آبي أحمد... المقاتل صانع السلام

وصفه الصادق المهدي بـ«زارع شجرة الزيتون» و«فخر أفريقيا»

آبي أحمد... المقاتل صانع السلام
TT

آبي أحمد... المقاتل صانع السلام

آبي أحمد... المقاتل صانع السلام

«إن سجلك مثير للإعجاب، ففي وطنك أطلقت سراح آلاف السجناء السياسيين، ورفعت الحظر عن الأحزاب السياسية، وجلبت بذلك آمالاً كبيرة للشعب الإثيوبي... وعلى المستوى الإقليمي، زرعت شجرة من أغصان الزيتون، خاصة السلام مع إريتريا، والوساطة الناجحة في السودان، إن نيلك جائزة السلام مثار فخر لأفريقيا، وسوف يعطي رافعة لإصلاحات ديمقراطية أكبر في إثيوبيا».
هذا مقتطف من رسالة وجهها السياسي السوداني المخضرم، ورئيس الوزراء السوداني الأسبق الصادق المهدي، لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بمناسبة فوزه بـ«جائزة نوبل للسلام»، مهنئا بجهوده الداخلية والخارجية في بسط السلام في القارة الأفريقية، ومطالباً إياه بلعب دور مشابه لحل معضلة «سد النهضة» بسلام.

ما المزايا التي أوصلت أبيي أحمد لقيادة إثيوبيا، وأهّلته بالأمس للفوز بـ«جائزة نوبل للسلام»، ونقلته من منصة «المحارب القديم» إلى منصة «صانع السلام» على المستوى الدولي؟
الذين يعرفون الرجل يشهدون بأنه فرض نفسه بقوة على منصّات التواصل القديمة والحديثة، وشغل العالم بإنجازاته خلال فترة وجيزة بعد تسلمه السلطة في بلاده.
البداية
ولد آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي، يوم 15 أغسطس (آب) 1976، لعائلة فقيرة ورقيقة الحال، في منطقة غارو بمدينة جيما في إقليم أورومويا بجنوب غربي البلاد. إذ إن أباه مسلم من قومية الأورومو وأمه مسيحية من قومية الأمهرا.
وكانت حياة أحمد شاقة، إذ عاش في منزل يخلو من مستلزمات الحياة العصرية، كمياه شرب نظيفة وكهرباء. وتقول التقارير إنه كان ينام على حصير حتى كبُر، إلا أن اليافع الإثيوبي الطّموح لم يستسلم، بل واصل الكفاح حتى أصبح رئيسا لوزراء إحدى كبريات دول أفريقيا، وفي خلفية أحلامه تخليص الأجيال الجديدة من الفقر الذي يعده عدو إثيوبيا الأول.
الطموح العلمي
لم تَحُل النشأة الرقيقة دون طموح آبي أحمد العلمي والأكاديمي، ولم تكفِه المناصب العسكرية التي أوكلت له، فواصل جهوده من أجل التعلم، وتأهيل نفسه أكاديمياً. وبالفعل، حصل على درجة البكالوريوس في هندسة الكومبيوتر من كلية «ميكرولينك لتكنولوجيا المعلومات» بأديس أبابا عام 2001، ثم الدبلوم في تطبيقات تشفير المعلومات عام 2005 من جامعة بريتوريا بدولة جنوب أفريقيا. ثم حصل على ماجستير في التغيير والتحوّل من جامعة غرينيتش البريطانية 2011، وماجستير آخر في إدارة الأعمال 2013. وأخيراً، نال درجة الدكتوراه من معهد دراسات السلام والأمن بجامعة أديس أبابا 2017 عن أطروحة بعنوان «النزاعات المحلية في البلاد». ومن ثم، تأهل للعمل رئيسا لمجلس إدارة جامعة جيما، وبنك أروميا للتمويل الأصغر، وشبكة أوروميا للإذاعة.
منذ مرحلة المراهقة كان أحمد مهموماً بالأوضاع في بلاده. وهو ما دفعه للانخراط في الكفاح المسلح ضد ديكتاتور إثيوبيا الشهير منغستو هايلي ماريام. وبالفعل، انتمى لـ«الجبهة الديمقراطية لشعب الأورومو» وقاتل في صفوفها نظام منغستو، الذي اشتهرت قواته باسم «الديرغ»، حتى سقوط حكمه عام 1991، ضمن تحالف «الجبهة الثورية الديمقراطية الإثيوبية».
عام 2010 أصبح أحمد عضوا في اللجنة المركزية للتحالف الذي أسقط نظام «الديرغ» الذي قاده الراحل ملس زيناوي، مؤسّس الدولة الإثيوبية الحديثة وأول رئيس لوزرائها. وضم هذا التحالف المعروف بـ«الجبهة الديمقراطية الشعبية الثورية الإثيوبية» يومذاك، كتل «الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية» و«المنظمة الديمقراطية لشعوب الأورومو» و«جبهة تحرير التيغراي» و«حركة الأمهرا الوطنية الديمقراطية». كذلك، انخرط أحمد في الجهاز الأمني لـ«الجبهة». وبعد سقوط نظام «الديرغ» في1991 التحق رسمياً بالجيش الإثيوبي، وانضم بعدها إلى وحدة الاستخبارات والاتصالات العسكرية وأسهم في تأسيس هذه الوحدة المهمة فيه. ثم تدرّج فيها حتى وصل إلى رتبة عقيد عام 2007.
غادر أحمد الاستخبارات عام 2010، وبدأ عمله السياسي عضواً بحزب الأورومو الديمقراطي، ثم انتخب نائباً في البرلمان الإثيوبي عام 2010، وأعيد انتخابه 2015. وبعد ذلك، عيّن وزيرا للعلوم والتكنولوجيا بالحكومة الفيدرالية بين 2016 إلى 2017. كما كان مسؤولاً عن مكتب التنمية والتخطيط العمراني بإقليم أوروميا، وترقى لنائب رئيس إقليم أوروميا بنهاية 2016.
وفي العام نفسه استقال رئيس الوزراء هيلا مريام ديسالين من منصبه فجأة إثر الاحتجاجات المناهضة لحكومته في إقليم أمهرا، وقمعتها السلطات التابعة له بعنف، ووجد انتقاداً محلياً وإقليمياً واسعاً، اضطر التحالف الحاكم تبعاً له لتعيين آبي أحمد رئيسا للوزراء في 2 أبريل (نيسان) 2018.
اختياره رئيساً للوزراء
قدّم رئيس الوزراء السابق هايلي ماريام ديسالين استقالته من الوزارة ورئاسة الائتلاف الحاكم، وقال إن الهدف من الاستقالة تعزيز الجهود لوضع حلول لمشاكل بلاده، متحملا بشكل غير مباشر المسؤولية عن الاضطرابات التي شهدتها إثيوبيا وراح ضحيتها عدد من القتلى ونزوح آخرين.
وثار مواطنون من الأورومو، الذين يمثلون أكبر قوميات إثيوبيا تعداداً، على خطط لتوسيع العاصمة أديس أبابا باعتبارها على حساب إقليمهم الذي تقع فيه العاصمة، إضافة إلى ما وصفوه بالتلكؤ في إطلاق سراح معتقلين سياسيين ينتمون لقوميتهم. وبالفعل، أغلقوا الطرقات حول أديس أبابا وسدوا الطرقات البرية، وأوقفوا وسائط النقل العام عن العمل، وعندما واجهتهم الأجهزة الأمنية بعنف، سقطت أعداد من المحتجين قتلى.
استمر ديسالين في تأدية مهام منصبه لتسيير الأعمال منذ فبراير (شباط) 2018 حتى تعيين رئيس البرلمان والائتلاف الحاكم آبي أحمد رئيساً بديلاً في أبريل من العام ذاته. ويوم الخميس 29 مارس (آذار) 2018، صادق مجلس نواب الشعب الإثيوبي على تعيينه رئيساً للوزراء بغالبية مطلقة، ليجلس «الأربعيني» الإصلاحي منذ ذلك الوقت في موقع السياسي والتنفيذي الأول في البلاد المكتظة بالسكان والمتعددة القوميات، ويبلغ عدد سكانها نحو 100 مليون نسمة.
مصالحات داخلية
على صعيد ثانٍ، منذ يومه الأول في الحكم، شرع آبي أحمد في عقد مصالحات بينية بين شعوب وقوميات إثيوبيا، زار خلالها أقاليم إثيوبيا المتعددة. وكانت البداية في إقليم «الصومال الإثيوبي»، وأنهى نزاعا بين سكان الإقليم وسكان إقليم «أوروميا» المجاور قتل فيه المئات. ثم انتقل إلى معقل معارضة الأورومو وعمل على تهدئة الشباب الثائر، وبعد ذلك زار مدينة مقلي، حاضرة إقليم التيغراي، وطمأن السكان على حفظ مصالحهم القومية. ثم انتقل إلى مدينة غوندر، حاضرة إقليم الأمهرا، التي شهدت أعمال عنف ضد التيغراي، وأفلح في إطفاء فتيل التوتر المستمر منذ سنوات هناك. وأيضاً، أنهى رئيس الحكومة الشاب في زيارة لمدينة أواسا، العاصمة الإدارية لإقليم «أقوام الجنوب والقوميات والشعوب» أزمة قبلية في الإقليم الذي تقطنه أكثر من 56 قومية من أصل 80 قومية إثيوبية، وأنهت زيارته أعمال العنف المندلعة هناك.
وإثر نجاحه في المصالحات القبلية والسياسية، شرع أحمد في تهدئة الخلافات الدينية، بالتوفيق بين المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ولجنة تحكيم المسلمين بإثيوبيا، وتحقيق المصالحة بين الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية في أديس أبابا، والكنيسية الأرثوذكسية في الولايات المتحدة الأميركية، وعودة بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية في إثيوبيا إبونا مركوريوس إلى بلاده، بعد منفى دام 27 سنة.
المحارب... صانع السلام
في يونيو (حزيران) 2018 أعلن آبي أحمد، بعد أن أجرى سلسلة إصلاحات داخلية غير مسبوقة، رغبته في إنهاء النزاع الحدودي المتطاول والمستمر منذ عام 1998 مع جارته إريتريا، مؤكداً استعداد بلاده لتنفيذ اتفاق السلام الموقع بين البلدين في عام 2000، واستعدادها لقبول قرارات لجنة التحكيم الدولية بشأن الحدود المشتركة.
نشبت الحرب بين إثيوبيا وإريتريا في مايو (أيار) 1998، على خلفية نزاع حدودي على بضع مئات من الكيلومترات من الأراضي الصحراوية، بعد أن اتهمت إريتريا «جارتها» الكبرى إثيوبيا بتغيير خط الحدود البالغ طولها نحو ألف كيلومتر، والتي لم تخطط منذ استقلال إريتريا عن الإمبراطورية الإثيوبية تسعينات القرن الماضي، فيما اتهمت إثيوبيا إريتريا بأنها انتهكت أراضيها بغزوها للمنطقة المشهورة بـ«مثلث بادمي»، وبعد أن فشلت المفاوضات بين البلدين شنّت إثيوبيا هجوماً واسعاً اخترقت فيه الخطوط الإريترية.
لكن وساطة جزائرية أفلحت في إنهاء النزاع الدامي بين الطرفين، فوقّعا اتفاق سلام في يناير (كانون الثاني) 2000 بالعاصمة الجزائر، وتوقفت حرب أسفرت عن سقوط نحو ثمانين ألف قتيل. ونص «اتفاق الجزائر» على إقامة «منطقة أمنية» مؤقتة فاصلة بعرض 25 كيلومتراً على طول الحدود، تحت مراقبة من الأمم المتحدة، وقضت لجنة تحكيم دولية بأحقية إريتريا في المناطق المتنازعة، بيد أن إثيوبيا رغم اعترافها بالقرار، لكنها ماطلت في تنفيذ بنوده.
فجأة وفي 8 يوليو (تموز) 2018، عقد رئيس الوزراء الإثيوبي لقاء وصف بأنه تاريخي مع الرئيس الإريتري آسياس أفورقي، وقعا فيه إعلاناً مشتركاً ينهي حالة الحرب. وفور توقيع الإعلان قام أفورقي بزيارة كبيرة إلى إثيوبيا بعد مقاطعة طويلة، أعيد خلالها فتح سفارتي البلدين، وأعقبها استئناف الرحلات الجوية، أعادا في سبتمبر (أيلول) 2018 فتح مركزين حدوديين مغلقين منذ عشرين سنة، بعدما وقعتا اتفاقية سلام برعاية المملكة العربية السعودية.
ولم يكتف آبي أحمد بتطبيع العلاقات بين بلاده وإريتريا، بل سعى لبث روح التعاون وإنهاء الخلافات المعقدة بين «دول القرن الأفريقي»، وشهدت العاصمة الإريترية أسمرا في سبتمبر 2018 قمة ثلاثية بين آبي أحمد وأفورقي والرئيس الصومالي عبد الله فرماجو، بعد قطيعة إريترية صومالية طالت 15 سنة، على خلفية اتهامات لإريتريا بدعم إرهابيي «الشباب الصومالي» المرتبط بتنظيم «القاعدة».
وبالنسبة للسودان، في 17 أغسطس الماضي، مهر آبي أحمد بتوقيعه شاهداً على وثائق الانتقال السودانية وتشمل «الإعلان السياسي، والوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية في السودان»، معلنا نهاية فترة عصيبة في تاريخ السودان. ولفتت دموع مبعوث ووسيط آبي أحمد ومستشاره للسودان السفير محمود درير لحظة التوقيع المبدئي على اتفاقية الشراكة بين العسكر والثوار السودانيين، أنظار العالم وشغلت وسائل الإعلام.
وفي 7 يونيو 2019 زار الزعيم الإثيوبي السودان لحث الأطراف للعودة للتفاوض مجدداً ضمن جهوده للمصالحة في السودان، ليقنع «قوى الحرية والتغيير» و«المجلس العسكري الانتقالي» بالعودة للتفاوض بعد «صدمة فض الاعتصام»، وتكوين هياكل السلطة الانتقالية بشكلها الحالي باعتبارها جزءاً من المبادرة الإثيوبية للتوافق السوداني.
ومع توقيع الوثائق الحاكمة للفترة الانتقالية في السودان، نجح آبي أحمد في منع انزلاق البلد ذي الروابط القومية مع بلاده في الفوضى.
حكومة نصفها من النساء
وفي مجال المنجزات، أيضاً، تعد الوزارة الثانية التي شكلها آبي أحمد في أكتوبر (تشرين الأول) 2018، هي الأولى من نوعها في التاريخ الإثيوبي، التي «تشغل» النساء نصف حقائبها (10 حقائب وزارية من جملة الوزارات البالغة 20 وزارة للنساء). وقال أحمد في كلمته عن إعلان الحكومة «المرأة ستساعد في محاربة الفساد لأنها أكثر كفاءة، وأقل فساداً من الرجل».
وحقيقة الأمر، لم يكلف أحمد نساءه بـ«الوزارات الهامشية»، أو تلك المتعلقة بالمرأة والطفل كما جرت العادة في دول العالم الثالث، بل سجل في تاريخ إثيوبيا أن السيدة عائشة محمد دونت بصفتها أول وزيرة للدفاع في البلاد، كما عين السيدة موفريات كامي وزيرة للسلام بعدما كانت تشغل منصب رئيسة البرلمان، وتشمل مهمتها الإشراف على الاستخبارات وجهاز الأمن والشرطة، وهو منصب كان حكراً على الرجال في إثيوبيا. ومما قاله أحمد، وهو يقدم وزارته الجديدة عن الحصة غير المسبوقة التي حظيت بها المرأة الإثيوبية، «وزيراتنا سيحطمن المقولة القديمة إن النساء لا يصلحن للقيادة»، وفقا لما نقلته وكالة «أسوشييتد برس» وقتها.
وفيما يبدو أنه اتساق مع رؤية أحمد، انتخب البرلمان الإثيوبي 25 أكتوبر 2018، السيدة سهلي - ورق زودي رئيسة للدولة بغالبية ساحقة، لتتقلد هي الأخرى لأول مرة المنصب الرفيع في تاريخ إثيوبيا الحديث، خليفة للرئيس السابق مولاتو تشيومي الذي تقدم هو الآخر باستقالة مفاجئة.

جائزة نوبل للسلام
وأخيراً، خارج حدود إثيوبيا هذه المرة، جاء التقدير الدولي الأكبر لآبي أحمد في حياته، يوم 11 أكتوبر الحالي.
في ذلك اليوم قرّرت «لجنة جائزة نوبل النرويجية» منح آبي أحمد «جائزة نوبل للسلام» عن عام 2019؛ «تقديراً لجهوده في تحقيق السلام والتعاون الدولي»، لا سيما مبادرته لحل النزاع الحدودي مع «الجارة» إريتريا. ونقلت وكالة الأنباء الألمانية عن أحمد قوله بعد إبلاغه بفوزه بالجائزة الكبيرة ذات المردود الأدبي الضخم: «يغمرني شعور بالامتنان والسعادة... إنها جائزة لأفريقيا ولإثيوبيا».



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.