«دار الهلال»... حكاية لا تنتهي وموطن الأدباء في مصر

منذ أن قام جرجي زيدان بإصدار أول أعداد مجلة «الهلال» في سبتمبر عام 1892

مؤسس الدار جورجي زيدان
مؤسس الدار جورجي زيدان
TT

«دار الهلال»... حكاية لا تنتهي وموطن الأدباء في مصر

مؤسس الدار جورجي زيدان
مؤسس الدار جورجي زيدان

عندما تدلف داخل المبنى العريق لـ«دار الهلال» لا تستطيع مقاومة الإحساس بالرهبة من مكان سبقك إليه كبار الكتاب والأدباء وعمالقة الفكر والسياسة الذين لطالما ساهموا في تشكيل دور المؤسسة التنويري، عبر كتاباتهم وإنتاجهم الإبداعي على صفحات إصداراتها المتنوعة. كما أنك لا تستطيع أن تمر سريعاً دون أن تتأمل فخامة مبناها الذي صممه المهندس الإيطالي ألبيرت زنانيري، وسط أيقونات معمارية وتعليمية وتنويرية أخرى قابعة في الشارع الذي يحمل اسم أول مدرسة ابتدائية في مصر «المبتديان»، فتشعر بأنك أمام قطعة أصيلة من التاريخ وثيقة الارتباط بمختلف فئات القراء. ورغم ما تعانيه المؤسسات الصحافية القومية في مصر من أزمات مالية، فإن «دار الهلال» قادرة على الصمود والاستمرار عبر طباعة إصداراتها المتنوعة بصفة منتظمة.
وما أن تعبر بوابة مؤسسة «دار الهلال» العريقة الزجاجية التي تسمح بمرور الضوء إلى الداخل نهاراً، وتتأمل المدخل الفسيح ذا الثريات المدلاة والمصابيح الجانبية والسقف المرتفع، والرخام الفخم والدرج العالي، وغيرها من تفاصيل المكان حتى يتملكك إحساس آخر بسعة الأفق ورحابة الفكر والعراقة، ولا سيما حين تجد في استقبالك التماثيل الأربعة التي تقف بثبات على جانبي الدرج وتجسد كل منها امرأة ترفع يدها اليمنى حاملة مشعلاً يرمز إلى الاستنارة والحرية، في حين يطل بورتريه مميز نُحت لمؤسس الدار جرجي زيدان وسط نور يحيط به من جميع الجوانب.
على يسار بورتريه مؤسس الدار يوجد باب حديدي صغير يأخذ الزائر إلى مطبعة الدار التي تكاد تنفرد بين المؤسسات الصحافية في مصر والمنطقة العربية بأنها تجمع بين أقدم آلات الطباعة وأحدثها في الوقت ذاته، ولا تقتصر أهمية هذا الباب في أنه يقودك إلى ممر طويل يعد طريقاً مختصرة هادئة لها بعيداً عن ضجيج الشارع، إنما يستمد جانباً من خصوصيته في أنه كان شاهداً على أحداث وذكريات عزيزة لدى الدار؛ حيث لا يُسمح بفتحه سوى لكبار الزوار في المناسبات الخاصة، وقد مر من خلاله قامات ثقافية وسياسية كبيرة منها المفكر عباس محمود العقاد في زيارته للمطبعة في النصف الأول من القرن العشرين، وكانت المؤسسة حريصة على التقاط الصور له وهو ينظر باعتزاز للإصدارات أثناء طبعها وكأنه يباركها، كما مر من الباب نفسه رئيس الجمهورية الأسبق محمد حسني مبارك أثناء زيارته للدار بمناسبة عيدها المئوي.
- بداية تأسيس الدار
لكي تصعد إلى أعلى حيث صالات ومكاتب تحرير إصدارات المؤسسة المكونة من طابقين - إلى جانب المدخل ومبنى جديد ملحق بها، يمكنك أن تختار السلالم الواسعة ذات الطراز الكلاسيكي والنوافذ الزجاجية المرتفعة الضخمة، أو أحد المصعدين القديمين اللذين يستقران على يمين ويسار الجزء الأول من الدرج، ويتميزان هما أيضاً بتصميمهما الكلاسيكي القديم والزخارف الحديدية ومساحتيهما الصغيرة التي لا تستقبل سوى فردين.
وكأنك في كل مرة تصعد فيها إلى أعلى ليس عليك سوى استعادة فصل من حكاية هذا الدار التي لا تنتهي منذ قام جورجي زيدان بإصدار أول أعداد مجلة «الهلال» في سبتمبر (أيلول) عام 1892، من مطبعة متواضعة في دكان صغير بشارع الفجالة بقلب القاهرة، وربما لم يدر بخلده عندئذ أن هذه المجلة ستستمر إلى ما يزيد على قرن من الزمان، وأنها ستصبح ملتقى عمالقة والأدب والثقافة في مصر والعالم العربي، فبعد رحيل جورجي زيدان عام 1914، تولى ولداه إميل وشكري الإدارة واتجها إلى التوسع في إصداراتها.
وتستطيع أن تستنشق عبق هذا التاريخ منذ الخطوة الأولى التي تخطوها داخل الدار، ويتأكد هذا الإحساس عند الصعود للدور الأول بها فيستقبلك طرازها الأوروبي وممراتها الطويلة وتصميم المكان الذي يضفي عليها مزيداً من الوقار والأصالة، وفي هذا الطابق يقودك الممر الرئيسي إلى المجلة التي كانت بمثابة لسان حال مصر بالكلمة والصورة «المصور» التي صدر عددها الأول في عام 1924، فعبر صفحاتها دخل المصريون القصور الملكية، وشاهدوا عن قرب الملك فؤاد ومن ثم فاروق، ولمسوا قوة الملكة الأم، وراقبوا الأميرات الصغيرات أثناء لعبهن في حديقة القصر، كما عاش القراء الأحداث الكبرى في مصر والعالم وخاضوا المعارك السياسية والثقافية عبر صفحاتها اللامعة.
ويمكن لزائر الدار أن يلتقي عدداً من رواد الإعلام والفكر في مصر عبر الصور المعلقة على جدران الممر لرؤساء تحرير المجلة، ومنهم إميل وشكري زيدان، وفكري أباظة، وأحمد بهاء الدين، وصبري أبو المجد ومكرم محمد أحمد، إلى جانب عمالقة الفكر والسياسة ممن كتبوا على صفحاتها مثل الدكتور طه حسين، وعباس العقاد، وجمال حمدان وغيرهم؛ إذ كان ذلك أول قرار اتخذه رئيس تحريرها الحالي أحمد أيوب بعد توليه المسؤولية: «أردت أن أجعل الزوار والصحافيين يتعرفون على هؤلاء العظماء الذين ساهموا في تشكيل فكر وثقافة القراء على مدى تاريخها».
- زيارات تاريخية
إذا ما انتقلت من ممرات مجلة «المصور» إلى المكاتب عليك أن تبدأ بمكتب الصحافي الراحل حلمي سلام، وهو المكتب الذي لا يزال يحتفظ بالمقاعد الجلد الداكن وأرفف الأوراق والدواليب القديمة، كما يحتفظ كذلك بذكريات زيارة الرئيس محمد نجيب، وبعض أعضاء مجلس قيادة ثورة 23 يوليو (تموز) للدار، وكيف أصروا على أن يكون اللقاء داخل مكتب سلام، الذي كان يشغل مدير تحرير المجلة في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، وليس في مكتب رئيس التحرير تقديراً لدور سلام الذي نشر قبل الثورة وبعدها معلومات وخبايا مدّه بها الضباط الأحرار، حيث كان على صلة وثيقة بقيادات 23 يوليو؛ ما يؤكد الدور السياسي للمجلة.
يقول أحمد أيوب، رئيس تحرير مجلة «المصور»، لـ«الشرق الأوسط»: «عندما نتحدث عن مجلة تصدر منذ 95 سنة بلا انقطاع، فهذا معناه أن هذه المجلة استطاعت أن تواجه كل العثرات والمنعطفات التاريخية التي مرت بها مصر والمنطقة؛ ما يجعلها واحدة من ثوابت العمل الصحافي في مصر».
وإذا رجع القارئ إلى أعداد من مجلة «المصور» الصادرة خلال حقب زمنية مختلفة بدايةً من عشرينات القرن الماضي وحتى العدد الأخير منها، فإنه يصل إلى حقيقة أن المجلة تعتمد على مدى تاريخها على الصورة الاحترافية، والخبر الموثق، والتحليل العميق، ومواجهة قوى الظلام والتطرف على مدار تاريخها.
وإذا ما تجولت بين أرجاء المكان، فإنه يمكنك التوجه إلى مكتب صاحب أطول فترة رئاسة تحرير للمجلة (35 عاماً) وهو الكاتب الساخر فكري باشا أباظة، الشهير بلقب «الضاحك الباكي»، وفي مكتبه يمكنك أن تستعيد بعض نوادره وحواديته التي لم يكن يتوقف عن ذكرها، أو تحاول تتخيل روعة مذاق قطع الشوكولاته الفاخرة التي كان يقدمها لزائريه، وكيف كان يتعجب ويستنكر موقف من يعلن أنه ليس من محبيها، ويروي أحمد أيوب بعضاً من الذكريات التي سمعها من أساتذته عنه قائلاً: «اشتهر بخفة ظله وتواضعه، ونشاطه، فبعد مغادرة الدار عصراً كان يتجه إلى النادي الأهلي ليقضي الليل فيه، حيث كان رئيساً شرفياً له». وتبقى من أهم الحواديت التي تخص «الضاحك الباكي» هو استمرار اسمه على ترويسة المجلة كرئيس تحرير حتى بعد تولي أحمد بهاء الدين المسؤولية، حيث كانت الترويسة تضم الاسمين معاً اتباعاً لتقاليد أصيلة للدار تجاه روادها».
وفي الطابق الأول أيضاً تستشعر طغيان حضور قامات أخرى عاشت بين أرجائها وعاش معهم القراء عبر كتاباتهم، حيث تجد نفسك أمام كتاب حاليين بارزين.
وقبل أن تغادر الطابق الأول هناك مكان آخر يجذبك لزيارته، حيث المجلة صاحبة الأسلوب العلمي المبسط «طبيبك الخاص» التي لا تزال تعد واحدة من أكثر إصدارات الدار هدوءاً، وربما لأن العاملين فيها ما زالوا يخشون المداعبة القاسية الحاسمة لرئيس تحريرها الأسبق الدكتور عبد الرحمن نور الدين، لمن كان يعلو صوته أو يضحك: «سوف أكسر حنجرتك إن ارتفع صوتك مرة أخرى».
- مجلة «الهلال» العريقة
وعندما تصعد إلى الطابق الثاني ستشعر بأنك قد انتقلت إلى رحلة عبر التاريخ حيث تلتقي بمجلة «الهلال» التي يصفها رئيس تحريرها خالد ناجح بأنها «أقدم مجلة ثقافية في العالم العربي منتظمة الصدور، ومن أقدم المجلات الثقافية في العالم والتي يعود تاريخ إصدارها إلى عام 1892». ويقول ناجح: حين توليت مسؤولية تحريرها انتابني شعور يمزج بين «الرعب والرهبة، ولا سيما في ضوء الأسماء العظيمة للعمالقة رؤساء التحرير الذين سبقوني إليها».
ويضيف: «على صفحاتها كتب كبار الأدباء المصريين والعرب، ومنهم علي الجارم، ويوسف السباعي، وبنت الشاطئ، والدكتورة سهير القلماوي، ومحمود تيمور، وميخائيل نعيمة، وعلى أحمد باكثير ومحمود تيمور، وغيرهم إلى جانب المقالات النقدية التي كتبها كبار المفكرين، مثل دكتور طه حسين، وعباس محمود العقاد».
كما نهل القراء من الثقافة الإنسانية المختزنة في الآداب العالمية بترجمة صحيحة مع روائع فرنسواز ساغان، وديستويفسكي، وستيفان زفايج، وتشيكوف وإرنست هيمنجواي وليو تولستوي وبلزاك، وسومرست موم، وغيرهم، وعلى صفحات «كتاب الشهر» التقى القراء بروائع أدبية ليضاف إلى الدور الصحافي للمؤسسة دورها الرائد في الترجمة والنشر أيضاً.
- صور وكاميرات عتيقة
وأمام مجلة «الهلال» باب يأخذك في رحلة عبر الزمن إلى عالم الأبيض والأسود جنباً إلى جنب أحدث تقنيات الألوان، إنه باب قسم التصوير بها الذي يطلق عليه «استوديو» والمكتوب عليه «ممنوع الدخول»، وإذا نجحت أن تتسلل عبر الباب إلى الداخل فسيقودك ممر صغير ضيق زُينت جدرانه بصور التقطتها عدسات مصوري الدار لمنعطفات ولأحداث تاريخية ولشخصيات مصرية وعالمية في مختلف المجالات، إلى جانب الاحتفاء بالمنطقة العربية، حيث تلتقي بكمٍّ هائل من صور نادرة تجسد تفاصيل الحياة اليومية العربية ما بين السياسة والاقتصاد والعادات والتقاليد والبيوت والأزقة والأسواق العتيقة، وحين تبدي دهشتك متسائلاً متى وكيف التقط مصورو الدار هذه الصور؟! تصل إلى السر الذي غاب عن الذاكرة، وهو أن مجلة «المصور» ظلت لسنوات تصدر عدداً شهرياً اسمه «المصور العربي» في إطاره كان ينتقل فريق من محرري ومصوري المجلة إلى دولة عربية كل شهر لرصد الحياة بها.
ومما يبهرك أن الاستوديو يضم أقدم آلات التصوير وأحدثها في الوقت ذاته، حيث تستقبلك في إحدى غرفه كاميرا قديمة تعود إلى أوائل الكاميرات التي عرفتها الصحافة في المنطقة، كما أنه في نهاية الممر ستجد واحداً من أقدم معامل التحميض التي عرفتها مصر، ولا تزال المؤسسة تحتفظ به كما هو في غرفة مغلقة لا يدخلها أحد، لكن إذا نجحت أن تدخلها فسيبهرك عبق التاريخ الذي ستتنفسه من بين تفاصيل المكان.
ويقول عادل سعد، المدير السابق لمركز التراث بـ«دار الهلال» في حديثه مع «الشرق الأوسط»: لا يزال في الدار كنوز لم يكتشفها أحد، فهناك أكثر من 7 ملايين نيجاتيف أبيض وأسود. بعض هذا النيجاتيف جزء من تاريخ الوطن وأحداثه وشخوصه بخلاف ملايين أخرى من صور الألوان وشرائح السلايد وبطاقات الصور الورقية. إضافة إلى جبال من الحقائق والأسرار والخفايا تنتظر فهرستها وترتيبها وإعادة إنتاجها في مطبوعات وأفلام، فقد حرص أصحاب الدار منذ البداية على التعامل باحترافية مع التصوير والاستديو والمعمل».
وإذا انتقلت من الجناح الذي يضم مجلة «الهلال» واستديو التصوير إلى الجناح المقابل ستعثر على كنوز صحافية أخرى، حيث تقابلك مجلة «الكواكب» التي نجحت منذ عددها الأول عام 1932 أن تحتل مكاناً متميزاً بين كل المجلات الفنية في تلك الفترة. من حيث المضمون والشكل، يقول الفنان حلمي التوني لـ«الشرق الأوسط»: «نجحنا في رفع مستوى الرسم الصحافي إلى مستوى اللوحة الفنية، ووصلنا إلى عدد كبير من الجمهور في البيوت العربية». مؤكداً أن الثقافة الأنيقة هي السمة الغالبة على إصدارات «دار الهلال».
- «حواء» تدافع عن حواء
وعلى بعد خطوات من مجلة «الكواكب» تقع مكاتب مجلة «حواء» وستجد حكايات الكاتبة الصحافية أمينة السعيد، تملأ المكان ستتخيلها حتماً وهي تمسك بقلمها في الغرفة الواسعة لمكتبها، وهي ترد تارة على أسئلة القراء في باب «اسألوني» بأسلوب عذب، وتارة أخرى وهي تنخرط في معاركها الشهيرة مدافعة عن المرأة ومكتسباتها رافضة عودتها للبيت.
وإذا كانت «أمينة هانم السعيد» كما كان يطلقون عليها في الدار، قد تعرضت للهجوم أثناء حياتها بسبب دفاعها عن المرأة، فإن العم حسن عمار، من قدامى العاملين بالدار ممن عاصروها، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «كانت هادئة الطباع، تتحدث بصوت منخفض، وتتعامل مع الجميع برقي واحترام شديدين، تقضي وقتها في العمل الجاد واستقبال القارئات ممن لديهن مشاكل، وتحرص على حل مشاكلهن العاطفية أو الاجتماعية، ولكم جاءت قارئات فرحات لشكرها على ذلك، وبجانب الزيارات كانت تصلها خطابات عبر البريد». مشيراً إلى أن «أمينة هانم والمحررات كن يتمتعن بالأناقة وكأنهن نجمات سينما».
وعلى بعد خطوات من مقر «حواء»، تبرز مجلة الطفل الشهيرة «سمير»، وعن أشهر رؤساء تحريرها يقول العم حسن: «كان أبرزهن السيدة نتيلة راشد التي كانت تحب أن يناديها الجميع بلقب (ماما لبنى)».
ولا تتوقف ذكريات عم حسن الذي يختزن في ذاكرته الحديدية أسراراً لا تحصى عن المكان... إذ يضحك وهو يتذكر كيف كان زملاؤه يحسدونه لأنه كان يقدم المشروبات و«واجب الضيافة» لنجمات مصر والفن العربي بجمالهن وسحرهن أثناء حضورهن ندوات مجلة «الكواكب» أو زيارتهن للصحافيين: «كانت المجلة قوية ووجهة للفن والفنانين، وكان نشر خبر فيها بمثابة شهادة ميلاد لأي ممثل أو مغنٍ». ويقول: «أشهر نجمات ونجوم زمن الفن الجميل جاءوا إلى هنا».
ويصف العم حسن الكاتب المصري الراحل أحمد بهاء الدين بـ«الرزين والمتواضع»، ويقول: «كثيراً ما كان يأتي بسيارته ويقودها بنفسه، كما كان الكاتب يوسف السباعي يتسم بالأناقة الشديدة، أما صبري أبو المجد فإنه «قارئ نهم». ويتذكر: «ذات يوم جاء ضيف للأستاذ أبو المجد، ودخل مكتبه، لكن سرعان ما خرج، وهو يبلغنا أنه ليس بالداخل، في حين أنه كان يجلس على المكتب ولم يره الضيف بسبب أكوام الكتب والصحف المتكدسة حوله، ولا تستطيع سوى أن ترى منها رأسه فقط».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)