آبي أحمد... المقاتل صانع السلام

وصفه الصادق المهدي بـ«زارع شجرة الزيتون» و«فخر أفريقيا»

آبي أحمد... المقاتل صانع السلام
TT

آبي أحمد... المقاتل صانع السلام

آبي أحمد... المقاتل صانع السلام

«إن سجلك مثير للإعجاب، ففي وطنك أطلقت سراح آلاف السجناء السياسيين، ورفعت الحظر عن الأحزاب السياسية، وجلبت بذلك آمالاً كبيرة للشعب الإثيوبي... وعلى المستوى الإقليمي، زرعت شجرة من أغصان الزيتون، خاصة السلام مع إريتريا، والوساطة الناجحة في السودان، إن نيلك جائزة السلام مثار فخر لأفريقيا، وسوف يعطي رافعة لإصلاحات ديمقراطية أكبر في إثيوبيا».
هذا مقتطف من رسالة وجهها السياسي السوداني المخضرم، ورئيس الوزراء السوداني الأسبق الصادق المهدي، لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بمناسبة فوزه بـ«جائزة نوبل للسلام»، مهنئا بجهوده الداخلية والخارجية في بسط السلام في القارة الأفريقية، ومطالباً إياه بلعب دور مشابه لحل معضلة «سد النهضة» بسلام.

ما المزايا التي أوصلت أبيي أحمد لقيادة إثيوبيا، وأهّلته بالأمس للفوز بـ«جائزة نوبل للسلام»، ونقلته من منصة «المحارب القديم» إلى منصة «صانع السلام» على المستوى الدولي؟
الذين يعرفون الرجل يشهدون بأنه فرض نفسه بقوة على منصّات التواصل القديمة والحديثة، وشغل العالم بإنجازاته خلال فترة وجيزة بعد تسلمه السلطة في بلاده.
البداية
ولد آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي، يوم 15 أغسطس (آب) 1976، لعائلة فقيرة ورقيقة الحال، في منطقة غارو بمدينة جيما في إقليم أورومويا بجنوب غربي البلاد. إذ إن أباه مسلم من قومية الأورومو وأمه مسيحية من قومية الأمهرا.
وكانت حياة أحمد شاقة، إذ عاش في منزل يخلو من مستلزمات الحياة العصرية، كمياه شرب نظيفة وكهرباء. وتقول التقارير إنه كان ينام على حصير حتى كبُر، إلا أن اليافع الإثيوبي الطّموح لم يستسلم، بل واصل الكفاح حتى أصبح رئيسا لوزراء إحدى كبريات دول أفريقيا، وفي خلفية أحلامه تخليص الأجيال الجديدة من الفقر الذي يعده عدو إثيوبيا الأول.
الطموح العلمي
لم تَحُل النشأة الرقيقة دون طموح آبي أحمد العلمي والأكاديمي، ولم تكفِه المناصب العسكرية التي أوكلت له، فواصل جهوده من أجل التعلم، وتأهيل نفسه أكاديمياً. وبالفعل، حصل على درجة البكالوريوس في هندسة الكومبيوتر من كلية «ميكرولينك لتكنولوجيا المعلومات» بأديس أبابا عام 2001، ثم الدبلوم في تطبيقات تشفير المعلومات عام 2005 من جامعة بريتوريا بدولة جنوب أفريقيا. ثم حصل على ماجستير في التغيير والتحوّل من جامعة غرينيتش البريطانية 2011، وماجستير آخر في إدارة الأعمال 2013. وأخيراً، نال درجة الدكتوراه من معهد دراسات السلام والأمن بجامعة أديس أبابا 2017 عن أطروحة بعنوان «النزاعات المحلية في البلاد». ومن ثم، تأهل للعمل رئيسا لمجلس إدارة جامعة جيما، وبنك أروميا للتمويل الأصغر، وشبكة أوروميا للإذاعة.
منذ مرحلة المراهقة كان أحمد مهموماً بالأوضاع في بلاده. وهو ما دفعه للانخراط في الكفاح المسلح ضد ديكتاتور إثيوبيا الشهير منغستو هايلي ماريام. وبالفعل، انتمى لـ«الجبهة الديمقراطية لشعب الأورومو» وقاتل في صفوفها نظام منغستو، الذي اشتهرت قواته باسم «الديرغ»، حتى سقوط حكمه عام 1991، ضمن تحالف «الجبهة الثورية الديمقراطية الإثيوبية».
عام 2010 أصبح أحمد عضوا في اللجنة المركزية للتحالف الذي أسقط نظام «الديرغ» الذي قاده الراحل ملس زيناوي، مؤسّس الدولة الإثيوبية الحديثة وأول رئيس لوزرائها. وضم هذا التحالف المعروف بـ«الجبهة الديمقراطية الشعبية الثورية الإثيوبية» يومذاك، كتل «الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية» و«المنظمة الديمقراطية لشعوب الأورومو» و«جبهة تحرير التيغراي» و«حركة الأمهرا الوطنية الديمقراطية». كذلك، انخرط أحمد في الجهاز الأمني لـ«الجبهة». وبعد سقوط نظام «الديرغ» في1991 التحق رسمياً بالجيش الإثيوبي، وانضم بعدها إلى وحدة الاستخبارات والاتصالات العسكرية وأسهم في تأسيس هذه الوحدة المهمة فيه. ثم تدرّج فيها حتى وصل إلى رتبة عقيد عام 2007.
غادر أحمد الاستخبارات عام 2010، وبدأ عمله السياسي عضواً بحزب الأورومو الديمقراطي، ثم انتخب نائباً في البرلمان الإثيوبي عام 2010، وأعيد انتخابه 2015. وبعد ذلك، عيّن وزيرا للعلوم والتكنولوجيا بالحكومة الفيدرالية بين 2016 إلى 2017. كما كان مسؤولاً عن مكتب التنمية والتخطيط العمراني بإقليم أوروميا، وترقى لنائب رئيس إقليم أوروميا بنهاية 2016.
وفي العام نفسه استقال رئيس الوزراء هيلا مريام ديسالين من منصبه فجأة إثر الاحتجاجات المناهضة لحكومته في إقليم أمهرا، وقمعتها السلطات التابعة له بعنف، ووجد انتقاداً محلياً وإقليمياً واسعاً، اضطر التحالف الحاكم تبعاً له لتعيين آبي أحمد رئيسا للوزراء في 2 أبريل (نيسان) 2018.
اختياره رئيساً للوزراء
قدّم رئيس الوزراء السابق هايلي ماريام ديسالين استقالته من الوزارة ورئاسة الائتلاف الحاكم، وقال إن الهدف من الاستقالة تعزيز الجهود لوضع حلول لمشاكل بلاده، متحملا بشكل غير مباشر المسؤولية عن الاضطرابات التي شهدتها إثيوبيا وراح ضحيتها عدد من القتلى ونزوح آخرين.
وثار مواطنون من الأورومو، الذين يمثلون أكبر قوميات إثيوبيا تعداداً، على خطط لتوسيع العاصمة أديس أبابا باعتبارها على حساب إقليمهم الذي تقع فيه العاصمة، إضافة إلى ما وصفوه بالتلكؤ في إطلاق سراح معتقلين سياسيين ينتمون لقوميتهم. وبالفعل، أغلقوا الطرقات حول أديس أبابا وسدوا الطرقات البرية، وأوقفوا وسائط النقل العام عن العمل، وعندما واجهتهم الأجهزة الأمنية بعنف، سقطت أعداد من المحتجين قتلى.
استمر ديسالين في تأدية مهام منصبه لتسيير الأعمال منذ فبراير (شباط) 2018 حتى تعيين رئيس البرلمان والائتلاف الحاكم آبي أحمد رئيساً بديلاً في أبريل من العام ذاته. ويوم الخميس 29 مارس (آذار) 2018، صادق مجلس نواب الشعب الإثيوبي على تعيينه رئيساً للوزراء بغالبية مطلقة، ليجلس «الأربعيني» الإصلاحي منذ ذلك الوقت في موقع السياسي والتنفيذي الأول في البلاد المكتظة بالسكان والمتعددة القوميات، ويبلغ عدد سكانها نحو 100 مليون نسمة.
مصالحات داخلية
على صعيد ثانٍ، منذ يومه الأول في الحكم، شرع آبي أحمد في عقد مصالحات بينية بين شعوب وقوميات إثيوبيا، زار خلالها أقاليم إثيوبيا المتعددة. وكانت البداية في إقليم «الصومال الإثيوبي»، وأنهى نزاعا بين سكان الإقليم وسكان إقليم «أوروميا» المجاور قتل فيه المئات. ثم انتقل إلى معقل معارضة الأورومو وعمل على تهدئة الشباب الثائر، وبعد ذلك زار مدينة مقلي، حاضرة إقليم التيغراي، وطمأن السكان على حفظ مصالحهم القومية. ثم انتقل إلى مدينة غوندر، حاضرة إقليم الأمهرا، التي شهدت أعمال عنف ضد التيغراي، وأفلح في إطفاء فتيل التوتر المستمر منذ سنوات هناك. وأيضاً، أنهى رئيس الحكومة الشاب في زيارة لمدينة أواسا، العاصمة الإدارية لإقليم «أقوام الجنوب والقوميات والشعوب» أزمة قبلية في الإقليم الذي تقطنه أكثر من 56 قومية من أصل 80 قومية إثيوبية، وأنهت زيارته أعمال العنف المندلعة هناك.
وإثر نجاحه في المصالحات القبلية والسياسية، شرع أحمد في تهدئة الخلافات الدينية، بالتوفيق بين المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ولجنة تحكيم المسلمين بإثيوبيا، وتحقيق المصالحة بين الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية في أديس أبابا، والكنيسية الأرثوذكسية في الولايات المتحدة الأميركية، وعودة بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية في إثيوبيا إبونا مركوريوس إلى بلاده، بعد منفى دام 27 سنة.
المحارب... صانع السلام
في يونيو (حزيران) 2018 أعلن آبي أحمد، بعد أن أجرى سلسلة إصلاحات داخلية غير مسبوقة، رغبته في إنهاء النزاع الحدودي المتطاول والمستمر منذ عام 1998 مع جارته إريتريا، مؤكداً استعداد بلاده لتنفيذ اتفاق السلام الموقع بين البلدين في عام 2000، واستعدادها لقبول قرارات لجنة التحكيم الدولية بشأن الحدود المشتركة.
نشبت الحرب بين إثيوبيا وإريتريا في مايو (أيار) 1998، على خلفية نزاع حدودي على بضع مئات من الكيلومترات من الأراضي الصحراوية، بعد أن اتهمت إريتريا «جارتها» الكبرى إثيوبيا بتغيير خط الحدود البالغ طولها نحو ألف كيلومتر، والتي لم تخطط منذ استقلال إريتريا عن الإمبراطورية الإثيوبية تسعينات القرن الماضي، فيما اتهمت إثيوبيا إريتريا بأنها انتهكت أراضيها بغزوها للمنطقة المشهورة بـ«مثلث بادمي»، وبعد أن فشلت المفاوضات بين البلدين شنّت إثيوبيا هجوماً واسعاً اخترقت فيه الخطوط الإريترية.
لكن وساطة جزائرية أفلحت في إنهاء النزاع الدامي بين الطرفين، فوقّعا اتفاق سلام في يناير (كانون الثاني) 2000 بالعاصمة الجزائر، وتوقفت حرب أسفرت عن سقوط نحو ثمانين ألف قتيل. ونص «اتفاق الجزائر» على إقامة «منطقة أمنية» مؤقتة فاصلة بعرض 25 كيلومتراً على طول الحدود، تحت مراقبة من الأمم المتحدة، وقضت لجنة تحكيم دولية بأحقية إريتريا في المناطق المتنازعة، بيد أن إثيوبيا رغم اعترافها بالقرار، لكنها ماطلت في تنفيذ بنوده.
فجأة وفي 8 يوليو (تموز) 2018، عقد رئيس الوزراء الإثيوبي لقاء وصف بأنه تاريخي مع الرئيس الإريتري آسياس أفورقي، وقعا فيه إعلاناً مشتركاً ينهي حالة الحرب. وفور توقيع الإعلان قام أفورقي بزيارة كبيرة إلى إثيوبيا بعد مقاطعة طويلة، أعيد خلالها فتح سفارتي البلدين، وأعقبها استئناف الرحلات الجوية، أعادا في سبتمبر (أيلول) 2018 فتح مركزين حدوديين مغلقين منذ عشرين سنة، بعدما وقعتا اتفاقية سلام برعاية المملكة العربية السعودية.
ولم يكتف آبي أحمد بتطبيع العلاقات بين بلاده وإريتريا، بل سعى لبث روح التعاون وإنهاء الخلافات المعقدة بين «دول القرن الأفريقي»، وشهدت العاصمة الإريترية أسمرا في سبتمبر 2018 قمة ثلاثية بين آبي أحمد وأفورقي والرئيس الصومالي عبد الله فرماجو، بعد قطيعة إريترية صومالية طالت 15 سنة، على خلفية اتهامات لإريتريا بدعم إرهابيي «الشباب الصومالي» المرتبط بتنظيم «القاعدة».
وبالنسبة للسودان، في 17 أغسطس الماضي، مهر آبي أحمد بتوقيعه شاهداً على وثائق الانتقال السودانية وتشمل «الإعلان السياسي، والوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية في السودان»، معلنا نهاية فترة عصيبة في تاريخ السودان. ولفتت دموع مبعوث ووسيط آبي أحمد ومستشاره للسودان السفير محمود درير لحظة التوقيع المبدئي على اتفاقية الشراكة بين العسكر والثوار السودانيين، أنظار العالم وشغلت وسائل الإعلام.
وفي 7 يونيو 2019 زار الزعيم الإثيوبي السودان لحث الأطراف للعودة للتفاوض مجدداً ضمن جهوده للمصالحة في السودان، ليقنع «قوى الحرية والتغيير» و«المجلس العسكري الانتقالي» بالعودة للتفاوض بعد «صدمة فض الاعتصام»، وتكوين هياكل السلطة الانتقالية بشكلها الحالي باعتبارها جزءاً من المبادرة الإثيوبية للتوافق السوداني.
ومع توقيع الوثائق الحاكمة للفترة الانتقالية في السودان، نجح آبي أحمد في منع انزلاق البلد ذي الروابط القومية مع بلاده في الفوضى.
حكومة نصفها من النساء
وفي مجال المنجزات، أيضاً، تعد الوزارة الثانية التي شكلها آبي أحمد في أكتوبر (تشرين الأول) 2018، هي الأولى من نوعها في التاريخ الإثيوبي، التي «تشغل» النساء نصف حقائبها (10 حقائب وزارية من جملة الوزارات البالغة 20 وزارة للنساء). وقال أحمد في كلمته عن إعلان الحكومة «المرأة ستساعد في محاربة الفساد لأنها أكثر كفاءة، وأقل فساداً من الرجل».
وحقيقة الأمر، لم يكلف أحمد نساءه بـ«الوزارات الهامشية»، أو تلك المتعلقة بالمرأة والطفل كما جرت العادة في دول العالم الثالث، بل سجل في تاريخ إثيوبيا أن السيدة عائشة محمد دونت بصفتها أول وزيرة للدفاع في البلاد، كما عين السيدة موفريات كامي وزيرة للسلام بعدما كانت تشغل منصب رئيسة البرلمان، وتشمل مهمتها الإشراف على الاستخبارات وجهاز الأمن والشرطة، وهو منصب كان حكراً على الرجال في إثيوبيا. ومما قاله أحمد، وهو يقدم وزارته الجديدة عن الحصة غير المسبوقة التي حظيت بها المرأة الإثيوبية، «وزيراتنا سيحطمن المقولة القديمة إن النساء لا يصلحن للقيادة»، وفقا لما نقلته وكالة «أسوشييتد برس» وقتها.
وفيما يبدو أنه اتساق مع رؤية أحمد، انتخب البرلمان الإثيوبي 25 أكتوبر 2018، السيدة سهلي - ورق زودي رئيسة للدولة بغالبية ساحقة، لتتقلد هي الأخرى لأول مرة المنصب الرفيع في تاريخ إثيوبيا الحديث، خليفة للرئيس السابق مولاتو تشيومي الذي تقدم هو الآخر باستقالة مفاجئة.

جائزة نوبل للسلام
وأخيراً، خارج حدود إثيوبيا هذه المرة، جاء التقدير الدولي الأكبر لآبي أحمد في حياته، يوم 11 أكتوبر الحالي.
في ذلك اليوم قرّرت «لجنة جائزة نوبل النرويجية» منح آبي أحمد «جائزة نوبل للسلام» عن عام 2019؛ «تقديراً لجهوده في تحقيق السلام والتعاون الدولي»، لا سيما مبادرته لحل النزاع الحدودي مع «الجارة» إريتريا. ونقلت وكالة الأنباء الألمانية عن أحمد قوله بعد إبلاغه بفوزه بالجائزة الكبيرة ذات المردود الأدبي الضخم: «يغمرني شعور بالامتنان والسعادة... إنها جائزة لأفريقيا ولإثيوبيا».



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.