الاتفاق القلق على وقف «نبع السلام» اختبار للثقة بين أنقرة وواشنطن

تركيا مقتنعة بحصولها على ما تريد في شرق الفرات... وتهم «بيع الأكراد» تلاحق ترمب

الاتفاق القلق على وقف «نبع السلام» اختبار للثقة بين أنقرة وواشنطن
TT

الاتفاق القلق على وقف «نبع السلام» اختبار للثقة بين أنقرة وواشنطن

الاتفاق القلق على وقف «نبع السلام» اختبار للثقة بين أنقرة وواشنطن

بعد 8 أيام من القصف المكثف والاشتباكات العنيفة بين القوات التركية وفصائل «الجيش الوطني السوري» الموالية لأنقرة، من ناحية، وميليشيا «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) التي تشكل «وحدات حماية الشعب» الكردية مكوّنها الأساسي، من ناحية أخرى، أوقفت تركيا بضغط أميركي عمليتها العسكرية التي أطلقت عليها «نبع السلام».
العملية كانت قد بدأتها أنقرة يوم 9 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري من أجل السيطرة على منطقة شرق الفرات والقضاء على وجود ميليشيا «الوحدات» الكردية فيها. غير أن القيادة التركية وافقت على وقف اجتياح مناطق شمال شرقي سوريا أول من أمس (الخميس) لمدة خمسة أيام من أجل السماح للميليشيات الكردية بالانسحاب من «المنطقة الآمنة» التي تسعى أنقرة لإنشائها في المنطقة تشمل بلدتي رأس العين وتل أبيض، ووصولاً إلى الحدود مع العراق، بعمق 32 كيلومترا وامتداد 444. بحسب آخر حدود لـ«المنطقة الآمنة» التي أعلنها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.
جرى الإعلان عن الوقف المؤقت للعملية العسكرية التركية في شمال شرقي سوريا على لسان نائب الرئيس الأميركي مايك بنس، في أعقاب مباحثات مطولة أجراها في أنقرة مع الرئيس التركي، وشارك فيها أيضا وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن الأميركي روبرت أوبراين. ولقد جاءت هذه الخطوة بعدما وصلت العلاقات التركية - الأميركية إلى منعطف حاد بسبب الاندفاع التركي نحو الانتهاء من فرض «المنطقة الآمنة» التي حددتها أنقرة من جانب واحد، وهو ما دفع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، تحت ضغوط شديدة من الكونغرس إلى فرض عقوبات «ناعمة» على تركيا شملت وزراء الدفاع خلوصي أكار والداخلية سليمان صويلو والطاقة فاتح دونماز، ووزارتي الدفاع والطاقة، مع تهديده بتدمير الاقتصاد التركي ما لم توقف أنقرة العملية العسكرية.

استخفاف تركي
تهديد الرئيس الأميركي قابلته تركيا بالاستخفاف، والتأكيد على الاستمرار في العملية العسكرية حتى تحقيق جميع أهدافها التي حددتها في سياق «القضاء على التنظيمات الإرهابية» - وتقصد بها ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية، وأضافت إليها «داعش» من أجل الحصول على المباركة الأميركية -، وكذلك إعادة ما يتراوح بين مليون ومليوني لاجئ سوري من أصل 3.6 مليون لديها ومنع إقامة ما تسميه «ممرا إرهابيا» على حدودها الجنوبية.
لقد بنت تركيا موقفها على قرار ترمب بسحب القوات الأميركية من سوريا الذي كان قد أصدره في السادس من أكتوبر، والذي قرأته تركيا على أنه «ضوء أخضر» أميركي لشن غزو بشمال شرقي سوريا وسحق المقاتلين الأكراد، الذين هم حلفاء لواشنطن، قبل أن يتخلى عنهم ترمب ويتركهم فريسة سهلة لتركيا.
هذا، وشجّعت الرسائل المتناقضة الصادرة عن ترمب تركيا على المضي قدُماً في عمليتها العسكرية، إضافة إلى المواقف الأوروبية التي جاءت «في الحد الأدنى»، للتأثير على الموقف التركي أيضا بإدانة العملية العسكرية والتلويح بعقوبات «غير محددة»، وإعلان بعض الدول – منها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا والسويد - وقف تصدير السلاح لتركيا.
كل ذلك دفع إردوغان إلى التمادي، رغم المؤشرات التي كانت تقطع بأن المواقف الدولية، سواءً الأميركية أو الأوروبية، قد تتطوّر إلى ما هو أبعد في معاقبة تركيا، وصولاً إلى تدمير اقتصادها بالفعل.
لكن الرئيس التركي أدرك بعدما رفض مقابلة الوفد الأميركي أن ثمن عداء أميركا قد يكون فادحاً، وأن تركيا قد تجد نفسها في عزلة تامة وظهرها للحائط... ولذا عاد وقبل بلقاء الوفد.
وهنا يقول مراقبون إن القطع بفكرة أن الولايات المتحدة «باعت» الأكراد افتراض خاطئ، نتج عن تغريدات ترمب المتناقضة التي تحدث فيها تارة عن فك الارتباط مع «وحدات حماية الشعب» الكردية بعدما قاتلت مع أميركا ضد «داعش»... وكلامه عن «تلقيها الكثير من المال مقابل ذلك»، وأن «عليهم - أي الأكراد - أن يحلوا مشاكلهم بأنفسهم، لأن أميركا لن تبقى في رمال سوريا لخمسين سنة قادمة من أجل حمايتهم».

اختبار للثقة
في الواقع، عكس الاتفاق الذي أعلنه بنس من أنقرة أول من أمس حالة انعدام الثقة بين أنقرة وواشنطن. إذ تضمّن وقف تركيا عمليتها العسكرية لمدة 5 أيام «للسماح بانسحاب وحدات حماية الشعب خلال هذه الفترة مع عدم فرض عقوبات أميركية جديدة على تركيا خلال الأيام الخمسة»، على أن يتم إلغاء العقوبات التي سبق فرضها بسبب العملية العسكرية بعد أن تعلن تركيا وقفاً نهائيا لإطلاق النار.
وفي البنود الأخرى، حصلت تركيا على العمق الذي تريده لـ«المنطقة الآمنة»، وهو 20 ميلا (32 كيلومترا) بينما لم يذكر شيء عن طول المنطقة التي تطالب أنقرة بأن يكون 444 كيلومتراً من منبج إلى حدود العراق، وإنهاء تركيا العملية العسكرية مع اكتمال انسحاب الميليشيات الكردية وامتناعها عن أي عمل عسكري في مدينة عين العرب (كوباني) التي دخلتها قوات نظام دمشق. كذلك، لن يكون للولايات المتحدة جنود على الأرض، بينما تلتزم أميركا وتركيا بالتوصل لاتفاق سلمي بشأن «المنطقة الآمنة» في سوريا، يضمن أمن أنقرة والأكراد، وضمان حماية الأقليات في شمال سوريا، وحماية السجون الموجودة هناك، مع التأكيد على أن هزيمة «داعش» هو الهدف المشترك لكل من أنقرة وواشنطن.
من جانبه، أكّد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أن «المنطقة الآمنة» ستكون بعمق 32 كيلومترا في سوريا وتمتد من شرق الفرات وحتى الحدود العراقية. وأنه جرى الاتفاق على تسليم الميليشيات الكردية سلاحها الثقيل إلى الجيش الأميركي، وأن تكون السيطرة على «المنطقة الآمنة» للقوات التركية، ومناقشة وضع منبج ومناطق أخرى بين تركيا روسيا، لافتاً إلى أن بلاده لم تقدم أي ضمانات بشأن عين العرب. وما يستحق الإشارة، أن نائب الرئيس الأميركي اعتبر أن «ما اتفق عليه سيخدم مصلحة الأكراد في سوريا ويؤسس لمنطقة عازلة طويلة الأمد»، ووصف وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، الاتفاق مع تركيا بأنه «نجاح كبير وسينقذ حياة الملايين». وذكر بيان أميركي تركي مشترك أن القوات المسلحة التركية ستتولى إقامة «المنطقة الآمنة»، ورأى مسؤولون أتراك أن أنقرة حصلت على ما تريد بالضبط من المباحثات مع واشنطن.
هذا، وفي حال تنفيذ الاتفاق، يرى مراقبون أن الهدنة ستحقق الهدفين الرئيسيين اللذين أعلنت عنهما تركيا عندما شنت الهجوم قبل ثمانية أيام، وهما: السيطرة على شريط من الأراضي السورية بعمق يتجاوز 30 كيلومتراً، وإخلاء المنطقة من ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية، الحليف السابق لواشنطن.

تحفظ كردي
أما بالنسبة للأكراد، فقد صرّح القيادي الكردي البارز آلدار خليل بأنه يرحب بوقف المعارك مع تركيا في شمال سوريا، لكنه أكد أن الأكراد «سيدافعون عن أنفسهم إذا تعرضوا لهجوم، ثم إن إردوغان يريد التوغل 32 كيلومترا في سوريا وسبق لنا أن رفضنا ذلك». وقال مظلوم عبدي، القائد العام لميليشيا «قسد» بأن الميليشيا قبلت بالاتفاق مع تركيا في شمال سوريا و«سنفعل كل ما يلزم لإنجاحه»، لافتاً إلى أن اتفاق وقف إطلاق النار هو «البداية، فحسب»، ويجب ألا تتحقق أهداف تركيا التي شنت توغلا في شمال سوريا الأسبوع الماضي، مركزاً على أن الاتفاق يقتصر على المنطقة الواقعة بين مدينتي رأس العين وتل أبيض الحدوديتين.

أزمات متعددة
على صعيد متصل، فجّر الهجوم الذي كانت تركيا بدأته الأربعاء قبل الماضي أزمة إنسانية جديدة في سوريا تمثلت بنزوح ما بين 200 و300 ألف مدني، وأثار هذا الأمر مخاوف أمنية تتعلق بآلاف من مقاتلي تنظيم داعش المحتجزين في سجون الأكراد، بالإضافة إلى أزمة سياسية يواجهها ترمب في الداخل، منها الاتهامات بالتخلي عن المقاتلين الأكراد الذين كانوا شركاء واشنطن الرئيسيين في معركة إنهاء «داعش» في سوريا. ويبدو أن تركيا لم تتجنب تماماً خطر العقوبات بسبب غضب المشرّعين الديمقراطيين والجمهوريين مما قامت به في شمال شرقي سوريا، فلقد تعهد نواب في الكونغرس بمواصلة العمل بكل قوة لفرض عقوبات صارمة على تركيا رغم إعلان وقف إطلاق النار بشكل مؤقت في سوريا.
غير أن الأمم المتحدة رحبت، من جانبها، «بأي جهود» لوقف تصعيد الموقف في شمال سوريا وحماية المدنيين، وذلك بعدما وافقت تركيا على وقف هجومها داخل المنطقة.
أما ترمب نفسه، فإنه أثنى على نظيره التركي إردوغان، وهو الذي كان قد كشف قبل مباحثات الوفد الأميركي في أنقرة عن رسالة بعث بها إليه يوم انطلاق العملية العسكرية وصفه فيها بالمتصلب والأحمق وهدده بتدمير الاقتصاد التركي، قبل أن يعود ليصفه بأنه «زعيم فذ». وجاء في ثناء ترمب قوله «إردوغان صديق لي، وأنا سعيد بأننا لم نواجه مشكلة، لأنه بصراحة زعيم فذّ... إردوغان رجل قوي وقد فعل الشيء الصحيح، وأنا أقدر ذلك، وسأظل أقدره في المستقبل».

مخاوف عودة «داعش»
جدير بالذكر، أنه منذ إعلان إردوغان عن بدء عملية «نبع السلام» تفجرت المخاوف من عودة «داعش» إلى الظهور من جديد عبر الهجوم التركي الذي قد يمتد إلى السجون التي وضعت فيها قسد الآلاف من عناصر التنظيم المتطرف. وفعلاً، أعلنت ميليشيا «قسد» أن 800 من أفراد عائلات مقاتلي «داعش» فرّوا من مخيم في بلدة عين عيسى (محافظة الرقة) بسبب القصف التركي، وأن خمسة من المتشددين فروا من مركز احتجاز. واسترجعت تقارير بهذا الشأن المواقف السابقة لتركيا تجاه «داعش»، وادعاءات دعمها للتنظيم وإمكانية تجنيد عناصره في صفوف الجيش الوطني للقتال ضد «قسد»، أو إطلاقهم إلى مناطق صراعات كحال ليبيا مثلاً، أو استخدامهم ضد بعض دول المنطقة والدول الأوروبية.
ومن جانبه، استغل «داعش» الغزو التركي للأراضي السورية، بإطلاقه سراح عدد من المحتجزات التابعات للتنظيم، غرب مدينة الرقة.
وادعت وكالة «أعماق» التابعة لـ«داعش»، في بيان أول من أمس، أن عددا من عناصر التنظيم الإرهابي تمكنوا من مهاجمة مقر تابع لـ«قسد» في قرية المحمودلي، غربي الرقة، ونجحوا في إطلاق سراح مجموعة من الداعشيات. وكان وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان قد قال، أول من أمس، إن 9 فرنسيات من المنتميات لتنظيم داعش قد فررن من مخيم خاضع لسيطرة الأكراد في شمال غربي سوريا
من جانبه، قال عبدي، القائد العام لـ«قسد»، بأن قواته لن تسلم عناصر التنظيم المتطرف وعائلاتهم المعتقلين لديها إلى أي جهة. وأضاف «أن عناصر «داعش» وعائلاتهم لدينا، نحن من ألقى عليهم القبض، ونحن من يحدد مصيرهم». ويذكر أنه، وفق المعلومات المتوافرة، تحتجز «قسد» نحو 11 ألف عنصر من «داعش»، بينهم 9 آلاف من العراق وسوريا و2000 ينتمون إلى نحو 50 دولة. وسبق أن حذرت منظمة «هيومن رايتس ووتش» الدول الأوروبية من نقل المئات من عناصر «داعش» من سجون «قسد» في سوريا إلى العراق، بالتزامن مع العملية العسكرية التركية شرق الفرات.
وأعربت المنظمة عن قلقها من أن «بعض الدول الأوروبية لا تريد استعادة مواطنيها الدواعش، بل تسعى لنقلهم إلى العراق، بعدما أثار هجوم بدأته أنقرة قبل نحو أسبوع ضد المقاتلين الأكراد في سوريا خشيتها من أن يتمكن هؤلاء من الفرار من السجون». ودعت المنظمة كلا من «فرنسا والدنمارك وألمانيا وبريطانيا» ودولا أخرى لاستعادة مواطنيها، مع العلم أن محاكم عراقية أصدرت خلال الصيف أحكاما بالإعدام على 11 فرنسياً كانوا قد اعتقلوا في سوريا، بسبب انتمائهم إلى تنظيم داعش. وأعلنت بلجيكا، أمس، فرار عناصر من التنظيم يحملون جنسيتها من أحد السجون الخاضعة لسيطرة «قسد» في شمال شرقي سوريا. وفي المقابل، دعت أنقرة، مع انطلاق عمليتها، الدول الأوروبية إلى التعاون واستعادة عناصرها الذين قاتلوا من قبل في صفوف «داعش»، وادعت أنها ستكون قادرة على السيطرة على عناصر التنظيم الموجود في السجون متهمة «قسد» بتوظيفهم.

الدور الروسي
في هذه الأثناء، يتوقع العديد من المراقبين أن يتعاظم دور روسيا في رسم خارطة الشمال السوري في الفترة المقبلة رغم الاتفاق التركي – الأميركي، إذ انتقل ملف منبج وعين العرب فعلياً إلى روسيا الآن، وذلك بعدما دخلت قوات نظام دمشق المدينتين السوريتين بدعم من روسيا للتوصل إلى اتفاق بين النظام و«قسد». وهو ما يعني أن تركيا ستحتاج في جميع خطواتها القدمة إلى التنسيق مع روسيا.
ومعلوم، أن أنقرة فتحت بالفعل مشاورات مع موسكو بشأن الوضع في المنطقة. وأعلن وزير الخارجية التركي أول من أمس أن روسيا تعهدت بإبعاد الميليشيات الكردية عن الحدود التركية، كما أعلن عقب مباحثات الوفد الأميركي، أنه تم الاتفاق على التنسيق مع روسيا بشأن منبج و«مناطق أخرى»، في إشارة إلى عين العرب.
وحسب المعطيات، لا تمانع أنقرة في سيطرة نظام دمشق على المدينتين، بل رحب إردوغان بذلك قائلا «ليس لدى تركيا نية للهجوم على عين العرب»، لافتا إلى أن اتفاق «خارطة الطريق» في منبج، الموقع مع أميركا في يونيو (حزيران) 2018، لم يتحقق. والمرتقب أن يزور إردوغان موسكو في 22 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري لبحث التطورات في سوريا.
ومن المنتظر، وفق المراقبين، أن يطلب الدعم الروسي بالنسبة لـ«المنطقة الآمنة» مع ضمان عدم حدوث اشتباكات بين قوات نظام الأسد والقوات التركية وحلفائها، في ظل موقف دمشق من الاتفاق التركي - الأميركي بشأن شرق الفرات، إذ رأت أنه «اتفاق غامض».

حقائق وأرقام عن العملية حتى الآن
> خسرت تركيا 8 جنود في الاشتباكات و20 مدنياً بالإضافة إلى عشرات المصابين جراء قصف ميليشيا «قسد» المناطق الحدودية، بالإضافة إلى آليات عسكرية عدة.
> قتل من «الجيش الوطني السوري» الموالي لتركيا 46 مسلحاً وأصيب 136 آخرون خلال الاشتباكات مع «قسد».
> تسببت عملية «نبع السلام» العسكرية في تراجع سعر صرف الليرة التركية، بأكثر من 5 في المائة لتصبح صاحبة الأداء الأسوأ بين العملات الرئيسية في أكتوبر الجاري. وصنف بنك «جي بي مورغان» الأميركي الليرة التركية، مع الروبل الروسي، كأكثر العملات انكشافا على التقلبات السياسية.
> علقت مجموعة فولكسفاغن الألمانية لصناعة السيارات خططها لإنشاء مصنع جديد لها في تركيا بسبب الغزو التركي لشمال شرقي سوريا.
> خسرت ميليشيا «قسد» 702 من عناصرها، إلى جانب مفاجأة تخلي ترمب عنهم بعد سحب جنوده من شرق الفرات.
> بسبب خروج الجيش الأميركي، واتخاذه موقف الحياد تجاه ما يحدث للأكراد، اضطر الأكراد إلى عقد صفقة مع نظام دمشق، برعاية روسية. وبارك الرئيس الأميركي دونالد ترمب هذه الخطوة، قائلا إن «النظام السوري أولى بالدفاع عن الأكراد في المنطقة».
> قدم الاتفاق فرصة للنظام لاستعادة السيطرة على مدينتي منبج وعين العرب بمباركة الأكراد أنفسهم وامتناع أي طرف سواء روسيا أو أميركا أو تركيا عن الاعتراض. ولقد وصل النظام إلى الحدود السورية التركية ومناطق شرق الفرات الغنية.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.