ناتالي بورتمان لـ«الشرق الأوسط»: الأدوار المكتوبة جيداً قليلة ومتباعدة لكنّها متوفرة

قالت إن نيلها {الأوسكار} لم يغير شيئاً في حياتها العملية

ناتالي بورتمان لـ«الشرق الأوسط»: الأدوار المكتوبة جيداً قليلة ومتباعدة لكنّها متوفرة
TT

ناتالي بورتمان لـ«الشرق الأوسط»: الأدوار المكتوبة جيداً قليلة ومتباعدة لكنّها متوفرة

ناتالي بورتمان لـ«الشرق الأوسط»: الأدوار المكتوبة جيداً قليلة ومتباعدة لكنّها متوفرة

من بعد فوزها بأوسكار أفضل ممثلة عن «البجعة السوداء» ساد التوقع بأنّ مهنة الممثلة ناتالي بورتمان، سترتبط مستقبلاً أكثر وأكثر بتلك الجائزة السينمائية الأولى حول العالم. الناقد ريكس ريد كتب في «نيويورك أوبزرفر» أنّ مستقبل بورتمان والأوسكار سيوازي علاقة ميريل ستريب بالجائزة.
هذا لم يتحقق، حتى الآن على الأقل، لكن بورتمان نالت ترشيحاً ثانياً بعد دورها في «البجعة السوداء» عندما لعبت شخصية السيدة الأولى جاكلين كيندي في فيلم «جاكي»، الذي روى بعضاً من حياتها قبيل وبعد اغتيال زوجها جون ف. كيندي.
وعلى المرء أن يعترف هنا أنّ حياتها المهنية تنوّعت وامتدت لتشمل أفلاماً لا يمكن أن تعود لها بجوائز مماثلة كما الحال في سلسلتي «أفنجرز» وThor. لكنها في الوقت ذاته، أثمرت عن حضور مستمر في شتى أنواع الأفلام في الوقت ذاته. ظهرت في أفلام نوعية مغلفة بمعالجة جماهيرية مثل «إبادة»، وأخرى أكثر مباشرة في سعيها التجاري «فوكس لوكس»، وأخرى أحب الظهور فيها مدركة أنّ مخرجيها بعيدين بقراراتهم الذاتية عن مجاراة متطلبات السوق كما الحال عندما وافقت على أحد الأدوار الرئيسية في «من أغنية لأغنية» لتيرينس ماليك.
فيلمها الأخير «لوسي في السماء»، هدف للجمهور السائد، لكنّ هذا الجمهور لم يحفل به كثيراً. على ذلك تبدو مرتاحة إلى التجربة كما تذكر في هذا اللقاء.
> لم أشاهد «لوسي في السماء» بعد، لكن من المثير، مبدئياً على الأقل، أن نراك في فيلم من نوع الخيال العلمي كما هو الحال في فيلمك الجديد هذا. هل أقدمت على هذا الفيلم من باب التغيير عن أعمالك الأخرى؟
- إنه ليس تماماً من الخيال العلمي. لا أعتقد أنّه كذلك في المقام الأول. «لوسي» يمكن اعتباره سيرة حياة لشخصية واقعية لكنّنا قمنا بتغيير الأسماء وأضفنا الكثير من الأحداث. بذلك صار الفيلم مستوحى من حياة وأحداث طرف آخر. في الوقت ذاته لا أقول إنّه بعيد عن الأحداث. يجمع بين ما حدث مع ملاحة الفضاء ليزا وبين الخيال الذي عمد إليه الفيلم، لكن من دون أن ينسى الحكاية الحقيقية.
> أعرف أنّه قصة الملاحة ليزا التي حُكم عليها بتهمة الشروع في القتل.
- صحيح. هي كانت قد وقعت في حب رجل نافستها عليه امرأة أخرى.
> هل صحيح أنّك قبلت بالدور من ثمّ تخليت عنه لتعودي إليه؟
- صحيح. في البداية كان لدي الوقت للبدء بتصويره عندما عرض علي الدور سنة 2016. لكنّ السيناريو دخل جحيم الإعادات. فانسحبت منه. استقر الرأي بعد سنة على (الممثلة) ريز ويذرسبون التي أعتقد أنّها وافقت ثم انسحبت بسبب انشغالها بتمثيل عمل آخر. عندما عاد إلي المشروع وقرأت السيناريو الجديد وافقت عليه.
> هل تعتقدين أنّ الأدوار الجيدة قليلة ومتباعدة؟
- نعم، لكنها متوفرة وتتوزع على الممثلين على مستوى جيد وإلّا لما كانت هناك تلك الأدوار التي تستحق الجوائز السنوية كـ«غولدن غلوبز» و«الأوسكار». أعتقد أيضاً أنّه المنهج السائد بيننا جميعاً في هوليوود. هناك أفلام كثيرة جداً تبلغ المستوى الجيد الذي يطمح إليه السينمائيون، لكن ليس دائماً الدور المميز الذي يطمح إليه الممثلون. في أفضل الأحوال بات الممثل يقبل بالمشروع على أساس أنّه سيكون سبباً في نجاحه أو على الأقل نسبة لرغبته في العمل.
> أليس «لوسي في السماء» ثاني فيلم مبني على شخصية حقيقية لك في غضون السنوات القليلة الماضية؟
- نعم. ولعبت «جاكي» هل شاهدته؟
> طبعاً.
- الفارق كبير بين الفيلمين. «جاكي» كان عن جاكلين كينيدي كما تعلم، والفارق هو أنّه ليس من الممكن هناك أن تغير في الأحداث. هناك أمانة تاريخية لا بد من تحمّل مسؤوليتها. الفيلم الجديد، عليه أن يسرد الحكاية الحقيقية ضمن شروطه. هناك حرية أوسع في كيف سيعالج الفيلم حكايته.
> كيف وجدت جاكلين كيندي كشخصية عندما بدأت التحضير لتصوير ذلك الفيلم؟
- قرأت عنها ما أردت قراءته. بابلو (المخرج بابلو لاران) كان في رأيي مُـصيباً عندما وضع السيناريو على نحو متحرر من تفاصيل تلك الأحداث، لكنّه حافظ على الأحداث ذاتها. الشخصيات حقيقية وما حدث سنة 1963 حقيقي وهناك عناية بمواقع التصوير لكي تبدو مماثلة سواء البيت الأبيض أو المقبرة التي دُفن فيها الرئيس كيندي.
> في رأيك هل يقيد الممثل نفسه عندما يؤدي شخصية حقيقية؟
- أعتقد أن ذلك يعتمد على الفيلم نفسه. كما قلت «جاكي» يختلف عن «لوسي في السماء» وكلاهما يتحدثان عن شخصية حقيقية. ولكن في المقابل تبقى هناك حرية أن أمثل الدور كما أراه مناسباً، إنّما من بعد الاتفاق على ثوابت ملزمة. ليست حرية الانتقال بالشّخصية كما لو أنّها خيالية، لكنّ حرية التعبير حين الحديث أو حين القيام بحركة ما. كنت ملتزمة بلعب الدور على نحو لا يخون الشخصية، لكنّني لم أكن مقيدة في اختيار التصرفات مثلاً. سأعطيك مثلاً آخر: تعلمت اللهجة والتزمت بها، لكنّ الحوار لم يكن هو ذاته الذي نشرته الكتب أو المذكرات حولها أو حول جاكي.
صدام وجهات نظر
> عملت مع أحد أهم فناني السينما الأميركية قبل عامين. مع المخرج تيرينس ماليك في «من أغنية لأغنية». ما رأيك في هذه التجربة؟
- طبعاً هو أحد أهم المخرجين في السينما، وخصوصيته هي في تفكيره وأسلوبه. كنت شاهدت أفلامه السابقة وأعجبتني لأنّها مختلفة كثيراً عمّا نراه من أفلام. أعماله نادرة في هذا الشأن. لم أتأخر عن قبول الدّعوة عندما طلبني لدور روندا. شعرت بأني محظوظة.
> مقبلون على مسابقة الأوسكار، وأنت نلت هذه الجائزة عن دورك في «البجعة السوداء» سنة 2011. ما التغييرات التي طرأت على حياتك العملية تبعاً لذلك؟
- سأكون صريحة. لا شيء. هناك من يحب أن يقول إنّ الجائزة غيرت مسار حياته. وإنّها ساعدته في عمله أو لم تساعده مطلقاً، أو كيف أنه سعيد بها. طبعاً أنا سعيدة بحصولي على الأوسكار عن ذلك الفيلم بالتحديد لأنّه فيلم جيد جداً، لكنّ عملي استمر بالوتيرة ذاتها.
> هل ينفع الأوسكار في رفع مستوى العروض التي يتسلمها الممثل؟
- لا. ليس بالضرورة. إذا كان الفيلم من النوع الجماهيري الناجح فإنه قد يضعه في قالب متكرر. لكن إذا ما فاز بالأوسكار فإنّه غالباً لن يؤثر على اختياراته اللاحقة أو طبيعة الأدوار التي تُساق إليه.
> بعد هذه التجربة بدأت الإنتاج وفي مطلع هذا التوجه الجديد واجهتك مشكلة خلال تصوير «جين امتلكت مسدساً»، أدت إلى تغييرات أساسية بعد بدء التصوير. ما الذي خرجت به من تلك التجربة‪؟‬
- الذي حدث كان يمكن له أن يحدث في أي فيلم. القصة قديمة لا تستحق أن نعيد سردها. لكنّ السبب الحقيقي كان حدوث صدام في وجهات النظر بين الجهة المنتجة وبين المخرجة لين رامزي أدت إلى تغيير بعض الممثلين، لأنّ الخلاف أدى إلى تأخير التصوير والممثلين كانوا مرتبطين بأفلام أخرى.
> لم يمنعك ما حدث من مواصلة العمل كمنتجة…
- طبعاً لا. لأنّه عندما تتعلم درساً ما، يكون ذلك بمثابة دافع لتجنب الخطأ. هذه هي الخبرة التي يحتاجها كل منا في مجال عمله. لا يمكن تصوّر استمرار الواحد منا في عمله بنجاح إذا ما كان يكرر الأخطاء ذاتها.
> هل قيامك بالإنتاج هو نوع من التوسع في المهنة السينمائية أو حب لإنتاج أفلام تريدين تحقيقها بنفسك؟
- شيء من الحالتين. من ناحية أؤمن بأنّ العمل كمنتجة يساعدني في الانضباط بحياتي كسينمائية. تصير الأشياء أوضح عندما يتوقف الممثل عن مجرد قبول المشاريع وينتقل إلى الاشتراك بتنفيذها. من ناحية ثانية هناك أحياناً ذلك المشروع الذي لن يُنتجه أحد سواك، إلّا إذا حمل اسمك… فلم لا؟


مقالات ذات صلة

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

سينما المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

ماذا تفعل لو أنك اكتشفت أن الشخص المتهم بجريمة قتل بريء، لكنك لا تستطيع إنقاذه لأنك أنت من ارتكبها؟ لو اعترفت لبرّأت المتهم لكنك ستحلّ مكانه في السجن

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
سينما من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)

شاشة الناقد: دراما نسوية

في فن صنع الأفلام ليس ضرورياً أن يتقن المخرج الواقع إذا ما كان يتعامل مع قصّة مؤلّفة وخيالية.

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)