سعيد اللاوندي مثقفاً تنويرياً عربياً

مشى على خطى أسلافه الكبار وكان يرى نفسه فيهم

سعيد اللاوندي
سعيد اللاوندي
TT

سعيد اللاوندي مثقفاً تنويرياً عربياً

سعيد اللاوندي
سعيد اللاوندي

فجعت مؤخراً برحيل الصديق العزيز المفكر اللامع الدكتور سعيد اللاوندي. كنت قد تعرفت عليه في باريس أيام زمان، عندما كنا نحضر شهادة الدكتوراه معاً، وعندما كان هو في الوقت ذاته مديراً لمكتب الأهرام في شارع يقف خلف الشانزليزيه مباشرة، إذا لم تخني الذاكرة. كنت معجباً جداً به لأنه ليس فقط تلميذاً مثلنا، وإنما أيضاً مشرفاً مسؤولاً عن المكتب الثقافي لأعرق جريدة مصرية، بل وعربية. أعتقد أني رأيت فيه آنذاك نوعاً من رفاعة رافع الطهطاوي الجديد، أو حتى طه حسين وتوفيق الحكيم. وجميعهم جددوا الثقافة العربية بشكل غير مسبوق انطلاقاً من باريس.
وأعتقد أن هذا كان هو حلم سعيد اللاوندي؛ لقد مشى على خطى أسلافه الكبار، وكان يرى نفسه فيهم حتماً. كنت معجباً ليس فقط بثقافته الواسعة، وإنما أيضاً بشخصيته القوية المحببة في الوقت ذاته. كان بشوشاً ضاحكاً متفائلاً بالحياة والوجود، في حين كنت أنا عبوساً قمطريراً. والأضداد تتلاقى وتتكامل، كما تعلمون. وكانت له طموحات فكرية واضحة، وقد حقق قسماً كبيراً منها قبل أن يداهمه الموت الذي ينتظرنا جميعاً، فهذه سنة الله في خلقه: كل نفس ذائقة الموت. وإن كنت أتمنى لو أن العمر امتد به قليلاً... فهذه تبقى حسرة وحرقة أن يرحل في الرابعة والستين فقط. كان سيعطي أكثر حتماً، كان سيتحفنا بكتب وطروحات جديدة حتماً، ولكن هذه هي مشيئة الله، ولا راد لمشيئته. وأنا من هذه الناحية مسلم مؤمن عن جد. وقد كنا نتحدث في أثناء لقاءاتنا في مكتبه، أو في أحد المقاهي الباريسية المجاورة، عن قراءاتنا ودراساتنا وأساتذتنا. كنا لا نزال في بدايات حياتنا الباريسية، وكنا مفعمين بالنشاط والحيوية والآمال العراض. كنا نتحدث عن رواد الفكر والشعر العربي، من أمثال أدونيس وأحمد عبد المعطي حجازي وزكي نجيب محمود وآخرين. وأتذكر أن محمد أركون وجاك بيرك كانا في الصميم من أحاديثنا. كنا معجبين جداً بهما، وكان هو على علاقة صداقة قوية مع كلا المفكرين الكبيرين. أما أنا، فكانت علاقتي تقتصر على أستاذي المشرف محمد أركون.
لقد نشر الدكتور سعيد اللاوندي، بعد عودته من فرنسا إلى مصر، عدة كتب مثيرة، بل وجميلة مزركشة حتى بعناوينها. نذكر من بينها: «ثرثرة تحت برج إيفل»، و«عبد الرحمن بدوي - فيلسوف الوجودية الهارب إلى الإسلام»، و«الإسلاموفوبيا - لماذا يخاف الغرب من الإسلام»، إلخ. إن العنوان الأول يذكرنا برواية نجيب محفوظ «ثرثرة فوق النيل»، والعنوان الثاني يختصر مسيرة عبد الرحمن بدوي الذي ابتدأ حياته فيلسوفاً وجودياً خارجاً على الدين، ولكنه أنهاها بالعودة إلى حظيرة الدين والإيمان.
وأما الكتاب الثالث، فيشير إلى إشكالية كبرى تشغل فرنسا حالياً، والغرب كله، ألا وهي: الخوف من الإسلام، وكأنه بعبع مرعب. وكل ذلك بسبب التفجيرات الإجرامية التي حصدت بشكل عشوائي مئات الأبرياء في شوارع باريس ونيس وسواهما؛ لقد أدمت فرنسا وأوجعتها. ولكني لن أدخل في تفاصيل هذه الكتب الثلاثة على أهميتها، وإنما سأتوقف مطولاً عند آخر كتاب أصدره عام 2018، بعنوان بالغ الدلالة: تهافت المثقفين، وهو عنوان عريق في تاريخنا لأنه يذكرنا بكتاب الغزالي الشهير: تهافت الفلاسفة، أو بكتاب ابن رشد الأشهر: تهافت التهافت. ولكن لا يبدو أن الدكتور اللاوندي كان يفكر في هذين الكتابين عندما ألف أطروحته، وإنما كان يفكر بالساحة الثقافية الفرنسية. وكنا قد ذكرنا مدى تأثره بها في أثناء إقامته في بلاد فولتير وموليير. وهذه هي حالة كاتب هذه السطور أيضاً. ومعلوم أن الساحة الباريسية امتلأت في السنوات الأخيرة بعناوين من مثل: صمت المثقفين، أو نهاية المثقفين، أو وداعاً للمثقفين، إلخ. هذا، دون أن ننسى كتاب جوليان بندا القديم: خيانة المثقفين، الصادر عام 1927، ودون أن ننسى كتاب ريمون آرون: أفيون المثقفين، الصادر عام 1955 (والمقصود بذلك تخدير الآيديولوجيا الماركسية الشيوعية للمثقفين الفرنسيين، حيث لعبت بهم كالأفيون وألغت عقولهم)، ودون أن ننسى كتاب جان فرنسوا ليوتار: قبر المثقفين! كل هذه الأشياء تأثر بها قليلاً أو كثيراً عدد كبير من المثقفين العرب، ومن بينهم سعيد اللاوندي. ولكنه يشير هو إلى تأثره بشكل خاص بريجيس دوبريه، وأطروحاته عن موت المثقفين الفرنسيين. فإذا كان المثقفون الفرنسيون قد ماتوا، فما بالك بنا نحن؟ إذا كانت باريس عاصمة الثقافة العالمية قد ماتت، فما بالك بأمة العرب؟
يرى سعيد اللاوندي أن مصر فقدت قوتها الناعمة، أي إشعاعها الثقافي، بعد رحيل الرواد من أمثال رفاعة رافع الطهطاوي والأمام محمد عبده وعباس محمود العقاد والدكتور طه حسين. هذا ناهيك من سلامة موسى وتوفيق الحكيم وزكي نجيب محمود ولويس عوض ونجيب محفوظ وآخرين. فلم يعد هناك مثقف واحد في مصر، ولا في غير مصر، بقامة هؤلاء الكبار. ولكن هذا ما يقوله الفرنسيون أيضاً عن أنفسهم. فلم يعد هناك مفكرون في حجم جان بول سارتر وميشال فوكو وجيل ديلوز وبيير بورديو وجاك دريدا وبول ريكور، إلخ. فباستثناء ريجيس دوبريه، لم يعد هناك مفكر واحد ذو وزن عالمي لدى الفرنسيين. ولكن هذا ما حصل لليونان أيضاً، كما يقول الدكتور اللاوندي نفسه. فبلد العمالقة الكبار، من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو، تقزمت وعقمت ولم تنجب فيلسوفاً كبيراً واحداً بعدهم. ربما كانت هذه هي سنة التاريخ: من سره زمن ساءته أزمان. والحضارة دوارة لا تدوم لأحد. ولكن اللاوندي لا يكفيه هذا الكلام، وإنما يلقي بالمسؤولية على عاتق كبار المثقفين الذين تخلوا عن دورهم التاريخي. لقد فقد المثقف المصري دوره التنويري أو التحذيري، بحسب رأيه، والتحم عن عمد بالنخبة الحاكمة، واقتصر دوره على التبرير أو الدفاع، ونسي (أو لعله تناسى) أن مهمته هي إزعاج الجميع، وليس طمأنتهم والربت على أكتافهم. ثم يلقي الدكتور اللاوندي بالمسؤولية على عاتق الأدعياء الجدد في الدين، فهم الذين يقودون الأمة كالقطيع، فيحكمون على هذا بالردة، وذاك بالزندقة، وينصبون أنفسهم قضاة يقتلون هذا شنقاً، والآخر بالمقصلة، والثالث رمياً بالرصاص. ونفهم من كلامه أن هذه الأمة بحاجة إلى المرور بالمرحلة التنويرية، كما حصل للأمم المتقدمة في أوروبا. فهذا ما ينقصنا فعلاً.
ويكفي أن ننظر إلى الفضائيات، ونرى الدعاة الجدد بلحاهم الكثة الكثيفة المخيفة لكي نتأكد من ذلك. عندما أراهم، أتذكر والدي، فأصاب بالهلع والرعب. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. لقد أصبح المشايخ التقليديون هم المثقفون الحقيقيون لهذه الأمة، وليس العقاد أو طه حسين، ولا الجابري ومحمد أركون؛ مصيبة حقيقية. ولذلك يؤكد الدكتور اللاوندي في هذا الكتاب المهم الممتع ضرورة قيام المثقف المصري أو العربي بدوره، المتمثل ببلورة خطاب تنويري قادر على التأثير في جيل الشباب وعقولهم، بغية إنقاذهم من براثن هذه الاتجاهات الظلامية التي تكاد تدمر مصر والمنطقة العربية بأسرها. وهذا يعني أنه لا ربيع عربي من دون تنوير عربي؛ نقطة على السطر. وربما لهذا السبب أسس الدكتور اللاوندي موقعاً إلكترونياً ثقافياً مضيئاً، تحت اسم: هوامش التنوير. وهو الموقع الذي تشرف عليه زوجته المثقفة الدكتورة فاطمة الحصي، وهي مفكرة مرموقة وكاتبة من الطراز الأول. وقد نشرت مؤخراً كتاباً لافتاً بعنوان: «حكاية الفتى أركون - رحلة حياة من الاغتراب إلى الإصلاح».
آخر مرة التقينا بها كانت في الرياض، عاصمة المملكة العربية السعودية. وكان ذلك على هامش مؤتمر الجنادرية الشهير. وعندئذ، أتيح لنا أن نترافق كثيراً طيلة أيام المؤتمر. كنا دائماً بعضنا مع بعض: في المطعم العام، وقاعات المؤتمر، وبهو الفندق، حيث استمتعنا بالقهوة الشهيرة، والضيافة العربية التي لا مثيل لها. وهي قهوة وضيافة استمتعت بها أيضاً مؤخراً في أبوظبي، عاصمة الإمارات العربية المتحدة. ولا أجد لها مثيلاً في أي مكان آخر في العالم العربي، ولا غير العربي. أنت فعلاً هنا في بيت حاتم الطائي! أنت هنا تحتسي القهوة العربية لا غير: أطيب قهوة في العالم! عندئذ، تتذكر أجدادك وجذورك التاريخية العميقة، وتعرف أنها موجودة هنا فقط؛ إنها جزيرة العرب الخالدة.
وعلى هامش تلك الجلسات «الجنادرية»، رحنا نتحدث كثيراً عن ذكرياتنا الباريسية القديمة، ومطالعاتنا واهتماماتنا المشتركة والمختلفة في الوقت ذاته. رحنا نبكي على الأطلال ونضحك. وأتذكر أني أضحكته كثيراً لأني بارع في فن السخرية المرة. ولعله فوجئ بهذه الصفة من صفاتي المخفية التي لا تظهر إلا مع الأصدقاء الخلص. فأنا خجول جداً عادة، ولكن عندما أفلت تفلت الأمور، وتندلع على مصراعيها. أعتقد أنه استمتع كثيراً برفقتي آنذاك. والآن، بعد رحيله، أشعر بالسعادة لأني أسعدته يوماً ما طيلة بضعة أيام فقط على هامش مؤتمر كبير في ربوع بلد عربي كبير.



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

 

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.