في عالم الفنان علي بني صدر... انفجارات الألوان ملاذ من أصوات القذائف

يقيم معرضاً لأعماله بغاليري «ثاديوس روباك» بباريس

«عامل البناء» (علي بني صدر - غاليري ثاديوس روباك)
«عامل البناء» (علي بني صدر - غاليري ثاديوس روباك)
TT

في عالم الفنان علي بني صدر... انفجارات الألوان ملاذ من أصوات القذائف

«عامل البناء» (علي بني صدر - غاليري ثاديوس روباك)
«عامل البناء» (علي بني صدر - غاليري ثاديوس روباك)

علي بني صدر الفنان الأميركي إيراني الأصل، يجلس بهدوء في انتظار بداية الحوار معي في أحد مطاعم «غراند باليه» (القصر الكبير) في باريس.
الحديث معه شيق ومليء بالمعاني والأفكار والذكريات والفن البحت الذي يأخذك معه إلى أعماق الفنان، لنستكشف كيف تكونت الرؤية الفنية المدهشة التي تميز لوحاته.
بني صدر موجود في باريس لحضور افتتاح معرضه السادس مع غاليري «ثاديوس روباك» تحت عنوان «الفوضى المنظمة»، ووجد الفرصة أيضاً للتجول في صالات عرض كعرض «فياك» للفنون الذي أقيم مؤخراً في العاصمة الفرنسية.
بداية، علي بني صدر ينتج اللوحات المرسومة بألوان الزيت أو بالفحم، وهو أمر يميزه عن غيره من الفنانين المعاصرين الذي اتجهوا لأشكال أخرى من التعبير الفني مثل «الفيديو آرت» والأعمال المفاهيمية. في لوحاته دائماً هناك حركة مستمرة، زحام من شخوص وأشكال وضربات فرشاة قصيرة أو طويلة، محملة بالألوان، أجدني أسأله عن الشعور الذي يراودني عند رؤية لوحاته بأني أشهد نوعاً من الانفجار الذي سرعان ما يخفت لينتهي بلون واحد هادئ مثل اللون الأزرق. يجيب بهدوء ليزيد حيرتي: «هل يمكنك رؤيتها كحالة هدوء تنتهي بعاصفة أو انفجار؟ أو ربما هي دائرة من الحركة والهدوء، فأنا لا أفكر في الخطوط المستقيمة».
في كل الحالات، لا يمكنني إلا التوقف أمام لوحاته، التي يعرض لي بعضاً منها على هاتفه، وكأنما هناك أصوات عالية تتمازج ما بين الشخوص المختلفة التي يمكننا تبين ملامحها، أو حتى خطوطها العريضة، هل نرى هنا رجلاً يمسك بيده ما يشبه العصا؟ أم هل هذا رسم لطفل يقف أمام ما يشبه حطاماً ودماراً؟ كل ذلك ممكن، فالفنان الذي ولد في إيران، وعاش فيها طفولته المبكرة، قبل أن يغادرها لنيويورك، حيث يعيش الآن، عاصر الكثير من الأحداث في وطنه الأم، ممثلة في الثورة الإسلامية والحرب الإيرانية العراقية.
يذكر في أحد أحاديثه التلفزيونية أن أعماله تعبر عن الأصوات التي عاصرها، وتساعده في تكوين لوحاته، وفي اختيار الألوان. وربما يمكن فهم الارتباط بين الأصوات والأشكال لدى الفنان، إذا عرفنا أنه يعاني من حالة طبية تربط بين أكثر من حاسة، وفي حالة فناننا هنا، فالارتباط لديه بين المسموع والمرئي. يذكر تأثير صافرة الإنذار وأصوات الانفجارات ضمن العوامل التي ترسخت في ذاكرته، يذكر أيضاً تأثير ارتجاج الأرض جراء الانفجارات، ونتيجة القصف الجوي، ويقول إن الطريقة الوحيدة التي كان يمكنه بها فهم ما يدور حوله، أو حتى التعامل معه، كانت عن طريق الرسم. وربما هنا يمكننا رؤية كل تلك الألوان والشخوص وحركات الفرشاة كتعبير عن تلك الأصوات، هل تشبه تلك الخطوط المتقاطعة، في فوضى جميلة مقلقة، تأثير الانفجارات على الأرض؟ في أحد لقاءاته الصحافية قال إن ذكرياته أثناء حياته في إيران كانت خليطاً من الصور؛ نصفها مجرد، ونصفها الآخر أشكال يمكن تحديدها.
أسأله عن تحضيراته لعملية الرسم، هل هناك طقوس لعمله؟ ويجيبني بقوله «أنا لا أحضر ما أريد رسمه، أضع ما يدور بذهني في اللوحة، وحتى الأشخاص الذين ترينهم، أو يمكنك تحديد خطوطهم العريضة في اللوحات، هم أقرب للإشارات منهم للأشخاص الفعليين، فقط هياكل لأشخاص، قد يكونون أشخاصاً من الحقيقة أو خيالاً لشخصيات مستقبلية».
لبني صدر نظرية خاصة في تكوين موضوعاته، يرى اللوحة وكأنها خشبة مسرح تتفاعل عليها شخصيات الممثلين، التي تتفاعل بدورها مع الألوان ومستويات الرؤية ما بين القريب والبعيد. في لقطة من أحد الأفلام الوثائقية، نراه وهو يدور في شوارع نيويورك بحثاً عن الإلهام، أو عما يشد بصره، يتوقف أمام باب حديدي بثنيات عرضية مثل أبواب المحلات، يقف قليلاً، ويلتقط صورة له، ولاحقاً نرى أنه استخدم تلك الخطوط في إحدى لوحاته شارحاً أنها تمثل حاجزاً ما بين مقدمة اللوحة وما خلفها.
في معرضه بغاليري «ثاديوس روباك» بباريس، يقدم الفنان عدداً من أعماله المميزة بضربات فرشاته التي تتحرك بعنفوان، لتخلق الانفجارات، وأيضاً الهدوء والفوضى المعبرة بجمال وعمق. يقول في تقديمه للعرض: «عندما أبدأ في رسم إحدى لوحاتي أعتمد دائماً على صوت داخلي، بمجرد أن أضع الفرشاة على القماش يبدأ الصوت، وأشرع في تكوين العمل معتمداً على الأصوات التي أسمعها خلال الرسم. (الأصوات) هي القوة التي تقف خلف اللوحة وتمنحني القدرة لتكوين عناصرها، وتجمع بين عناصر العمل كلها».
في «الفوضى المنظمة»، يقدم بني صدر مجموعة من الأعمال الجديدة التي تعبر عن حالة عدم الاستقرار في العالم الآن، وإن كانت لا تعتمد على التشخيص، أو حتى على التجريد المطلق. في لوحاته تنطق الأسطح القلقة، وتتعاكس مع المساحات الهادئة، خالقة مناطق من اللوحة، حيث يسود النظام والهدوء يعبر عنها بضربات فرشاة واثقة وثابتة، لتواجه أجزاء أخرى تتسم الحيوية، وكما يشير عنوان المعرض «الفوضى المنظمة»، فالفنان يحاول من خلال لوحاته أن يفهم الفوضى الكامنة في العالم.
يتحاشى بني صدر التركيز على جانب معين في تشكيل اللوحة، فلا يوجد هنا عامل أساسي أو شخصية بارزة، وإنما نجد أن أشخاصه وأشكاله في حركة مستمرة تتداخل وتتماوج، وتغلب على بعضها الآخر، ولعل تلك الحركة المستمرة هو ما يخلق الطاقة التي تتفجر من اللوحات، وتجذب الناظر ليقع في أسرها محاولاً حل أسرارها.
يذكر بني صدر أنه يتعامل مع لوحاته من منظور عين الطائر، من أعلى يرى العالم وينقل رؤيته على اللوحة، لتخرج لنا بتموجات من الأشكال والألوان والخطوط يجب الوقوف أمامها لفترة من الوقت لتفكيك ذلك العالم العبقري والمجنون الذي يقبع داخلها.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».