مظاهرات العراق: أهداف مشروعة وسقوف متضاربة

بين الغضب الشيعي... والحذر السنّي

مظاهرات العراق: أهداف مشروعة وسقوف متضاربة
TT

مظاهرات العراق: أهداف مشروعة وسقوف متضاربة

مظاهرات العراق: أهداف مشروعة وسقوف متضاربة

لم تكن الطبقة السياسية التي حكمت العراق بعد عام 2003 تتوقع هذا النمط من المظاهرات التي سرعان ما تحولت إلى احتجاجات واسعة النطاق.
الأيام الأولى منها، حين اندلعت في الأول من شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حصدت أرواح مئات القتلى وآلاف الجرحى في سابقة لم تحصل من قبل. وبينما قدمت الحكومة والبرلمان حزما إصلاحية هي الأكبر من نوعها منذ 16 سنة، فإنها لم تؤثر سواء في زخم الاحتجاجات وتنوعها أو في تنوع سقوف مطالبها التي وصلت إلى حد الدعوة إلى تغيير النظام. والمتظاهرون، بعد وقوع أعداد كبيرة من القتلى والجرحى، أعلنوا عن تأجيل مظاهراتهم إلى يوم الخامس والعشرين من الشهر الحالي الذي يصادف مرور سنة كاملة على تولي رئيس الوزراء الحالي عادل عبد المهدي مهام منصبه.

تنفست الطبقة السياسية في العراق الصعداء خلال فترة أسبوعين في وقت بقي زخم الإعداد للمظاهرات المليونية المقبلة بدءا من يوم الـ25 من الشهر الحالي قائماً على قدم وساق، على الرغم من استمرار تقديم التنازلات من قبل الحكومة، بما فيها فتح المزيد من فرص التوظيف أو الخدمات، وتوزيع قطع الأراضي، وإعادة النظر في الرواتب والامتيازات لكبار المسؤولين ولشرائح أخرى في المجتمع.
وفضلاً عن دعوات المرجعية الدينية للتهدئة، فإن تنسيقيات المظاهرات بقيت مستمرة في التحشيد ورفع سقف المطالب دون أن تلتفت إلى ما يصدر عن البرلمان والحكومة العراقية. وفي أثناء ذلك صدر التقرير الخاص بلجنة التحقيق بالأحداث التي رافقت المظاهرات، والتي طلب المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني من رئيس الوزراء عادل عبد المهدي تشكيلها «لكي تبين حقيقة ما حصل، ومن هي الجهات والأطراف التي قصرت في عملها... المتمثل حصراً في حماية المتظاهرين ممن أطلق عليهم المندسّين والقنّاصين».

تحقيق مخيب للآمال
وفي حين كان العراقيون ينتظرون نتائج التقرير لكي تكشف الحقيقة، أو جزءاً منها في الأقل، لتضع النقاط على الحروف، الأمر الذي يمكن أن يكون له تأثير في سحب البساط من تحت أقدام الجهات التي بدأت تركب موجة المظاهرات، فإن نتائج التقرير نفسه جاءت مخيبة للآمال.
ذلك أن التقرير لم يكشف حقيقة ما حصل بشكل مهني كما كان مأمولاً. وبدلاً من أن يوضح هوية الأطراف التي تتحمل مسؤولية إطلاق الرصاص الحي، أو كيفية دخول مندسّين إلى قلب المظاهرات في ظل وجود أجهزة أمن ومخابرات واستخبارات، فإنه حمّل المسؤولية لعدد من القادة العسكريين من قادة العمليات أو قادة الشرطة في المحافظات التي وقعت فيها المظاهرات، وهي في غالبيتها، العاصمة بغداد ومحافظات الوسط والجنوب.

مفارقة دستورية
طبقا لتجربة المظاهرات في العراق منذ عام 2011 بالتزامن مع الربيع العربي آنذاك، فإن كل توقعات الطبقة السياسية الحاكمة في العراق ما كانت تتعدى ما هو مطلبي عام، يمكن حله بطرق وأساليب مختلفة ما دامت تقع تحت سقف الدستور الذي يضمن حرية التظاهر. والواقع أن الفصل الخاص بالحريات بالدستور العراقي يُعد من أفضل فصول الدستور الذي تقع مهمة إلغائه في مقدمة مطالب المتظاهرين الآن.
وفي حين حرص كتاب الدستور العراقي، الذي سبق التصويت عليه بنسبة زادت على الـ80 في المائة من أبناء الشعب العراقي - وبخاصة في الوسطين الشيعي والكردي عام 2005 - على جعل المواد الخاصة بالحقوق والحريات، وكذلك النظام الفيدرالي من بين أهم مواده التي اعتني تماماً بصياغتها، فلقد بدت المواد الأخرى ذات الطبيعة السياسية الخلافية مملوءة بالألغام التي لا أحد يتوقع متى تنفجر.
وفي حين بدأت الخلافات مبكرة حول المادة 124 الخاصة بالتعديلات الدستورية التي حددت وقتذاك سقفاً زمنياً لا يتعدى الشهور الأربعة لتعديل المواد الخلافية فيه، فإن الخلافات استمرت حتى هذا اليوم دون أن يتمكن الأفرقاء السياسيون من حسم تعديل المواد الدستورية العالقة.
المادة 140 الخاصة بالمناطق المتنازع عليها بين المركز وإقليم كردستان، وفي مقدمتها محافظة كركوك، ظلت مادة خلافية حتى اليوم، مع أن الدستور حدد لها سقفاً زمنياً لا يتجاوز عام 2007. يضاف إلى ذلك وجود أكثر من 50 مادة دستورية بقيت جامدة حتى الآن، بسبب فشل الكتل والأحزاب والقوى السياسية في تنظيمها بقانون طبقاً لما ينص عليه الدستور. انطلاقاً من ذلك، فإن المطلب الأول للمظاهرات بات الآن هو تغيير الدستور، بعدما كانت المطالب في البداية لا تتجاوز الخدمات مثل فرص العمل والسكن والضمان الصحي والاجتماعي.

حسابات مؤجلة
ربما كانت أكثر المفارقات اللافتة في المظاهرات العراقية اليوم المطالبة بتغيير الدستور بالدرجة الأولى، وتغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي، وكتابة قانون انتخابي جديد، هي أنها انطلقت من أوساط الشباب حصراً... وفي المناطق والأحياء ذات الغالبية الشيعية من بغداد وباقي محافظات الوسط والجنوب ذات الغالبية الشيعية.
وبينما يفسّر عبد الله الخربيط، النائب في البرلمان العراقي عن محافظة الأنبار - ذات الغالبية السنية - في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، امتناع العرب السنة عن المشاركة في المظاهرات بأنها تهدف إلى «تجنب توجيه اتهامات جاهزة للسنة بأن خلفها حزب البعث والإرهاب و(داعش)، فإن خروج المتظاهرين من قاع الأحياء الشيعية الفقيرة، بما فيها العشوائيات، يؤكد أن النظام الذين راهنوا عليه والذي تقوده غالبية شيعية حاكمة لم ينجح في تحقيق ما كانوا يأملون بتحقيقه».
ويرى الخربيط أن «المطالب العامة للمظاهرات صحيحة، وهي مطالب مشروعة وكان ينبغي أن تتحقق خلال السنوات الـ16 الماضية... لكن فشل نظام المحاصصة الذي تشارك فيه الجميع (الشيعة والسنة والكرد) هو الذي فجرّ الغضب الجماهيري». وبيّن النائب أن «طبيعة رد الفعل القاسية من قبل القوات الأمنية، أو بعضها على الأقل، على المتظاهرين ما كان مبرراً. وبالتالي فإن دخول السنة في المظاهرات كان من الممكن أن يخلق مشكلة على صعيد كيفية التعامل معهم... خصوصاً أن لهم تجارب سلبية سابقة، عندما أدت إلى حصول مشاكل كبيرة وهو ما مهّد فيما بعد لدخول (داعش) واحتلالها المحافظات الغربية».

غضب المناطق الشيعية
أما لماذا تفجّر الغضب الشعبي في أوساط الشيعة، وتحديداً، مناطق الوسط والجنوب، فإن لذلك أسبابا و«سيناريوهات» مختلفة؛ منها أن الجيل الجديد من أبناء هذه المناطق، وإن كان لا يختلف عن سواه من أبناء المكوّنات الأخرى (السنة والكرد)، بات ينظر إلى أن الطبقة التي تصدّرت السلطة، وهي شيعية في المقام الأول، لم تحقق له ما كان ينتظره من وطن يتمتع بكل ما تتمتع به الأوطان من عيش كريم وفرص عمل متساوية وعدالة اجتماعية وحكم رشيد. وهذا، مع العلم، أن العراق بلد غني بموارده وثرواته.
من ثم، بدت الحسابات التي انطلق منها هذا الجيل مؤجلة، وتعود إلى 16 سنة مضت. وطبقاً لطبيعة الحكم الذي يتركز بيد الشيعة - الذين لهم رئاسة الوزراء التي تتضمن كل الصلاحيات - كان ينبغي أن يكون حال العراق في وضع أفضل بكثير مما هو عليه اليوم، ولا سيما، أن معظم الشيعة الفقراء يقطنون في منازل بائسة في عشوائيات ومدن صفيح. ومن ثم، فإن فقراءهم يشعرون بالمفارقة من أن تكون السلطة بيدهم... وأن يتركّز الغنى والثروات في يد قلة قليلة ممن كانوا يعيشون خارج العراق وجاؤوا إليه مع الاحتلال الأميركي عام 2003.

الحلول والسقوف والأولويات
هذه أول مظاهرات في العراق تدخل شهرها الثاني، في وقت يزداد زخمها الجماهيري لتشمل مؤخراً طلبة الجامعات والمدارس الإعدادية. وبينما بدأت المظاهرات شيعية مناطقية (أحياء بغداد ذات الغالبية الشيعية) ومحافظات الوسط والجنوب ذات الغالبية الشيعية، فإنها تحولت إلى وطنية عامة تقريباً بعدما انضمت إليها أحياء ذات غالبية سنّية من العاصمة بغداد. وفي الوقت الذي لم تخرج مظاهرات في المحافظات الغربية ذات الغالبية السنّية خشية أن يجري اختطافها، كما حصل في مظاهرات عام 2013 التي مهدت لعودة تنظيم «داعش»، سجّلت مساهمات من بعض تلك المحافظات بإرسال مواد غذائية وطبية إلى المتظاهرين في ساحة التحرير.
مع كل ما تقدّم، فإن هذه المظاهرات، بدلت تعاطي السلطات العراقية الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية مع مطالب المتظاهرين. وباتت تراها كجزء من الحلول الضرورية الممهدة للحل النهائي لمشكلة النظام السياسي في البلاد. وهذا، رغم عدم وجود أهداف موحدة للمظاهرات فضلاً عن عدم بروز قيادات لها... ما يجعل سقوفها مرتفعة مرة ومتناقضة مرة أخرى.
وفي هذا السياق، في إطار الحلول المقترحة من قبل السلطات الثلاث في العراق وصلتها بالسقوف المتضاربة للمظاهرات... تتجسد المشكلة بالأولويات. إذ في حين تكاد تتفق الطبقة السياسية بكل قواها على أن أهداف المظاهرات سلمية ومشروعة، فإنهم يرون أن البداية هي تقديم الحلول ذات الطابع الخدمي (فرص عمل وسكن وضمان صحي واجتماعي)... وصولاً إلى إصلاح بنية النظام الأساسية بدءاً من تعديل الدستور، وإقرار قانون انتخابات جديد، وإمكانية تحويل العراق من نظام برلماني إلى رئاسي.
غير أن المتظاهرين يرفضون إصلاحات الحكومة، مهما بدت جادة، لأنهم يريدون البدء بإصلاح النظام أولاً. وعليه، فهم يصرون مرة على إقالة الحكومة، أو إلغاء النظام كله مرة أخرى... من دون وجود خريطة طريق يمكن أن تتحقق من خلالها مثل هذه الآلية.

تصويت البرلمان... والفساد
البرلمان العراقي من جهته، صوّت على حزمة من القرارات والإجراءات عدّت الأقوى منذ عام 2003، الذي يشكل بداية النظام السياسي الجديد في العراق.
من بين أهم القرارات التي اتخذها البرلمان: إلغاء مجالس المحافظات والمجالس البلدية في الأقضية والنواحي، وهو ما يُعد أقوى ضربة للحكم المحلي في البلاد.
كذلك قرر البرلمان تشكيل لجنة لتعديل الدستور العراقي. وصوّت على إلزام الحكومة عدم الجمع بين راتبين، ومن بينها رواتب رفحاء التي أثارت على مدى سنوات جدلاً في الأوساط العراقية بسبب جمع المشمولين بها راتبا لكل فرد في العائلة. كما صوّت على إلغاء امتيازات الرئاسات الثلاث والمناصب الكبرى في البلاد.
القضاء من جهته، اتخذ إجراءات استثنائية بشأن مكافحة الفساد في البلاد. وقال المجلس في بيان له إنه «على ضوء ما يجري من أحداث وبعد المداولة الإلكترونية، والاجتماع الطارئ بين رئيس مجلس القضاء الأعلى مع أعضاء مجلس القضاء الأعلى، فقد توصل المجلس إلى الإيعاز إلى المحكمة المركزية لمكافحة الفساد باتخاذ الإجراءات الاستثنائية بإصدار مذكرات القبض بحق المتهمين الداخلة قضاياهم ضمن اختصاص المحكمة ومنع سفرهم والإيعاز إلى الجهات التنفيذية بذلك».
وأضاف: «كما يعلن المجلس أن المادة الثانية الفقرة 2 من قانون مكافحة الإرهاب النافذ تنص على أن يعد من الأفعال الإرهابية (العمل بالعنف والتهديد على هدم أو إتلاف أو أضرار عن عمد مبان أو أملاك عامة أو مصالح حكومية أو مؤسسات أو هيئات حكومية أو دوائر الدولة والقطاع الخاص أو المرافق العامة)، كذلك يعد بموجب الفقرة 5 من المادة الثانية المذكورة عملاً إرهابياً مَن يعتدي بالأسلحة النارية على دوائر للجيش أو للشرطة أو الدوائر الأمنية أو الاعتداء على القطعات العسكرية الوطنية، وأن هذه الجرائم يعاقب عليها القانون بالإعدام وفق قانون مكافحة الإرهاب».
وفي هذا الصدد، أكد سعيد ياسين موسى، عضو المجلس الأعلى لمكافحة الفساد في العراق، الذي يترأسه رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «الإجراءات الاستثنائية، التي اتخذها مجلس القضاء الأعلى على صعيد بدء إجراءات فعالة لمحاربة الفساد، سوف تؤدي إلى حسم نحو أكثر من 12 ألف ملف فساد كانت محمية في السابق بسبب التأخير في الإجراءات الإدارية التي كانت تمثل سياجا منيعا لحماية الفاسدين».
وأضاف موسى أن «تأخير حسم تلك الملفات لم يكن بسبب القضاء، بل بسبب التحقيقات الإدارية التي كان يحق لرئيس الدائرة - الذي هو برتبة وزير أو وكيل - تأخيرها لأسباب مختلفة، وبالتالي لا تصل إلى القضاء للبت فيها، وهو ما تم تجاوزه الآن». وبيّن أن «من بين الـ12 ألف ملف فساد كان قد حسم نحو 8000 آلاف منها، بينما بقيت قضايا مهمة تعد بالآلاف. ولذلك بدأت الآن مثل هذه الإجراءات الحاسمة لتضع الأمور في نصابها الصحيح، حيث صدرت مذكرات قبض بحق كثيرين ممن كانوا محمين لهذا السبب أو ذاك».
ليس هذا فقط، فإن إجراءات القضاء شملت إجراءات رفع الحصانة عن النواب المتهمين بالفساد، وهي مسألة كانت من الصعوبة بمكان خلال الفترات الماضية. ولقد قرر رئيس البرلمان محمد الحلبوسي البدء بنفسه، حين طلب من البرلمان رفع الحصانة عنه وعن نائبيه، في محاولة منه لتشجيع السلطة التشريعية على المضي في إجراءاتها الهادفة إلى بدء مرحلة جديدة من العمل الرقابي في البلاد.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.