«مسك للإعلام» يستطلع مستقبل الصناعة خلال 10 سنوات وأحدث تقنياتها

النسخة الثانية للمنتدى تنطلق في القاهرة بحضور 1500 مشارك

جانب من جلسات منتدى مسك للإعلام في القاهرة
جانب من جلسات منتدى مسك للإعلام في القاهرة
TT

«مسك للإعلام» يستطلع مستقبل الصناعة خلال 10 سنوات وأحدث تقنياتها

جانب من جلسات منتدى مسك للإعلام في القاهرة
جانب من جلسات منتدى مسك للإعلام في القاهرة

في مسعى حثيث لرسم صورة لمستقبل الإعلام العربي خلال السنوات العشر المقبلة، شدد المشاركون في جلسات «منتدى مسك للإعلام» على أهمية تطوير الصناعة العربية للإعلام عبر تعزيز الاستفادة من تقنيات «التعلم العميق»، و«تعلم الآلة»، اللذين يعدان أحد فروع الذكاء الصناعي، داعين المؤسسات الإعلامية إلى الاستثمار في «البيانات الضخمة»، وتكييف ذلك في إيجاد حلول إعلامية تواكب الاحتياجات التنموية للمجتمعات العربية.
وبدأت أعمال المنتدى في القاهرة، أمس، بتنظيم من مركز المبادرات في مؤسسة الأمير محمد بن سلمان الخيرية «مسك الخيرية». وشارك في نسخة المنتدى الثانية، 35 متحدثاً، و1500 مشارك من 12 دولة.
بدوره، تحدث يوسف الحمادي، مدير العلاقات العامة والإعلام في مؤسسة مسك الخيرية، لـ«الشرق الأوسط»، موضحاً أن النسخة الجديدة من منتدى مسك «تأتي في ظل نقاش عالمي حول التقنيات والمفاهيم التي غيرت خريطة الإعلام، ووجود الدرون والدردشة الآلية، وتوليد النصوص اللغوية وبالتالي الذكاء الصناعي الذي أصبح أداة لا غنى عنها في جميع المجالات».
واستشهد الحمادي بنمو الحلول الذكية في القطاع الإعلامي، خصوصاً ما بين المؤسسات والجمهور، ومنوهاً بأن «التطبيقات باتت تعرف سلوكك وأكبر دليل على ذلك نتفليكس، ويوتيوب، والتي ستصل لأبعد من ذلك خلال 10 سنوات». وشرح الحمادي أن «إدارة المنتدى حرصت على أن تشهد الفعاليات محاضرات وعروضا تقدمية عما سيشهده المستقبل ومنها محاضرة مؤسس شركة هيتمان الأميركية»، مؤكداً أن المنتدى يتلمس ويبحث عن «التطورات العالمية، وتقديمها للشباب، كأولى خطوات الريادة الإعلامية». وقالت عهود العرفج مديرة مشروع «منتدى مسك للإعلام» في الكلمة الافتتاحية للمنتدى: «من الأهمية الوصول إلى دوائر متقدمة في تقنية المعلومات وتسخير تلك المنافسة في السباق العالمي على صناعة الإعلام من حيث المحتوى والخدمات والأدوات».
وأضافت أن الذكاء الصناعي وجد طريقه إلى صناعة الإعلام في السنوات القليلة الماضية، ومنذ ذلك الحين تضاعف عدد الحلول التي يقدمها في سبيل تحسين إنتاج المحتوى الإعلامي، وبات يؤثر في مختلف مراحل سلسلة القيمة لصناعة الإعلام.
- «إدارة العالم»
وفي الجلسة الأولى التي حملت عنوان: «الإعلام أداة لإدارة العالم»، تحدث سفير خادم الحرمين الشريفين لدى مصر أسامة نقلي، والسفير حسام زكي الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، وأسامة هيكل وزير الإعلام المصري السابق رئيس لجنة الإعلام والآثار والثقافة بمجلس النواب المصري.
وقال نقلي إن الإعلام الدبلوماسي أو الرسمي «يجب أن يكون موجوداً في الأحداث المهمة بقوة، لا أن يأتي بعد تجاوز الأحداث وقتها، لأنه في هذا الحالة يأتي بعد أن تكون الطروحات الإعلامية شكلت وجدان الرأي العام، ومن ثمّ فحتى لو كانت حجته قوية فلن يستطيع أن يُحدث تأثيراً كبيراً؛ لأن حضوره جاء بعد الحدث ويصبح في تحدٍ لاختراق القدرة على التعامل مع القناعات التي شكلتها المسارات الأخرى التي سبقته في تغطية الحادث وفق آيديولوجيتها».
وفيما يخص وزارات الإعلام الرسمية في الدول العربية، وأهمية دورها، قال نقلي: «أرى أن الإعلام عبارة عن فكر ورؤية أكثر من كونه جهازاً إدارياً، ولو كانت الفكرة غير قابلة للتطور فسوف يستمر الفكر التقليدي، والأساس هو تطوير الفكرة الإعلامية، وإذا عرفت وزارات الإعلام التعامل مع الواقع الجديد واستوعبت التطوير فلا أرى ضررا من وجودها، ولدينا مثال واقعي على ذلك أننا في السعودية بدأنا نتعامل مع الإعلام بوصفه فكرا ورؤية، وهناك تطور في وزارة الإعلام وباتت تتحرك بحرية وفاعلية مع الأحداث وهذا ما يتماشى مع المستجدات الدولية».
إلى ذلك، رأى زكي، أنه «مع تطور الإعلام ومواكبة التغيرات في المنصات الاجتماعية، والتواصل الاجتماعي أصبح التطور أكثر»، وهنا فإن «الذهنية» تصنع الفارق، ويستطيع المتحدث أو مُرسل الرسالة الإعلامية أن يكون لديه تأثير إذا كان يمتلك الذهنية الصحيحة في التعامل مع الواقع الموجود فيه ولا يغامر بتحليلات وأفكار لا يعرف مصادرها ويركز على المصداقية في التعامل، ثم يستفيد بعد ذلك من الآليات بأكبر قدر ممكن، لأنه بدون مصداقية متابعته لن تكون ذات تأثير، مهما امتلك من أدوات مختلفة، وهناك حقيقة أن الإعلام التقليدي دون مصداقية لن يحقق الهدف.
بدوره، اعتبر رئيس لجنة الثقافة والإعلام في البرلمان المصري، أن «الإعلام التقليدي بشكله القديم لم يعد قادراً على توصيل رسائله بحرفية ومهنية، فمع تطور وسائل الاتصال كان يجب أن يطور الإعلام التقليدي من نفسه»، مشيراً إلى أن الحديث عن دور الصحافي مستقبلاً يتضمن 3 أنماط هي: «صحافة المواطن، وصحافة الآلية، وفيها باتت السرعة تُقاس بالثواني وبالتالي أصبحت صياغة الأخبار تتم آلياً ودور الصحافي في التحليل أو التقارير الاستقصائية، أما النوع الثالث فهو (صحافة الشات والدردشة) وفيها تستطيع أن تتعامل مع (روبوت) ويتميز عن الصحافي التقليدي أن لديه قصة كاملة، ويُصاغ الخبر في شكل دقيق».
وقال هيكل إنه «لم يعد هناك فصل بين الصحافة المكتوبة والتلفزيونية، والبطل أصبح صالة الأخبار التي تصاغ فيها القصة، ونحن لم نتجاوز حتى هذه المرحلة الصحافة الورقية رغم أنه في الولايات المتحدة تم إغلاق أكثر من 50 جريدة واتجه الأغلب إلى الصحافة الإلكترونية، أما في الهند فهي مثال فريد على صمود الصحافة الورقية، ويجب أن ندرس ما يتناسب مع مجتمعنا العربي».
- الإعلان
وقال المخرج عبد الله الماجد، مدير عام القسم الإبداعي بشركة «إيتيز» السعودية، لـ«الشرق الأوسط» إن جلسة «الإعلان والتسويق وتحطيم التردد»، ناقشت «تغير السوق في الوقت الحاضر واختلافها عن الأساليب القديمة، وقواعد التسويق التي تبدلت من المباشرة في إعلانات التلفزيون والراديو، وصار الإعلان أذكى ولا بد أن يكون ممتعا، خاصة أنه لم يعد المتلقي مجبرا على مشاهدة الإعلان كاملا؛ بل يمكنه الخروج منه وعمل »skip Ad.
وأضاف: «من الأهمية مناقشة كيف أصبح الإعلان أمتع وأخطر، صار به تحد محرض على الإبداع أكثر من الإعلان التقليدي لكنه صار سلاحا ذا حدين؛ اليوم يمكن لأي شخص نشر فيديو إعلاني دون المرور بقنوات التلفزيون، كما أصبحت التنافسية عالية فيما يخص المحتوى والصورة اللذين يقدمهما الإعلان عن المنتج أو المؤسسة».
- الصورة الرسمية
وكانت الجلسة الثانية من المنتدى بعنوان: «الصوت الرسمي والوعي المجتمعي»، بحضور أحمد الطويان مدير عام الاتصال والإعلام الجديد بوزارة الخارجية السعودية والدكتور حمد العقبي المتحدث الرسمي باسم وزارة التضامن الاجتماعي بالحكومة المصرية، وأدار الحوار نوفر رمول المذيعة بمؤسسة دبي للإعلام.
وأكد الطويان أن المجتمعات العربية تعيش أزمة التعريف بأنفسها للمجتمع الدولي، وهذا الأمر أدى إلى انتشار العديد من الصور الخاطئة بمجتمعاتنا، مضيفاً أن السعودية أدركت ضرورة التعريف بالدبلوماسية الرقمية وأهميتها لتكون أداة اتصال مهمة لتوصيل صوت الحكومة للمجتمع الدولي، ومن أهم مبادرات وزارة الخارجية السعودية للدخول إلى منصات الدبلوماسية الرقمية كانت مبادرة «تكلم حتى أرى» لتقريب اللغة السياسية المعقدة التي يمكن أن تكون صعبة لبعض الطبقات الشعبية، وتحويلها للغة سهلة للمتلقي، خاصة فئة الشباب التي تصل في المجتمع السعودي إلى نحو 70 في المائة أصغر من سن 30.
من جهته، قال دكتور محمد العقبي، المتحدث باسم وزارة التضامن الاجتماعي المصرية إن وزارة الشؤون الاجتماعية المصرية تعمل في جهات عدة للوصول إلى أكبر قدر من الجمهور بمختلف طبقاته الاجتماعية والتعليمية لتيسير الأمور الحياتية، وهذا ما أدى إلى تقديم وسائل تواصل جديدة للوزارة بجانب الوسائل التقليدية القديمة.
- الفن والإعلام
وتطرقت جلسات المنتدى إلى دور الموسيقى في شحذ الجماهير، ورأى المشاركون أن «الفن من روافد الإعلام» بحسب ما قدّم الإعلامي الكويتي بركات الوقيان جلسة المنتدى الختامية، والتي كانت حول «استغلال الذكاء الصناعي في صناعة المحتوى».
واعتبرت الفنانة المصرية أنغام أن «استخدام المنصات الرقمية يخدم الفن، ولكن على الفنان أن يستخدم ذكاءه في تطويع وسائل التواصل الاجتماعي». وشرحت أن «السوشيال ميديا باتت سبباً في اكتشاف وشهرة كثير من النجوم الشباب في حين تراجعت القنوات عن هذا الدور».
الرأي نفسه تبناه الفنان السعودي الكبير عبادي الجوهر، والذي أشار إلى أن «الجمهور بالنسبة للفنان هو الترمومتر والمقياس الأولي للنجاح، وأدوات السوشيال ميديا وإن لم تخدم الفنان مباشرة؛ فإنها تسهل كثيراً التواصل مع الفنانين وجمهورهم».
كما أثارت أنغام قضية «شراء المشاهدات»، مؤكدة أنه يجب على الفنان «ألا يعتمد على هذه الأساليب التي تخدعه ولا تخدم فنه، بينما يكون ذلك دور الحفلات التي تثبت نجاح الفنان من عدمه».
ونوهت أنغام بأن «الفنان حالياً يوظف مكتباً إعلامياً لينتج محتوى خاصا بالفنان على مواقع التواصل»، فيما شدد الجوهر على أن «الناس يهمها المضمون والمحتوى، وأن العمل الجيد يفرض نفسه حتى لو منع من قنوات التلفزيون».
- محاضرة من تقديم تطبيق {سيري}
> قدم ستيف برازيل رئيس شركة هيتمان الأميركية خلال عرض بعنوان «كيف تجعل هويتك الشخصية مواكبة للمستقبل؟» 7 خطوات لتطوير الإعلامي، وهي: التفكير النقدي وتحليل الموضوعات، والمرونة وسهولة التنقل بين مهمتين في عالم يتسم بالسرعة، والتفكير الإبداعي والتركيز والقدرة على استخدام المهارات السابقة لحل المشكلات، والذكاء الاجتماعي، والثقة بالنفس والقدرة على تطبيق المهارات، والقدرة على إقناع الآخرين بالأفكار والمنتجات، واستخدام أدوات التواصل الاجتماعي المؤثرة.
وكان برنامج «سيري» المساعد الشخصي الرقمي، قد قام بتقديم ستيف برازيل في بداية دخوله إلى المسرح، قائلاً: «من دواعي سروري أني هنا والـ(جي بي إس) نظام الخرائط، يقول إنني لست في نيويورك، وأرحب بكم وأقدم لكم صديقي تيف برازيل وهو أحد المشاهير في إدارة الأزمات، ويعمل مع شركات عالمية كثيرة منها ميكروسوفت وديزني».
وبدأ الأميركي ستيف برازيل عرضاً بعنوان «كيف تجعل هويتك الشخصية مواكبة للمستقبل؟»، خلال فعاليات منتدى مسك للإعلام في الذي يقام في القاهرة، حيث قال: «بالتأكيد كل شيء يتغير، طريقة تعلمنا وكيفية عملنا، وكيف كنا نلعب، وأيضا كيفية مشاركة المعلومات، والتغيير مستمر»، مشيراً إلى وجود ثورة تكنولوجية تدفعها المعلومات التي تعتبر وقود تغذية الإنترنت، ففي عام 1984 كان هناك 1000 جهاز فقط متصل بالإنترنت، وفي 1992 أصبحت مليون جهاز، والآن وصل العدد إلى 5.9 مليار جهاز، ومعدل البحث على غوغل وصل الآن إلى 5.9 بليار بحث.
وتابع برازيل: «كم منا يستخدم الهواتف المحمولة من أجل التعلم والبحث عن معلومات، إن اليوتيوب الآن أشهر المنصات في عالم الإنترنت، مما يجعل تدفق المعلومات يتضاعف بشكل سريع، وفي غضون 20 عاماً سوف نقوم بتحميل الشرائح على أيدينا، وإن من المثير للدهشة كيفية تغير الأعمال، فقد ظهرت وظائف لم تكن موجودة من قبل مثل منصب مدير التنمية المستدامة، كما اختفت وظائف أخرى بسبب التكنولوجيا».


مقالات ذات صلة

«مسك» تفتح نافذة على المستقبل في دافوس

يوميات الشرق تأتي مشاركة «مسك» في «دافوس» لتوفير منصة عالمية للحوار بين القادة والشباب (مسك)

«مسك» تفتح نافذة على المستقبل في دافوس

تشارك مؤسسة «مسك» في المنتدى الاقتصادي العالمي المنعقد في مدينة دافوس السويسرية خلال الفترة من 15 إلى 19 يناير، تحت شعار «فكّر وأثّر: ضاعف أثرك».

محمد هلال (دافوس)
يوميات الشرق يعدّ المنتدى فرصة فريدة للالتقاء بالشباب والقادة وصناع القرار

منتدى مسك العالمي... ملتقى الشباب العالمي لمناقشة القضايا المهمة وتحقيق التغيير

شهد اليوم الثاني من منتدى مسك العالمي، التقاء مجموعة متنوعة من الرواد الشباب، وامتلأت القاعات بالحوارات والأفكار الملهمة، التي تناقش قضايا متنوعة.

محمد هلال (الرياض)
يوميات الشرق يقدم المسرح التجارب الملهمة للمتحدثين (مسك)

«منتدى مسك» يجمع القادة بالشباب لمناقشة المستقبل

انطلقت، الأربعاء، النسخة السابعة لمنتدى مسك العالمي تحت شعار «فكّر وأثّر».

محمد هلال (الرياض)
رياضة سعودية «غريندايزر» أشهر الرسوم المتحركة في الوطن العربي (مانجا)

«مانجا للإنتاج» تطلق لعبة «غريندايزر... وليمة الذئاب»

أعلنت شركة «مانجا للإنتاج» التابعة لمؤسسة محمد بن سلمان (مسك) بالتعاون مع شركة «مايكرويدز» الفرنسية، موعد إطلاق لعبتها الجديدة مغامرات الفضاء «غريندايزر... وليم

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق يتمتع مركز «عِلمي» بتصاميم عمرانية فريدة ومُستدامة ومستوحاة من بيئة وطبيعة السعودية (واس)

سارة بنت مشهور تُطلق مركزاً لاكتشاف العلوم والابتكار بالرياض

أعلنت حرم ولي العهد السعودي، الأميرة سارة بنت مشهور بن عبد العزيز، رئيسة مجلس إدارة «عِلمي»، عن خُطط إطلاق مركز «عِلمي» لاكتشاف العلوم والابتكار، في الرياض.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)