مظاهرات العراق: أهداف مشروعة وسقوف متضاربة

بين الغضب الشيعي... والحذر السنّي

مظاهرات العراق: أهداف مشروعة وسقوف متضاربة
TT

مظاهرات العراق: أهداف مشروعة وسقوف متضاربة

مظاهرات العراق: أهداف مشروعة وسقوف متضاربة

لم تكن الطبقة السياسية التي حكمت العراق بعد عام 2003 تتوقع هذا النمط من المظاهرات التي سرعان ما تحولت إلى احتجاجات واسعة النطاق.
الأيام الأولى منها، حين اندلعت في الأول من شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حصدت أرواح مئات القتلى وآلاف الجرحى في سابقة لم تحصل من قبل. وبينما قدمت الحكومة والبرلمان حزما إصلاحية هي الأكبر من نوعها منذ 16 سنة، فإنها لم تؤثر سواء في زخم الاحتجاجات وتنوعها أو في تنوع سقوف مطالبها التي وصلت إلى حد الدعوة إلى تغيير النظام. والمتظاهرون، بعد وقوع أعداد كبيرة من القتلى والجرحى، أعلنوا عن تأجيل مظاهراتهم إلى يوم الخامس والعشرين من الشهر الحالي الذي يصادف مرور سنة كاملة على تولي رئيس الوزراء الحالي عادل عبد المهدي مهام منصبه.

تنفست الطبقة السياسية في العراق الصعداء خلال فترة أسبوعين في وقت بقي زخم الإعداد للمظاهرات المليونية المقبلة بدءا من يوم الـ25 من الشهر الحالي قائماً على قدم وساق، على الرغم من استمرار تقديم التنازلات من قبل الحكومة، بما فيها فتح المزيد من فرص التوظيف أو الخدمات، وتوزيع قطع الأراضي، وإعادة النظر في الرواتب والامتيازات لكبار المسؤولين ولشرائح أخرى في المجتمع.
وفضلاً عن دعوات المرجعية الدينية للتهدئة، فإن تنسيقيات المظاهرات بقيت مستمرة في التحشيد ورفع سقف المطالب دون أن تلتفت إلى ما يصدر عن البرلمان والحكومة العراقية. وفي أثناء ذلك صدر التقرير الخاص بلجنة التحقيق بالأحداث التي رافقت المظاهرات، والتي طلب المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني من رئيس الوزراء عادل عبد المهدي تشكيلها «لكي تبين حقيقة ما حصل، ومن هي الجهات والأطراف التي قصرت في عملها... المتمثل حصراً في حماية المتظاهرين ممن أطلق عليهم المندسّين والقنّاصين».

تحقيق مخيب للآمال
وفي حين كان العراقيون ينتظرون نتائج التقرير لكي تكشف الحقيقة، أو جزءاً منها في الأقل، لتضع النقاط على الحروف، الأمر الذي يمكن أن يكون له تأثير في سحب البساط من تحت أقدام الجهات التي بدأت تركب موجة المظاهرات، فإن نتائج التقرير نفسه جاءت مخيبة للآمال.
ذلك أن التقرير لم يكشف حقيقة ما حصل بشكل مهني كما كان مأمولاً. وبدلاً من أن يوضح هوية الأطراف التي تتحمل مسؤولية إطلاق الرصاص الحي، أو كيفية دخول مندسّين إلى قلب المظاهرات في ظل وجود أجهزة أمن ومخابرات واستخبارات، فإنه حمّل المسؤولية لعدد من القادة العسكريين من قادة العمليات أو قادة الشرطة في المحافظات التي وقعت فيها المظاهرات، وهي في غالبيتها، العاصمة بغداد ومحافظات الوسط والجنوب.

مفارقة دستورية
طبقا لتجربة المظاهرات في العراق منذ عام 2011 بالتزامن مع الربيع العربي آنذاك، فإن كل توقعات الطبقة السياسية الحاكمة في العراق ما كانت تتعدى ما هو مطلبي عام، يمكن حله بطرق وأساليب مختلفة ما دامت تقع تحت سقف الدستور الذي يضمن حرية التظاهر. والواقع أن الفصل الخاص بالحريات بالدستور العراقي يُعد من أفضل فصول الدستور الذي تقع مهمة إلغائه في مقدمة مطالب المتظاهرين الآن.
وفي حين حرص كتاب الدستور العراقي، الذي سبق التصويت عليه بنسبة زادت على الـ80 في المائة من أبناء الشعب العراقي - وبخاصة في الوسطين الشيعي والكردي عام 2005 - على جعل المواد الخاصة بالحقوق والحريات، وكذلك النظام الفيدرالي من بين أهم مواده التي اعتني تماماً بصياغتها، فلقد بدت المواد الأخرى ذات الطبيعة السياسية الخلافية مملوءة بالألغام التي لا أحد يتوقع متى تنفجر.
وفي حين بدأت الخلافات مبكرة حول المادة 124 الخاصة بالتعديلات الدستورية التي حددت وقتذاك سقفاً زمنياً لا يتعدى الشهور الأربعة لتعديل المواد الخلافية فيه، فإن الخلافات استمرت حتى هذا اليوم دون أن يتمكن الأفرقاء السياسيون من حسم تعديل المواد الدستورية العالقة.
المادة 140 الخاصة بالمناطق المتنازع عليها بين المركز وإقليم كردستان، وفي مقدمتها محافظة كركوك، ظلت مادة خلافية حتى اليوم، مع أن الدستور حدد لها سقفاً زمنياً لا يتجاوز عام 2007. يضاف إلى ذلك وجود أكثر من 50 مادة دستورية بقيت جامدة حتى الآن، بسبب فشل الكتل والأحزاب والقوى السياسية في تنظيمها بقانون طبقاً لما ينص عليه الدستور. انطلاقاً من ذلك، فإن المطلب الأول للمظاهرات بات الآن هو تغيير الدستور، بعدما كانت المطالب في البداية لا تتجاوز الخدمات مثل فرص العمل والسكن والضمان الصحي والاجتماعي.

حسابات مؤجلة
ربما كانت أكثر المفارقات اللافتة في المظاهرات العراقية اليوم المطالبة بتغيير الدستور بالدرجة الأولى، وتغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي، وكتابة قانون انتخابي جديد، هي أنها انطلقت من أوساط الشباب حصراً... وفي المناطق والأحياء ذات الغالبية الشيعية من بغداد وباقي محافظات الوسط والجنوب ذات الغالبية الشيعية.
وبينما يفسّر عبد الله الخربيط، النائب في البرلمان العراقي عن محافظة الأنبار - ذات الغالبية السنية - في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، امتناع العرب السنة عن المشاركة في المظاهرات بأنها تهدف إلى «تجنب توجيه اتهامات جاهزة للسنة بأن خلفها حزب البعث والإرهاب و(داعش)، فإن خروج المتظاهرين من قاع الأحياء الشيعية الفقيرة، بما فيها العشوائيات، يؤكد أن النظام الذين راهنوا عليه والذي تقوده غالبية شيعية حاكمة لم ينجح في تحقيق ما كانوا يأملون بتحقيقه».
ويرى الخربيط أن «المطالب العامة للمظاهرات صحيحة، وهي مطالب مشروعة وكان ينبغي أن تتحقق خلال السنوات الـ16 الماضية... لكن فشل نظام المحاصصة الذي تشارك فيه الجميع (الشيعة والسنة والكرد) هو الذي فجرّ الغضب الجماهيري». وبيّن النائب أن «طبيعة رد الفعل القاسية من قبل القوات الأمنية، أو بعضها على الأقل، على المتظاهرين ما كان مبرراً. وبالتالي فإن دخول السنة في المظاهرات كان من الممكن أن يخلق مشكلة على صعيد كيفية التعامل معهم... خصوصاً أن لهم تجارب سلبية سابقة، عندما أدت إلى حصول مشاكل كبيرة وهو ما مهّد فيما بعد لدخول (داعش) واحتلالها المحافظات الغربية».

غضب المناطق الشيعية
أما لماذا تفجّر الغضب الشعبي في أوساط الشيعة، وتحديداً، مناطق الوسط والجنوب، فإن لذلك أسبابا و«سيناريوهات» مختلفة؛ منها أن الجيل الجديد من أبناء هذه المناطق، وإن كان لا يختلف عن سواه من أبناء المكوّنات الأخرى (السنة والكرد)، بات ينظر إلى أن الطبقة التي تصدّرت السلطة، وهي شيعية في المقام الأول، لم تحقق له ما كان ينتظره من وطن يتمتع بكل ما تتمتع به الأوطان من عيش كريم وفرص عمل متساوية وعدالة اجتماعية وحكم رشيد. وهذا، مع العلم، أن العراق بلد غني بموارده وثرواته.
من ثم، بدت الحسابات التي انطلق منها هذا الجيل مؤجلة، وتعود إلى 16 سنة مضت. وطبقاً لطبيعة الحكم الذي يتركز بيد الشيعة - الذين لهم رئاسة الوزراء التي تتضمن كل الصلاحيات - كان ينبغي أن يكون حال العراق في وضع أفضل بكثير مما هو عليه اليوم، ولا سيما، أن معظم الشيعة الفقراء يقطنون في منازل بائسة في عشوائيات ومدن صفيح. ومن ثم، فإن فقراءهم يشعرون بالمفارقة من أن تكون السلطة بيدهم... وأن يتركّز الغنى والثروات في يد قلة قليلة ممن كانوا يعيشون خارج العراق وجاؤوا إليه مع الاحتلال الأميركي عام 2003.

الحلول والسقوف والأولويات
هذه أول مظاهرات في العراق تدخل شهرها الثاني، في وقت يزداد زخمها الجماهيري لتشمل مؤخراً طلبة الجامعات والمدارس الإعدادية. وبينما بدأت المظاهرات شيعية مناطقية (أحياء بغداد ذات الغالبية الشيعية) ومحافظات الوسط والجنوب ذات الغالبية الشيعية، فإنها تحولت إلى وطنية عامة تقريباً بعدما انضمت إليها أحياء ذات غالبية سنّية من العاصمة بغداد. وفي الوقت الذي لم تخرج مظاهرات في المحافظات الغربية ذات الغالبية السنّية خشية أن يجري اختطافها، كما حصل في مظاهرات عام 2013 التي مهدت لعودة تنظيم «داعش»، سجّلت مساهمات من بعض تلك المحافظات بإرسال مواد غذائية وطبية إلى المتظاهرين في ساحة التحرير.
مع كل ما تقدّم، فإن هذه المظاهرات، بدلت تعاطي السلطات العراقية الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية مع مطالب المتظاهرين. وباتت تراها كجزء من الحلول الضرورية الممهدة للحل النهائي لمشكلة النظام السياسي في البلاد. وهذا، رغم عدم وجود أهداف موحدة للمظاهرات فضلاً عن عدم بروز قيادات لها... ما يجعل سقوفها مرتفعة مرة ومتناقضة مرة أخرى.
وفي هذا السياق، في إطار الحلول المقترحة من قبل السلطات الثلاث في العراق وصلتها بالسقوف المتضاربة للمظاهرات... تتجسد المشكلة بالأولويات. إذ في حين تكاد تتفق الطبقة السياسية بكل قواها على أن أهداف المظاهرات سلمية ومشروعة، فإنهم يرون أن البداية هي تقديم الحلول ذات الطابع الخدمي (فرص عمل وسكن وضمان صحي واجتماعي)... وصولاً إلى إصلاح بنية النظام الأساسية بدءاً من تعديل الدستور، وإقرار قانون انتخابات جديد، وإمكانية تحويل العراق من نظام برلماني إلى رئاسي.
غير أن المتظاهرين يرفضون إصلاحات الحكومة، مهما بدت جادة، لأنهم يريدون البدء بإصلاح النظام أولاً. وعليه، فهم يصرون مرة على إقالة الحكومة، أو إلغاء النظام كله مرة أخرى... من دون وجود خريطة طريق يمكن أن تتحقق من خلالها مثل هذه الآلية.

تصويت البرلمان... والفساد
البرلمان العراقي من جهته، صوّت على حزمة من القرارات والإجراءات عدّت الأقوى منذ عام 2003، الذي يشكل بداية النظام السياسي الجديد في العراق.
من بين أهم القرارات التي اتخذها البرلمان: إلغاء مجالس المحافظات والمجالس البلدية في الأقضية والنواحي، وهو ما يُعد أقوى ضربة للحكم المحلي في البلاد.
كذلك قرر البرلمان تشكيل لجنة لتعديل الدستور العراقي. وصوّت على إلزام الحكومة عدم الجمع بين راتبين، ومن بينها رواتب رفحاء التي أثارت على مدى سنوات جدلاً في الأوساط العراقية بسبب جمع المشمولين بها راتبا لكل فرد في العائلة. كما صوّت على إلغاء امتيازات الرئاسات الثلاث والمناصب الكبرى في البلاد.
القضاء من جهته، اتخذ إجراءات استثنائية بشأن مكافحة الفساد في البلاد. وقال المجلس في بيان له إنه «على ضوء ما يجري من أحداث وبعد المداولة الإلكترونية، والاجتماع الطارئ بين رئيس مجلس القضاء الأعلى مع أعضاء مجلس القضاء الأعلى، فقد توصل المجلس إلى الإيعاز إلى المحكمة المركزية لمكافحة الفساد باتخاذ الإجراءات الاستثنائية بإصدار مذكرات القبض بحق المتهمين الداخلة قضاياهم ضمن اختصاص المحكمة ومنع سفرهم والإيعاز إلى الجهات التنفيذية بذلك».
وأضاف: «كما يعلن المجلس أن المادة الثانية الفقرة 2 من قانون مكافحة الإرهاب النافذ تنص على أن يعد من الأفعال الإرهابية (العمل بالعنف والتهديد على هدم أو إتلاف أو أضرار عن عمد مبان أو أملاك عامة أو مصالح حكومية أو مؤسسات أو هيئات حكومية أو دوائر الدولة والقطاع الخاص أو المرافق العامة)، كذلك يعد بموجب الفقرة 5 من المادة الثانية المذكورة عملاً إرهابياً مَن يعتدي بالأسلحة النارية على دوائر للجيش أو للشرطة أو الدوائر الأمنية أو الاعتداء على القطعات العسكرية الوطنية، وأن هذه الجرائم يعاقب عليها القانون بالإعدام وفق قانون مكافحة الإرهاب».
وفي هذا الصدد، أكد سعيد ياسين موسى، عضو المجلس الأعلى لمكافحة الفساد في العراق، الذي يترأسه رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «الإجراءات الاستثنائية، التي اتخذها مجلس القضاء الأعلى على صعيد بدء إجراءات فعالة لمحاربة الفساد، سوف تؤدي إلى حسم نحو أكثر من 12 ألف ملف فساد كانت محمية في السابق بسبب التأخير في الإجراءات الإدارية التي كانت تمثل سياجا منيعا لحماية الفاسدين».
وأضاف موسى أن «تأخير حسم تلك الملفات لم يكن بسبب القضاء، بل بسبب التحقيقات الإدارية التي كان يحق لرئيس الدائرة - الذي هو برتبة وزير أو وكيل - تأخيرها لأسباب مختلفة، وبالتالي لا تصل إلى القضاء للبت فيها، وهو ما تم تجاوزه الآن». وبيّن أن «من بين الـ12 ألف ملف فساد كان قد حسم نحو 8000 آلاف منها، بينما بقيت قضايا مهمة تعد بالآلاف. ولذلك بدأت الآن مثل هذه الإجراءات الحاسمة لتضع الأمور في نصابها الصحيح، حيث صدرت مذكرات قبض بحق كثيرين ممن كانوا محمين لهذا السبب أو ذاك».
ليس هذا فقط، فإن إجراءات القضاء شملت إجراءات رفع الحصانة عن النواب المتهمين بالفساد، وهي مسألة كانت من الصعوبة بمكان خلال الفترات الماضية. ولقد قرر رئيس البرلمان محمد الحلبوسي البدء بنفسه، حين طلب من البرلمان رفع الحصانة عنه وعن نائبيه، في محاولة منه لتشجيع السلطة التشريعية على المضي في إجراءاتها الهادفة إلى بدء مرحلة جديدة من العمل الرقابي في البلاد.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.