مدينة نيويورك... النجمة المتألقة في سماء الأفلام

أثناء تصوير مشاهد من فيلم تحولت شوارع فيرست وسكند أفينيو بنيويورك لاستديو سينمائي (نيويورك تايمز)
أثناء تصوير مشاهد من فيلم تحولت شوارع فيرست وسكند أفينيو بنيويورك لاستديو سينمائي (نيويورك تايمز)
TT

مدينة نيويورك... النجمة المتألقة في سماء الأفلام

أثناء تصوير مشاهد من فيلم تحولت شوارع فيرست وسكند أفينيو بنيويورك لاستديو سينمائي (نيويورك تايمز)
أثناء تصوير مشاهد من فيلم تحولت شوارع فيرست وسكند أفينيو بنيويورك لاستديو سينمائي (نيويورك تايمز)

من أبرز المقولات الدائمة ذات الصلة بنقد الأفلام أن «المدينة في حد ذاتها تعد شخصية مستقلة من شخصيات الفيلم». وبما أنني لا أملك من المعلومات ما يؤكد ذلك أو ينفيه، فإن حدسي العميق ينبئني بأن هذه المقولة لم تكن لتتعلق بمدينة أميركية أخرى غير نيويورك.
وإن كان ذلك ليس صحيحاً على تمامه وفي كل الأحوال، فإن نيويورك في واقع أمرها تعد من بين ألمع نجمات السينما ولا تناطحها في ذلك بكل جدية من بين مدن العالم الكبرى الأخرى سوى العاصمة الفرنسية باريس. وهي تستمد شخصيتها المتفردة من الكاريزما التي صاحبت كبار نجوم السينما الأميركية على مر العصور من أمثال «بيتي ديفيس»، أو «كاري غرانت»، أو «سيدني بواتييه»، من بين الكثيرين. ورغم تعدد وتنوع واختلاف الوجوه التي ظهرت بها مدينة نيويورك قبالة الكاميرا - في تألقها أو انحدراها، وفي جاذبيتها أو كراهيتها، وفي مآسيها أو جنونها - فإنها دائماً وبلا أدنى شك لا تعبر إلا عن ذاتها الحقيقية.
وعلى غرار أي نجم سينمائي من نجوم البشر ممن يستحقون سرد التفاصيل عن حياتهم، فإن مدينة نيويورك خارج الشاشة الفضية قد تتسم بقدر من الصعوبة على التحمل بقدر سحرها وجمالها الأخاذ. إنها تبدو كالفتاة اللعوب المغرية، والساحرة، والمتشوقة والمتمنعة في إباء، مع استحالة فصل صورتها عن واقعها الحقيقي. وترى نيويورك على الدوام عميقة الانغماس في مسرح وجودي يعرب عن سرمديتها بين المدن.
تدفعك الحياة في تلك المدينة الصاخبة دفعاً إلى القيام بدورك الفعال بين مختلف مشاهد ولفتات تلك المسرحية الأزلية المستمرة، وأن تتماهى معها من دون عناد أو تردد. فربما تتجول سائراً بين مختلف مباني الحي المفضل لك، تحمل فوق رأسك سماعتين تنقلان إلى دماغك سرديات قصص لم تكن ذاكرتك لتنساها مهما مرت الأيام (من فيلم «تاكسي درايفر» لعام 1976. إلى فيلم «بريكفاست آت تيفاني» لعام 1961. وصولاً إلى فيلم «دو ذي رايت ثينج «لعام 1989).
قد تُضفي الأفلام السينمائية لمسة سحرية فائقة الروعة على حياتنا، غير أن صناعة الأفلام السينمائية في حد ذاتها تمنح سكان مدينة نيويورك سهماً آخر من أسهم المشاكل التي لا تفارقهم كمثل القطارات المتأخرة، والمرور الفظيع بازدحامه الخانق، وجحافل السائحين البطيئة للغاية، ومواقف السيارات التي تحتل أماكن غير معلومة من الشوارع، فضلاً عن قواعد جمع المخلفات العصية على الفهم حتى اليوم، وربما كل شيء مما بات على غير الطريقة التي من المفترض أن يكون عليها في العصر الحاضر.
وصار إنتاج الأفلام السينمائية في مدينة نيويورك، الذي تضاءل وتراجع على مر السنين وعاد إلى أوج ازدهاره في الآونة الأخيرة، من أبلغ مصادر الإحباط في نيويورك العصر الراهن ومن مواضع الحنين والتوق الشديد إلى الأيام الخوالي. وتعكس الصور المأخوذة من محفوظات صحيفة «نيويورك تايمز» - والتي تغطي العقود المتوسطة والأخيرة من القرن الماضي - تلك المفارقة الزمنية المتسمة بكل روعة وجمال. فهي مقتطفات بديعة لسجلات يومية تنقلنا إلى الماضي الجميل في كبسولة زمنية فائقة السرعة.
ولا يمكن توصيفه بسجل المحفوظات الشامل على أي مقياس معروف. فتلك الصور جاءت نتاجاً للصدفة المحضة، أو هي انعكاس للأيام الخوالي التي احتلت فيها طواقم الأفلام وجحافل المصورين الصحافيين جملة المطبوعات الصحافية لتلك الفترة في نفس الوقت.
وكان هناك، بين الكثير من الصور، ما يعبر عن مسلك حقيقي يعطف في مساره على سحر السينما الأميركية في أوائل الستينات وسخرياتها اللاذعة من تفاعلات منتصف السبعينات - ونذكر من بين شخصيات تلك الفترة أسماء لامعة مثل «روك هدسون»، و«دوريس داي»، و«آل باتشينو»، و«جين هاكمان» - فضلاً عن العديد من الشخصيات والسرديات الأخرى التي تحفل بها محفوظات وذاكرة السينما للعديد من الأبطال والمشاهدين على حد سواء. ولا يسعني عبور شارع 110 من دون التفكير في «يافيت كوتو» و«أنتوني كوين» بطلا فيلم «أكروس 110 ستريت» الدرامي لعام 1972. مع أغنيته الرائعة من تأليف «بوبي وماك». وعند عبوري بين بنايات بروكلين العتيقة حيث تفسح أحجارها البنية القائمة المجال للمنازل الصغيرة ذات القوائم الخشبية، أعتقد أنها «جوهرة تاج الحي»، اقتباساً للعبارة من فيلم «ذي سكويد أند ذي وايل» لعام 2005. أما حديقة «سنترال بارك» الشهيرة فقد كان لها نصيب الأسد المتوج من التصوير في مئات الأفلام، لكن الحديقة بالنسبة لي تمثل ذكرى تصوير الفيلم الوثائقي الشهير «سيمبيوسايكوتاكسيبلازم تيك وان»، وهو تحفة مخرج الأفلام الوثائقية العبقري «ويليام غريفز» في عام 1968، وتدور أحداث القصة حول مخرج سينمائي يحاول تصوير فيلم في سنترال بارك - إنه الفيلم الذي يعج بل ويعكس أغلب فعاليات ومجريات تلك الأيام.
وفي بعض الأفلام الأخرى، برغم كل شيء، فإن الحاضر المصور ضمن فعاليات الفيلم هو تاريخ الحقبة المُعاد بناؤه بلمسة فنية بديعة. ونذكر صورة أحد شوارع نيويورك القديمة حيث العربات التي تجرها الخيول، وحبال الغسيل التي ترفرف على الشرفات، بين مختلف الرافعات ومصابيح الإضاءة الزيتية العتيقة، والتي تعكس حقبة عشرينات القرن الماضي على نحو ما ظهرت به في الفيلم الموسيقي «ذي نايت ذاي ريديد مينسكي» لعام 1968، ويُقال إنه الفيلم الموسيقي الأول الذي جرى تصويره بالكامل في مدينة نيويورك. وعندما طُرح الفيلم للعرض في نفس العام، وجد إشادة كبيرة لدى المؤلفة والناقدة السينمائية الأميركية «ريناتا أدلر» والتي كانت أبرز نقاد الأفلام لدى صحيفة نيويورك تايمز في تلك الفترة حيث قالت عنه: «مفعم بالتفاصيل والعناية بها في كل ثانية. كان الجانب الشرقي السفلي من المدينة حقيقي في كل شيء».
والفيلم الموسيقي «ذي نايت ذاي ريديد مينسكي» هو من أعمال المخرج ويليام فريدكين الذي نذكر له فيلم «ذي فرنش كونيكشن» الدرامي من بطولة جين هاكمان لعام 1971، وكان من أحد أبرز الأفلام المميزة لحقبة السبعينات من حيث تصويره لمدينة نيويورك في الزمان والمكان الحقيقيين؛ حيث تزداد تلك الأماكن رونقاً وبهاءً في كل مرة تمر بها وتمر هي بذاكرتك. ويصور الفيلم نفسه كذلك واحدة من أعظم مطاردات السيارات التي صورت في السينما الأميركية قاطبة، حيث ينطلق المحقق بوباي دويل - جين هاكمان بسرعة فائقة أسفل مسار المترو في «بنسونهيرست» في بروكلين مندفعاً وراء المشتبه به الذي استقل لتوه القطار.
وشخصية المحقق «بوباي دويل» من نماذج الشخصيات المألوفة في أفلام مدينة نيويورك - ذلك الرجل الفظ، العنيد، صلب المراس، والساخر للغاية من رجال إدارة الشرطة في مدينة نيويورك الذي يذكرنا بشخصية المغني اللامع «فرانك سيناترا» ودور المحقق «جو ليلاند»، الذي قام به في فيلم «ذي ديتيكتيف» من إنتاج عام 1968، وكذلك دور «زاكري غاربر» للممثل الأميركي «والتر ماثاو» في فيلم «ذي تيكينج أوف بيلام وان تو ثري» لعام 1974. وربما يعد ذلك الفيلم من أروع الأفلام التي تصور وسائل النقل العامة في مدينة نيويورك لتلك الفترة. ولقد كان فيلماً جميلاً للغاية لدرجة أنه أعيد إنتاجه مرة أخرى من بطولة «دينزل واشنطن» و«جون ترافولتا» بعنوان «ذي تيكينج أوف بيلام 123» في عام 2009 في تحديث جديد للأدوار التي قام بها كل من «والتر ماثاو»، و«روبرت شاو».
وفي عام 1974 الذي شهد العرض الأول للنسخة الأصلية من الفيلم، قالت صحيفة نورا ساير عنه: «لقد مر وقت طويل منذ أن شاهدنا فيلماً يعكس المزاج الحقيقي لمدينة نيويورك وسكانها»، ولقد كان وصفاً على مسمى حقيقي للفيلم بنسخته الأولى والأخيرة. وهو لا يتعلق بمجرد خطة محكمة الإتقان، وربما عصية على التنفيذ، لاختطاف قطار مليء بالركاب وطلب فدية ضخمة من المدينة في المقابل، بل إنه يتعلق بالتفاعل الواقعي بين الجريمة، والبيروقراطية، والبنية التحتية، والنظام، والمدينة التي ينتظم سيرها اليومي حول العمل.
تعكس هذه الأفلام وتحتفي بقيمة العمل المتضمنة في إنتاج الخيال الذي يحوم عائداً إلى أرض الواقع. وتعمل كاميرا التصوير السينمائي على ترتيب وتوظيف العناصر المادية الحقيقية - المباني، والوجوه، والأرصفة، واللافتات، والإشارات - ضمن منظومة خيالية فذة الإتقان. وتعمل عدسة الكاميرا الفوتوغرافية الثابتة على التقاط خط التماس بين عالم الخيال والعالم الحقيقي في محاولة للكشف عنه. ولكن، ما الذي يمكن وصفه بالطبيعي في هذا السياق؟ نجوم السينما هم نجوم السينما، سواء يحتلون المشاهد الأولى، أو يحولون اتجاههم، أو ينتهون من المكياج قبل التصوير، أو يتناولون المشروبات، أو يدخنون في فترات الراحة. إن بريقهم حقيقي وأصيل، ولا يسهل التغلب عليه ومقاومته. ولا يمكنك إدراكه إلا بمصادفته، حتى حال متابعتك لأحوال أعمالك اليومية، وحتى وإن عجزت لديك الكلمات عن توصيف ما رأيته بعينيك تماماً.
ويصدق نفس الأمر على المدن سواء بسواء.

- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

سينما المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

ماذا تفعل لو أنك اكتشفت أن الشخص المتهم بجريمة قتل بريء، لكنك لا تستطيع إنقاذه لأنك أنت من ارتكبها؟ لو اعترفت لبرّأت المتهم لكنك ستحلّ مكانه في السجن

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
سينما من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)

شاشة الناقد: دراما نسوية

في فن صنع الأفلام ليس ضرورياً أن يتقن المخرج الواقع إذا ما كان يتعامل مع قصّة مؤلّفة وخيالية.

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)