«الإخوان» في الدول الإسكندنافية

«التنظيم الدولي» يرسخ وجوده في السويد

رجلا شرطة مسلحان أمام مسجد النور في أوسلو عقب تعرضه لهجوم في أغسطس الماضي  (إ.ب.أ)
رجلا شرطة مسلحان أمام مسجد النور في أوسلو عقب تعرضه لهجوم في أغسطس الماضي (إ.ب.أ)
TT

«الإخوان» في الدول الإسكندنافية

رجلا شرطة مسلحان أمام مسجد النور في أوسلو عقب تعرضه لهجوم في أغسطس الماضي  (إ.ب.أ)
رجلا شرطة مسلحان أمام مسجد النور في أوسلو عقب تعرضه لهجوم في أغسطس الماضي (إ.ب.أ)

ما الذي يجعل التنظيم الدولي لجماعة «الإخوان المسلمين» يكثف جهوده في الآونة الأخيرة من أجل تثبيت حضوره في مجموعة الدول الإسكندنافية وبنوع خاص في السويد؟... لعل ما تعرضت له جماعة «الإخوان المسلمين» من انتكاسات في الأعوام الماضية في الشرق الأوسط، وفي منطقة الخليج العربي مؤخرا، كما في حال افتضاح شأنها في الكويت، جعل السعي المحموم إلى الخارج أمرا ملحا لا سيما إذا كانت في دول تتوفر فيها الشروط الملائمة لنشوء وارتقاء «الجماعة» مرة أخرى من أجل تحقيق أهدافها التي لم تغب عن عينيها.

منذ أن تأسست «الجماعة» وحتى الساعة، كان في المقدمة وضمن أهدافها، بسط هيمنتها ومقدراتها لا على العالم العربي والإسلامي فقط، بل تصدير دعوتها واكتساب أرض جديدة يوما تلو الآخر إلى حين تتمكن من التحكم في العالم برمته.
ما الذي يدعو لفتح ملف «الإخوان المسلمين» في الدول الإسكندنافية في هذا الوقت؟ المؤكد أن هناك رصدا ومتابعة دقيقين قد جرت بهما المقادير الأشهر القليلة الماضية، هناك، حيث أكدت الخلاصات أن العديد من أفراد جماعة الإخوان والقياديين في «التنظيم الدولي» قد وقر لديهم يقين بأن السويد والدنمارك والنرويج، هي أفضل ثلاث دول يمكن أن يباشروا عليها أنشطتهم وبخاصة بعد التضييق عليهم من قبل الأجهزة الأمنية، في الدول التقليدية التي عاشوا فيها طويلا لا سيما بريطانيا وألمانيا وفرنسا بدرجة ما.
أضف إلى ذلك أن انحسار تنظيم داعش ومؤيديه أيديولوجيا على الأقل قد كشف أوراق الكثيرين الذين باتوا قولا وفعلا أوراقا محروقة، ويتحتم عليهم الابتعاد والتواري عن المشهد.
عطفا على ذلك فإن الدول الإسكندنافية في هذه الأوقات تبقى الأكثر أمانا من ناحية عدم استطاعة اليمين الأوروبي المتطرف، السيطرة على حكوماتها وهو التيار الذي يعادي جهرا وسرا الوجود الإسلامي على الأراضي الأوروبية.
في دراسة حديثة لـ«وكالة الطوارئ المدنية» في السويد إحدى أهم وزارات الدفاع والتي تقوم بمثابة الاستخبارات على الأرض، نجد خلاصات مفادها أن «الإخوان» يسعون إلى اختراق الوجود الإسلامي في السويد ونشر مفاهيم الجماعة واكتساب أعضاء جدد.
على أن السؤال المطروح في هذا المقام كيف تمكن «الإخوان» من اختراق هيكل الدولة السويدية خلال العقدين الماضيين أي مع أوائل الألفية الجديدة بنوع خاص؟
الجواب يحمله إلينا البرفيسور السويدي ماغنورس نورويل، وعنده أن جماعة «الإخوان» تمكنت على مر السنين من بناء مؤسسات قوية في ذلك البلد الإسكندنافي البعيد بعد أن ضمنت عمليات تمويل من الأموال السويدية العامة، وبعد أن أتقنت فن الاحتيال في هذا البلد منذ سنين طويلة.
أما الباحث السويدي والخبير في شؤون جماعة «الإخوان لمسلمين» لورينزو فيدينو، فيذهب في تحليله لطريقة انتشار الإخوان في السويد، إلى القول بأن جماعة «الإخوان» الأم تعتمد على ثلاث فئات من الكيانات السويدية أعضاء الإخوان أنفسهم، وشبكات الإخوان غير المباشرة، والمنظمات المتأثرة بالإخوان.
ولعل تعميق البحث في مسألة الوجود الإخواني في السويد يقودنا إلى اكتشاف جذور تعود إلى ثلاثة عقود خلت وليس لعقدين فقط، وأنهم عرفوا كيف يتعاطون وإن بذكاء شديد مع مفاتيح الدولة السويدية، وعليه فقد قاموا ببناء هيكل مؤسسي يستخدم بسلاسة «النموذج السويدي» للاستفادة الكاملة من نظام المنح السخي والمساعدات المالية من الخزائن العامة.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل أنشأت جماعة «الإخوان» منظمات مستقلة ظاهريا لكنها ترتبط بها تشمل شبكات من المدارس والشركات والجمعيات الخيرية وغيرها من الكيانات، كل واحدة تنتمي إلى إحدى الفئات الثلاث المتقدمة، تحصل على تمويلها من دافعي الضرائب.
في هذا الصدد كانت هيئة «الحماية المدنية والتأهب» تصدر تقريرا بعنوان «النشاط الإسلامي في سياق متعدد الثقافات» قام على إعداده أستاذ الأنثروبولوجيا الاجتماعية السويدي «إيه كارلوم»، من جامعة «مالمو» خلص فيه إلى أن «الإخوان» على أراضي السويد لديهم مهمة راديكالية الطابع ذات خطر على الدولة، ولا ينبغي أن تتلقى أموالا من الأصول الضريبية.
دعا تقرير «كارلوم» إلى فتح العيون على أهم بل وأخطر أربع جمعيات كبرى في السويد على صلة مباشرة بالإخوان وأشهرها «جمعية الإغاثة» و«جمعية بن رشد التعليمية» و«جمعية الشباب السويدي المسلم» و«الرابطة الإسلامية» التي تعد مقرا لـ«الإخوان».
يستدعي الحديث عن هذه الرابطة حديثا مطولا لا سيما بعد أن باتت ملاحقة رسميا من السلطات السويدية متمثلة في جهازي الشرطة والمخابرات، فهي تابعة بشكل كامل «للتنظيم الدولي» والذي ينشط بأذرع متعددة في أوروبا وخصوصا في السويد عبر نشاط اقتصادي مغلف بعمل خيري أو تربوي أو حتى تعليمي وديني وإرشادي، وإن كانت المحصلة النهائية لكافة هذه التنظيمات واحدة أي ملء خزائن التنظيم الدولي لـ«الإخوان» بالأموال، وهي تستوحي قيمها من أفكار المؤسس حسن البنا، ورئيسها يدين بالولاء التام للزعيم الروحي لـ«الإخوان» يوسف القرضاوي.
تزعم الرابطة اليوم أنها تمثل ما لا يقل عن سبعين ألف سويدي مسلم، وهو رقم كبير يكاد يشمل الغالبية العظمى للمسلمين في السويد، وتشكل الرابطة مظلة لعدد من المنظمات السويدية، بما فيها المجلس الإسلامي السويدي، ومسجد ستوكهولم والأصول التابعة له في السويد.
لاحقا تكشف لجهات الأمن السويدية أنهم أمام تشكيلات إخوانية تكاد تكون صورة طبق الأصل من نظيراتها في الشرق الأوسط والعالم العربي والإسلامي، إذ تتألف كل منظمة من المنظمات التابعة لـ«الإخوان» في السويد من مجلس شورى تحت قيادة أمير أو زعيم، ويتكون كل مجلس من اثني عشر شخصا يتناوبون على رئاسته، وينقسم الأعضاء بدورهم إلى وحدات صغيرة تتألف من خمسة أفراد ليشكلوا بذلك أسرة أو عائلة، وتقوم الأسرة بدورها بتنظيم اجتماعات أسبوعية تتخللها مناقشة الأمور الأيديولوجية في البلاد. ويضع تقرير المعهد الأميركي جيتسون السويديين أمام حقائق مخيفة حول ما يجري على أراضيهم من خداع فعلى سبيل المثال لم يكن هناك مشروع لإنشاء مسجد يعد مركزا لـ«الإخوان» في مدينة مالمو، بل مركز للأنشطة الشبابية والأسرية، وحين تم سؤال المسؤول عن البناء المدعو خالد عاصي قال إن الوقف غير تابع لأي مؤسسة، وإن جميع المساهمات المالية تأتي من أفراد المنطقة. فيما الأمر الأكثر إزعاجا أن العديد من أعضاء ما يعرف بـ«الوقف الإسلامي السويدي» ينتمون إلى الجمعية الثقافية الإسلامية السويدية التي ينتمي متحدثها الرسمي عمار دواد إلى طائفة أتباع الإمام الدنماركي أبو لبن، المعروف بصلاته بعناصر جهادية وبتحريضه للعالم الإسلامي ضد الدنمارك، وقد وصف أبو لبن ذات مرة «سيد قطب» منظر جماعة الإخوان المسلمين الأشهر بأنه مثله الأعلى.
ولعل خلاصة التقارير السويدية عن حالة «الإخوان المسلمين» في البلاد يمكن إجمالها في أن الجماعة تسعى في الداخل إلى بناء وخلق مجتمع مواز بمساعدة النخب السياسية التي تدعم سياسات الصمت على أنشطة هذه المجموعة الأصولية غير البريئة، وأن هذه الجماعة تبني كيانا موازيا في هذه الدولة الإسكندنافية، يمتد ليتصل ببقية الإخوان في الدنمارك والنرويج، كما أن هناك حالة جهل عام في صفوف السياسيين السويديين بشأن المجموعات المنتسبة إلى جماعة الإخوان، وبشأن مفهوم الإسلام السياسي ككل، وقد حان الوقت للاعتراف بالمشاكل المتجذرة المنبثقة عن وصول الجماعة إلى المال العام دون قيود، ولا بد من تحقيق رقابة على الأفراد الذين يديرون منظمات قد تكون بديلا عن اللبنات الأساسية للمجتمع.
ولعله من المؤكد أن الحديث عن التمدد «الإخواني» في الدول الإسكندنافية لا يستقيم بدون الحديث عن ذلك الوجود في النرويج وكذا الدنمارك.
يستلفت النظر في النرويج بداية وجود الرابطة الإسلامية الموازية لنظيرتها في السويد، والتي لها مسجد مستقل هو «مسجد الرابطة» في العاصمة النرويجية أوسلو، ويديره بعض الأشخاص وثيقو الصلة بالمرشد الروحي لـ«الإخوان» يوسف القرضاوي.
يستغل إخوان النرويج بنفس العقلية مؤسسات الدولة النرويجية التي تسبغ حرصها ودعمها للأقليات، وعليه يحصلون من الدولة على دعم مالي يستخدم في خدمة الأغراض الإخوانية، وخلال إجراء النيابة النرويجية التحقيقات حول نشاط خلية مايكل داود المتهم بتفجير صحيفة جيلاندز بوست الدنماركية ورد ذكر اسم مسجد الرابطة، فقد كان داود، وهو نرويجي من أصل صيني تحول إلى الإسلام عقب زواجه من امرأة مسلمة من أصول مغربية يتردد بشكل مستمر على المسجد قبل سفره إلى دول عربية حيث تواصل مع تنظيم «القاعدة»، وأشار إلى أنه أثناء قيادة الإخواني الأردني إبراهيم الكيلاني لـ«الرابطة الإسلامية» عام 2006 توسعت المؤسسة الإخوانية في أنشطتها الاجتماعية ونظمت فعاليات ومؤتمرات اشترك فيها قادة من الجماعة.
ماذا عن الدنمارك؟ الشاهد أن بعض التقارير الإعلامية الغربية تحدثت مؤخرا عن العاصمة الدنماركية كوبنهاجن، فوصفتها بأنها «مغارة الحمدين» في إشارة لا تخطئها العين لما تقوم به قطر منذ عام 2000 في نشر رؤاها الأصولية من خلال الجماعات الإخوانية المنتشرة هناك.
منذ عقدين أسست قطر ما يعرف بـ«المجلس الإسلامي الدنماركي»، لتجعل منه صندوقا لتمويل تيارات متطرفة وفلول جماعة الإخوان الفارين من الدول العربية وحصالة لجمع الأموال وتوزيعها على قياديين في جماعات وتنظيمات وتيارات مشبوهة داخل أوروبا.
ولعل ما كشف حقيقة الدور المزعج لذلك المجلس قضية اختلاس بعض أعضائه لمبالغ تصل إلى ملايين الدولارات، مما جعل أجهزة الاستخبارات الدنماركية تتساءل من أين تحصلوا على تلك الأموال؟ وفيم أنفقوها؟
وفي كل الأحوال يتكشف للدنماركيين والحديث على لسان هنريك يرني عضو اللجنة القانونية بالحزب الديمقراطي الاجتماعي أنه منذ عام 2010 تدفقت الأموال القطرية بالملايين على المركز المعروف باسم المجلس الإسلامي، وما أثار المخاوف هو أن تبرعات المسلمين في الدنمارك ومساعدات الدولة تكفي لبناء هذ المسجد وأكثر، وعليه فلماذا المزيد من ملايين قطر تلك التي يقوم بنقلها مسؤولون كبار في قطر.
ويبقى السؤال قبل الانصراف: هل يتحتم على الدول الإسكندنافية التيقظ اليوم لما يحاك لها ويجري على أراضيها؟


مقالات ذات صلة

ضبط أجهزة كومبيوتر محمولة وأموال خلال مداهمة مقرّ جمعية إسلامية محظورة بألمانيا

أوروبا العلم الألماني في العاصمة برلين (أ.ب)

ضبط أجهزة كومبيوتر محمولة وأموال خلال مداهمة مقرّ جمعية إسلامية محظورة بألمانيا

صادرت الشرطة الألمانية أجهزة كومبيوتر محمولة وأموالاً، خلال عمليات مداهمة استهدفت جمعية إسلامية تم حظرها حديثاً، ويقع مقرّها خارج برلين.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان استقبل السيسي في مطار أنقرة في إسطنبول (من البث المباشر لوصول الرئيس المصري) play-circle 00:39

السيسي وصل إلى أنقرة في أول زيارة لتركيا

وصل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى أنقرة، الأربعاء، في أول زيارة يقوم بها لتركيا منذ توليه الرئاسة في مصر عام 2014

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي قوات من الأمن بميدان التحرير في القاهرة (أ.ف.ب)

مصر: توقيف المتهم بـ«فيديو فيصل» وحملة مضادة تستعرض «جرائم الإخوان»

أعلنت «الداخلية المصرية»، الثلاثاء، القبض على المتهم ببث «فيديو فيصل» الذي شغل الرأي العام، مؤكدة «اعترافه» بارتكاب الواقعة، بـ«تحريض» من عناصر «الإخوان».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
أوروبا الإعلامي بقناة «الشرق» الإخوانية عماد البحيري تم توقيفه بسبب التهرب الضريبي (من حسابه على  «فيسبوك»)

تركيا توقف إعلامياً في قناة إخوانية لتهربه من الضرائب

أحالت السلطات التركية، (الخميس)، المذيع بقناة «الشرق» المحسوبة على «الإخوان المسلمين»، عماد البحيري، إلى أحد مراكز التوقيف بدائرة الهجرة في إسطنبول.

سعيد عبد الرازق (أنقرة )
شمال افريقيا الرئيس عبد المجيد تبون (د.ب.أ)

الجزائر: فصيل «الإخوان» يرشح الرئيس تبون لعهدة ثانية

أعلنت حركة البناء الوطني (فصيل الإخوان في الجزائر)، الجمعة، عن ترشيحها الرئيس عبد المجيد تبون للانتخابات الرئاسية التي ستُجرى في 7 سبتمبر المقبل.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.