستينات القرن العشرين لما تتمتع به المنطقة من باع طويل في زراعة القطن وصناعة المنسوجات. وخلال حقبة إيدو، أنتجت المدينة حبالاً منسوجة للساموراي لربط مقابض السيوف. ثم تحوّلت بعد ذلك إلى صناعة «تابي»، وهي جوارب يابانية تعزل إصبع القدم الكبير عن الأصابع الأخرى، وانتقلت فيما بعد إلى إنتاج الأزياء المدرسية.

تعدّ سراويل الجينز الياباني من بين أغلى الماركات كونها مصنوعة ومصبوغة باليد (أ.ف.ب)

ويقول مايكل بندلبيري، وهو خيّاط يدير مشغل «ذي دينيم دكتور» لتصليح الملابس في بريطانيا، إنّ سوق سراويل الجينز اليابانية «نمت خلال السنوات الـ10 إلى الـ15 الماضية». ومع أنّ محبي الجينز في الدول الغربية يبدون اهتماماً كبيراً بهذه السراويل، «لا يمكن للكثيرين تحمل تكاليفها»، بحسب بندلبيري. ويتابع قائلاً: «إن ماركات الجينز ذات الإنتاج الضخم مثل (ليفايس) و(ديزل) و(رانغلر) لا تزال الأكثر شعبية، لكن في رأيي تبقى الجودة الأفضل يابانية». ويرى في ضعف الين وازدهار السياحة فرصةً إضافيةً لانتعاش سوق هذه السراويل.

رغم هشاشتها والضجيج الذي ينبعث منها فإن الأنوال القديمة لا تزال هي المستعملة احتراماً للتقاليد (أ.ف.ب)

يعزز استخدام آلات النسيج القديمة رغم هشاشتها والضجيج الذي ينبعث منها، وبالتالي لا تملك سوى رُبع قدرة أنوال المصانع الحديثة، من سمعة «موموتارو جينز» التي تعود تسميتها إلى اسم بطل شعبي محلي. وغالباً ما تتعطَّل هذه الأنوال المصنوعة في الثمانينات، في حين أنّ الأشخاص الوحيدين الذين يعرفون كيفية تصليحها تزيد أعمارهم على 70 عاماً، بحسب شيغيرو أوشيدا، وهو حائك حرفي في موموتارو.

يقول أوشيدا (78 عاماً)، وهو يمشي بين الآلات لرصد أي صوت يشير إلى خلل ما: «لم يبقَ منها سوى قليل في اليابان» لأنها لم تعد تُصنَّع. وعلى الرغم من تعقيد هذه الآلات، فإنه يؤكد أنّ نسيجها يستحق العناء، فـ«ملمس القماش ناعم جداً... وبمجرّد تحويله إلى سروال جينز، يدوم طويلاً».