«دار الهلال»... حكاية لا تنتهي وموطن الأدباء في مصر

منذ أن قام جرجي زيدان بإصدار أول أعداد مجلة «الهلال» في سبتمبر عام 1892

مؤسس الدار جورجي زيدان
مؤسس الدار جورجي زيدان
TT

«دار الهلال»... حكاية لا تنتهي وموطن الأدباء في مصر

مؤسس الدار جورجي زيدان
مؤسس الدار جورجي زيدان

عندما تدلف داخل المبنى العريق لـ«دار الهلال» لا تستطيع مقاومة الإحساس بالرهبة من مكان سبقك إليه كبار الكتاب والأدباء وعمالقة الفكر والسياسة الذين لطالما ساهموا في تشكيل دور المؤسسة التنويري، عبر كتاباتهم وإنتاجهم الإبداعي على صفحات إصداراتها المتنوعة. كما أنك لا تستطيع أن تمر سريعاً دون أن تتأمل فخامة مبناها الذي صممه المهندس الإيطالي ألبيرت زنانيري، وسط أيقونات معمارية وتعليمية وتنويرية أخرى قابعة في الشارع الذي يحمل اسم أول مدرسة ابتدائية في مصر «المبتديان»، فتشعر بأنك أمام قطعة أصيلة من التاريخ وثيقة الارتباط بمختلف فئات القراء. ورغم ما تعانيه المؤسسات الصحافية القومية في مصر من أزمات مالية، فإن «دار الهلال» قادرة على الصمود والاستمرار عبر طباعة إصداراتها المتنوعة بصفة منتظمة.
وما أن تعبر بوابة مؤسسة «دار الهلال» العريقة الزجاجية التي تسمح بمرور الضوء إلى الداخل نهاراً، وتتأمل المدخل الفسيح ذا الثريات المدلاة والمصابيح الجانبية والسقف المرتفع، والرخام الفخم والدرج العالي، وغيرها من تفاصيل المكان حتى يتملكك إحساس آخر بسعة الأفق ورحابة الفكر والعراقة، ولا سيما حين تجد في استقبالك التماثيل الأربعة التي تقف بثبات على جانبي الدرج وتجسد كل منها امرأة ترفع يدها اليمنى حاملة مشعلاً يرمز إلى الاستنارة والحرية، في حين يطل بورتريه مميز نُحت لمؤسس الدار جرجي زيدان وسط نور يحيط به من جميع الجوانب.
على يسار بورتريه مؤسس الدار يوجد باب حديدي صغير يأخذ الزائر إلى مطبعة الدار التي تكاد تنفرد بين المؤسسات الصحافية في مصر والمنطقة العربية بأنها تجمع بين أقدم آلات الطباعة وأحدثها في الوقت ذاته، ولا تقتصر أهمية هذا الباب في أنه يقودك إلى ممر طويل يعد طريقاً مختصرة هادئة لها بعيداً عن ضجيج الشارع، إنما يستمد جانباً من خصوصيته في أنه كان شاهداً على أحداث وذكريات عزيزة لدى الدار؛ حيث لا يُسمح بفتحه سوى لكبار الزوار في المناسبات الخاصة، وقد مر من خلاله قامات ثقافية وسياسية كبيرة منها المفكر عباس محمود العقاد في زيارته للمطبعة في النصف الأول من القرن العشرين، وكانت المؤسسة حريصة على التقاط الصور له وهو ينظر باعتزاز للإصدارات أثناء طبعها وكأنه يباركها، كما مر من الباب نفسه رئيس الجمهورية الأسبق محمد حسني مبارك أثناء زيارته للدار بمناسبة عيدها المئوي.
- بداية تأسيس الدار
لكي تصعد إلى أعلى حيث صالات ومكاتب تحرير إصدارات المؤسسة المكونة من طابقين - إلى جانب المدخل ومبنى جديد ملحق بها، يمكنك أن تختار السلالم الواسعة ذات الطراز الكلاسيكي والنوافذ الزجاجية المرتفعة الضخمة، أو أحد المصعدين القديمين اللذين يستقران على يمين ويسار الجزء الأول من الدرج، ويتميزان هما أيضاً بتصميمهما الكلاسيكي القديم والزخارف الحديدية ومساحتيهما الصغيرة التي لا تستقبل سوى فردين.
وكأنك في كل مرة تصعد فيها إلى أعلى ليس عليك سوى استعادة فصل من حكاية هذا الدار التي لا تنتهي منذ قام جورجي زيدان بإصدار أول أعداد مجلة «الهلال» في سبتمبر (أيلول) عام 1892، من مطبعة متواضعة في دكان صغير بشارع الفجالة بقلب القاهرة، وربما لم يدر بخلده عندئذ أن هذه المجلة ستستمر إلى ما يزيد على قرن من الزمان، وأنها ستصبح ملتقى عمالقة والأدب والثقافة في مصر والعالم العربي، فبعد رحيل جورجي زيدان عام 1914، تولى ولداه إميل وشكري الإدارة واتجها إلى التوسع في إصداراتها.
وتستطيع أن تستنشق عبق هذا التاريخ منذ الخطوة الأولى التي تخطوها داخل الدار، ويتأكد هذا الإحساس عند الصعود للدور الأول بها فيستقبلك طرازها الأوروبي وممراتها الطويلة وتصميم المكان الذي يضفي عليها مزيداً من الوقار والأصالة، وفي هذا الطابق يقودك الممر الرئيسي إلى المجلة التي كانت بمثابة لسان حال مصر بالكلمة والصورة «المصور» التي صدر عددها الأول في عام 1924، فعبر صفحاتها دخل المصريون القصور الملكية، وشاهدوا عن قرب الملك فؤاد ومن ثم فاروق، ولمسوا قوة الملكة الأم، وراقبوا الأميرات الصغيرات أثناء لعبهن في حديقة القصر، كما عاش القراء الأحداث الكبرى في مصر والعالم وخاضوا المعارك السياسية والثقافية عبر صفحاتها اللامعة.
ويمكن لزائر الدار أن يلتقي عدداً من رواد الإعلام والفكر في مصر عبر الصور المعلقة على جدران الممر لرؤساء تحرير المجلة، ومنهم إميل وشكري زيدان، وفكري أباظة، وأحمد بهاء الدين، وصبري أبو المجد ومكرم محمد أحمد، إلى جانب عمالقة الفكر والسياسة ممن كتبوا على صفحاتها مثل الدكتور طه حسين، وعباس العقاد، وجمال حمدان وغيرهم؛ إذ كان ذلك أول قرار اتخذه رئيس تحريرها الحالي أحمد أيوب بعد توليه المسؤولية: «أردت أن أجعل الزوار والصحافيين يتعرفون على هؤلاء العظماء الذين ساهموا في تشكيل فكر وثقافة القراء على مدى تاريخها».
- زيارات تاريخية
إذا ما انتقلت من ممرات مجلة «المصور» إلى المكاتب عليك أن تبدأ بمكتب الصحافي الراحل حلمي سلام، وهو المكتب الذي لا يزال يحتفظ بالمقاعد الجلد الداكن وأرفف الأوراق والدواليب القديمة، كما يحتفظ كذلك بذكريات زيارة الرئيس محمد نجيب، وبعض أعضاء مجلس قيادة ثورة 23 يوليو (تموز) للدار، وكيف أصروا على أن يكون اللقاء داخل مكتب سلام، الذي كان يشغل مدير تحرير المجلة في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، وليس في مكتب رئيس التحرير تقديراً لدور سلام الذي نشر قبل الثورة وبعدها معلومات وخبايا مدّه بها الضباط الأحرار، حيث كان على صلة وثيقة بقيادات 23 يوليو؛ ما يؤكد الدور السياسي للمجلة.
يقول أحمد أيوب، رئيس تحرير مجلة «المصور»، لـ«الشرق الأوسط»: «عندما نتحدث عن مجلة تصدر منذ 95 سنة بلا انقطاع، فهذا معناه أن هذه المجلة استطاعت أن تواجه كل العثرات والمنعطفات التاريخية التي مرت بها مصر والمنطقة؛ ما يجعلها واحدة من ثوابت العمل الصحافي في مصر».
وإذا رجع القارئ إلى أعداد من مجلة «المصور» الصادرة خلال حقب زمنية مختلفة بدايةً من عشرينات القرن الماضي وحتى العدد الأخير منها، فإنه يصل إلى حقيقة أن المجلة تعتمد على مدى تاريخها على الصورة الاحترافية، والخبر الموثق، والتحليل العميق، ومواجهة قوى الظلام والتطرف على مدار تاريخها.
وإذا ما تجولت بين أرجاء المكان، فإنه يمكنك التوجه إلى مكتب صاحب أطول فترة رئاسة تحرير للمجلة (35 عاماً) وهو الكاتب الساخر فكري باشا أباظة، الشهير بلقب «الضاحك الباكي»، وفي مكتبه يمكنك أن تستعيد بعض نوادره وحواديته التي لم يكن يتوقف عن ذكرها، أو تحاول تتخيل روعة مذاق قطع الشوكولاته الفاخرة التي كان يقدمها لزائريه، وكيف كان يتعجب ويستنكر موقف من يعلن أنه ليس من محبيها، ويروي أحمد أيوب بعضاً من الذكريات التي سمعها من أساتذته عنه قائلاً: «اشتهر بخفة ظله وتواضعه، ونشاطه، فبعد مغادرة الدار عصراً كان يتجه إلى النادي الأهلي ليقضي الليل فيه، حيث كان رئيساً شرفياً له». وتبقى من أهم الحواديت التي تخص «الضاحك الباكي» هو استمرار اسمه على ترويسة المجلة كرئيس تحرير حتى بعد تولي أحمد بهاء الدين المسؤولية، حيث كانت الترويسة تضم الاسمين معاً اتباعاً لتقاليد أصيلة للدار تجاه روادها».
وفي الطابق الأول أيضاً تستشعر طغيان حضور قامات أخرى عاشت بين أرجائها وعاش معهم القراء عبر كتاباتهم، حيث تجد نفسك أمام كتاب حاليين بارزين.
وقبل أن تغادر الطابق الأول هناك مكان آخر يجذبك لزيارته، حيث المجلة صاحبة الأسلوب العلمي المبسط «طبيبك الخاص» التي لا تزال تعد واحدة من أكثر إصدارات الدار هدوءاً، وربما لأن العاملين فيها ما زالوا يخشون المداعبة القاسية الحاسمة لرئيس تحريرها الأسبق الدكتور عبد الرحمن نور الدين، لمن كان يعلو صوته أو يضحك: «سوف أكسر حنجرتك إن ارتفع صوتك مرة أخرى».
- مجلة «الهلال» العريقة
وعندما تصعد إلى الطابق الثاني ستشعر بأنك قد انتقلت إلى رحلة عبر التاريخ حيث تلتقي بمجلة «الهلال» التي يصفها رئيس تحريرها خالد ناجح بأنها «أقدم مجلة ثقافية في العالم العربي منتظمة الصدور، ومن أقدم المجلات الثقافية في العالم والتي يعود تاريخ إصدارها إلى عام 1892». ويقول ناجح: حين توليت مسؤولية تحريرها انتابني شعور يمزج بين «الرعب والرهبة، ولا سيما في ضوء الأسماء العظيمة للعمالقة رؤساء التحرير الذين سبقوني إليها».
ويضيف: «على صفحاتها كتب كبار الأدباء المصريين والعرب، ومنهم علي الجارم، ويوسف السباعي، وبنت الشاطئ، والدكتورة سهير القلماوي، ومحمود تيمور، وميخائيل نعيمة، وعلى أحمد باكثير ومحمود تيمور، وغيرهم إلى جانب المقالات النقدية التي كتبها كبار المفكرين، مثل دكتور طه حسين، وعباس محمود العقاد».
كما نهل القراء من الثقافة الإنسانية المختزنة في الآداب العالمية بترجمة صحيحة مع روائع فرنسواز ساغان، وديستويفسكي، وستيفان زفايج، وتشيكوف وإرنست هيمنجواي وليو تولستوي وبلزاك، وسومرست موم، وغيرهم، وعلى صفحات «كتاب الشهر» التقى القراء بروائع أدبية ليضاف إلى الدور الصحافي للمؤسسة دورها الرائد في الترجمة والنشر أيضاً.
- صور وكاميرات عتيقة
وأمام مجلة «الهلال» باب يأخذك في رحلة عبر الزمن إلى عالم الأبيض والأسود جنباً إلى جنب أحدث تقنيات الألوان، إنه باب قسم التصوير بها الذي يطلق عليه «استوديو» والمكتوب عليه «ممنوع الدخول»، وإذا نجحت أن تتسلل عبر الباب إلى الداخل فسيقودك ممر صغير ضيق زُينت جدرانه بصور التقطتها عدسات مصوري الدار لمنعطفات ولأحداث تاريخية ولشخصيات مصرية وعالمية في مختلف المجالات، إلى جانب الاحتفاء بالمنطقة العربية، حيث تلتقي بكمٍّ هائل من صور نادرة تجسد تفاصيل الحياة اليومية العربية ما بين السياسة والاقتصاد والعادات والتقاليد والبيوت والأزقة والأسواق العتيقة، وحين تبدي دهشتك متسائلاً متى وكيف التقط مصورو الدار هذه الصور؟! تصل إلى السر الذي غاب عن الذاكرة، وهو أن مجلة «المصور» ظلت لسنوات تصدر عدداً شهرياً اسمه «المصور العربي» في إطاره كان ينتقل فريق من محرري ومصوري المجلة إلى دولة عربية كل شهر لرصد الحياة بها.
ومما يبهرك أن الاستوديو يضم أقدم آلات التصوير وأحدثها في الوقت ذاته، حيث تستقبلك في إحدى غرفه كاميرا قديمة تعود إلى أوائل الكاميرات التي عرفتها الصحافة في المنطقة، كما أنه في نهاية الممر ستجد واحداً من أقدم معامل التحميض التي عرفتها مصر، ولا تزال المؤسسة تحتفظ به كما هو في غرفة مغلقة لا يدخلها أحد، لكن إذا نجحت أن تدخلها فسيبهرك عبق التاريخ الذي ستتنفسه من بين تفاصيل المكان.
ويقول عادل سعد، المدير السابق لمركز التراث بـ«دار الهلال» في حديثه مع «الشرق الأوسط»: لا يزال في الدار كنوز لم يكتشفها أحد، فهناك أكثر من 7 ملايين نيجاتيف أبيض وأسود. بعض هذا النيجاتيف جزء من تاريخ الوطن وأحداثه وشخوصه بخلاف ملايين أخرى من صور الألوان وشرائح السلايد وبطاقات الصور الورقية. إضافة إلى جبال من الحقائق والأسرار والخفايا تنتظر فهرستها وترتيبها وإعادة إنتاجها في مطبوعات وأفلام، فقد حرص أصحاب الدار منذ البداية على التعامل باحترافية مع التصوير والاستديو والمعمل».
وإذا انتقلت من الجناح الذي يضم مجلة «الهلال» واستديو التصوير إلى الجناح المقابل ستعثر على كنوز صحافية أخرى، حيث تقابلك مجلة «الكواكب» التي نجحت منذ عددها الأول عام 1932 أن تحتل مكاناً متميزاً بين كل المجلات الفنية في تلك الفترة. من حيث المضمون والشكل، يقول الفنان حلمي التوني لـ«الشرق الأوسط»: «نجحنا في رفع مستوى الرسم الصحافي إلى مستوى اللوحة الفنية، ووصلنا إلى عدد كبير من الجمهور في البيوت العربية». مؤكداً أن الثقافة الأنيقة هي السمة الغالبة على إصدارات «دار الهلال».
- «حواء» تدافع عن حواء
وعلى بعد خطوات من مجلة «الكواكب» تقع مكاتب مجلة «حواء» وستجد حكايات الكاتبة الصحافية أمينة السعيد، تملأ المكان ستتخيلها حتماً وهي تمسك بقلمها في الغرفة الواسعة لمكتبها، وهي ترد تارة على أسئلة القراء في باب «اسألوني» بأسلوب عذب، وتارة أخرى وهي تنخرط في معاركها الشهيرة مدافعة عن المرأة ومكتسباتها رافضة عودتها للبيت.
وإذا كانت «أمينة هانم السعيد» كما كان يطلقون عليها في الدار، قد تعرضت للهجوم أثناء حياتها بسبب دفاعها عن المرأة، فإن العم حسن عمار، من قدامى العاملين بالدار ممن عاصروها، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «كانت هادئة الطباع، تتحدث بصوت منخفض، وتتعامل مع الجميع برقي واحترام شديدين، تقضي وقتها في العمل الجاد واستقبال القارئات ممن لديهن مشاكل، وتحرص على حل مشاكلهن العاطفية أو الاجتماعية، ولكم جاءت قارئات فرحات لشكرها على ذلك، وبجانب الزيارات كانت تصلها خطابات عبر البريد». مشيراً إلى أن «أمينة هانم والمحررات كن يتمتعن بالأناقة وكأنهن نجمات سينما».
وعلى بعد خطوات من مقر «حواء»، تبرز مجلة الطفل الشهيرة «سمير»، وعن أشهر رؤساء تحريرها يقول العم حسن: «كان أبرزهن السيدة نتيلة راشد التي كانت تحب أن يناديها الجميع بلقب (ماما لبنى)».
ولا تتوقف ذكريات عم حسن الذي يختزن في ذاكرته الحديدية أسراراً لا تحصى عن المكان... إذ يضحك وهو يتذكر كيف كان زملاؤه يحسدونه لأنه كان يقدم المشروبات و«واجب الضيافة» لنجمات مصر والفن العربي بجمالهن وسحرهن أثناء حضورهن ندوات مجلة «الكواكب» أو زيارتهن للصحافيين: «كانت المجلة قوية ووجهة للفن والفنانين، وكان نشر خبر فيها بمثابة شهادة ميلاد لأي ممثل أو مغنٍ». ويقول: «أشهر نجمات ونجوم زمن الفن الجميل جاءوا إلى هنا».
ويصف العم حسن الكاتب المصري الراحل أحمد بهاء الدين بـ«الرزين والمتواضع»، ويقول: «كثيراً ما كان يأتي بسيارته ويقودها بنفسه، كما كان الكاتب يوسف السباعي يتسم بالأناقة الشديدة، أما صبري أبو المجد فإنه «قارئ نهم». ويتذكر: «ذات يوم جاء ضيف للأستاذ أبو المجد، ودخل مكتبه، لكن سرعان ما خرج، وهو يبلغنا أنه ليس بالداخل، في حين أنه كان يجلس على المكتب ولم يره الضيف بسبب أكوام الكتب والصحف المتكدسة حوله، ولا تستطيع سوى أن ترى منها رأسه فقط».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».