في نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، أجرت «دويتشه فيله» حواراً مع كاتب هذه السطور، حين كان يُدرّب عدداً من الإعلاميين العرب في العاصمة القطرية الدوحة على قواعد العمل الصحافي الرشيد ومبادئه، وهو الحوار الذي تم نشره تحت العنوان التالي: «(الجزيرة) ذراع إخبارية لخدمة مصالح سياسية... ودعمها لـ(الثورات) العربية يُحسب عليها لا لها».
لا يجب إغفال السياق الذي جرت خلاله المقابلة بطبيعة الحال، ولمن لا يتذكر، فقد كان العالم العربي آنذاك في عين عاصفة الانتفاضات، حيث برز قدر لافت من الزهو بـ«قدرة الجمهور» على مغالبة السلطات، وإطاحتها، إثر موجة من المظاهرات والاحتجاجات، التي اتخذت طابعاً كرنفالياً، رغم ما تخللها من محن ودماء.
كانت «الجزيرة» في قمة الانتشاء آنذاك، إذ تزامنت هذه الوقائع مع احتفالها بالذكرى الخامسة عشرة لإنشائها، بينما آثار جهودها الرامية إلى التثوير تزدهر، وغرسها الهادف إلى خلخلة الأوضاع في عدد من الدول يثمر، وقطاعات مؤثرة من الجمهور تهتف باسمها مادحة ومتوسلة في غير دولة.
سألت «دويتشه فيله»: «البعض يرى أن (الجزيرة) قد ساهمت بشكل كبير في (صنع) الثورات العربية، فما رأيك بذلك؟».
وكانت الإجابة كما يلي: «(الجزيرة) ساهمت في دفع الثورات العربية نحو النجاح. وهذا من الأمور التي تُحسب عليها وليس لها. لأن المفروض أن يكون دورها محايدا يتعلق بنقل الأخبار وشرحها للجمهور، وليس أن تتحول إلى أداة فعل مباشر. أنا أقدر دور (الجزيرة) في إسقاط أنظمة ديكتاتورية قمعية في تونس ومصر وغيرهما. ولكني أخشى أن (الجزيرة) التي حاربت أعداء اليوم وانتصرت للثورة ضد الطغيان أن تنصر غدا الطغيان. أنا أفضّل أن تكون (الجزيرة) وسيلة إعلام وليست وسيلة فعل سياسي».
ليس المقصود من نشر هذا المقطع من الحوار المشار إليه ادعاء الحكمة أو إثبات صحة وجهة النظر، بعدما انكشفت سياسات «الجزيرة» وباتت واضحة للعموم، وإنما تصادف أن اندلعت موجة جديدة من الانتفاضات في بعض الدول العربية، وظهرت الاختلافات من جديد حول الدور الواجب أن تلعبه وسائل الإعلام في مواكبة تلك التحولات المثيرة والمشحونة بالعواطف والمصالح المتضاربة.
وقد ظهرت آثار هذا التضارب والارتباك جلية فيما رشح من أخبار عن استقالة بعض الصحافيين اعتراضا على الخط التحريري للوسائل التي يعملون بها في مقاربة الانتفاضات، أو احتفاء بعض الإعلاميين بأنماط أداء تثويرية هيمنت على تغطياتهم للأحداث، التي تشابكت أدوارهم فيها بين كونهم «صحافيين» وكونهم «ثواراً».
فهل يمكن حسم هذا التضارب ومعالجة هذا الجدل؟
ثمة عاملان رئيسيان يدفعان الصحافي إلى الوقوع في هذا التضارب؛ أولهما يختص بالخط التحريري الذي تتبعه الوسيلة التي يعمل لها؛ ففي كثير من الأحيان يجد الصحافي نفسه تحت تأثير سياسة تحريرية أملاها نمط ملكية محدد، يدفعه دفعاً إلى تبني موقف حاد ضد الانتفاضة ومطالبها، أو تأييداً لها وحرصاً على تمام مهمتها.
أما العامل الثاني، فيتصل بانحيازات الصحافي نفسه الذاتية، وتبنيه لموقف معين إزاء الأحداث، وفي مواضع كثيرة، فإنه يقع ضحية لنمط انحياز نادر هو «انحياز النزاهة» Fairness Bias، حيث يعتقد أن انحيازه للطرف الأضعف (المحتجين) في مواجهة الطرف الأقوى (النظام) أكثر نزاهة، أو أن تأييده لـ«الوطن»، وما يستلزم صيانته من أمن واستقرار، أكثر نزاهة من مجاراة «دعاة الفوضى» من «الخونة والعملاء»، عبر منحهم فرصاً للتعبير عن ذرائعهم.
ولحل هذه المعضلة، يلزم أن يتحقق عاملان نادران في واقعنا الصحافي العربي؛ أولهما أن تتم إعادة الاعتبار لمفهوم «شرط الضمير»، الذي يُفعّل عبر إعلان شفاف من قبل الوسيلة عن مهمتها، وانحيازاتها الأساسية، والمبادئ التحريرية التي تعتمدها؛ وهو إعلان ينطوي حكماً على التزام خط تحريري معين، يقبله الصحافي حين يلتحق بالعمل في الوسيلة، ويحق له الخروج المُنصف منها في حال خالفته أو تراجعت عنه.
أما العامل الثاني، فيتعلق بالسوية المهنية للصحافي ذاته، وما إذا كان يستطيع أن يدرك أن مهنة الصحافي مهنة مهمة وحيوية، تم تأسيس شروط العمل بها على قواعد ومبادئ محترمة، وحين يتصدى أحدهم للعمل بها، فإنه يلتزم بألا يكون أقل من ذلك (ذراع دعاية)، ولا أكثر من ذلك (قائدا أو ثائرا أو فيلسوفا).
المواكبة الصحافية المهنية للانتفاضات تتطلب حياداً وتوازناً وموضوعية وتنصلاً من المواقف المتضاربة، ووظيفة الصحافي الأساسية نقل العالم وشرحه للجمهور، وليست قيادة «الثورة» أو الدفاع عن مفهومه لـ«الوطن».
الصحافيون والانتفاضات
الصحافيون والانتفاضات
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة