استحضار الطريق الطويل للسرد العربي

«تاريخ العيون المطفأة» لنبيل سليمان

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT
20

استحضار الطريق الطويل للسرد العربي

غلاف الرواية
غلاف الرواية

أولى جيرار جينيت الحكاية اهتماماً خاصاً، حتى أنه وضع كتاباً في استعادة خطابها، والسبب بنيتها الكلية التي تقوم على خطابين، أحدهما اختياري هو نص السارد، والخطاب الآخر هو الشخصية أو الشخصيات، ومثاله الحكاية البروستية في رواية «بحثاً عن الزمن الضائع» (عودة إلى خطاب الحكاية، ص9)، مؤكداً أن التمييز النقدي، أو بالأحرى التقسيم اللساني بين الثالوث: القصة - الحكاية - السرد، مما كان الشكلانيون والبنيويون مؤمنين به، أمر عفا عليه الزمن، بعد الشمول الذي صار يحيط بمجموع الواقعة السردية الذي به زالت الحيرة، على أساس أن الأصل في الواقعة قصة وقعتْ، ثم سُردت بفعل حكاء، ثم دونت احتمالاً في نص مكتوب.
وأهمية الحكاية تكمن في أن القصة تقاطع نفسها بنفسها كي تُخلي المكان لنمط آخر من الخطاب، هو السرد، فتصبح المسافة المتجسرة بين خطاب الحكاية وخطاب السرد هي بمثابة وهم محاكاتي، وهو ما اعتمده الروائي نبيل سليمان في روايته الجديدة «تاريخ العيون المطفأة»، الصادرة بطبعتها الأولى عن دار «ميم» للنشر في الجزائر 2019، جاعلاً الحكاية فعلاً ارتجاعياً، به يعاد إنتاج فعل السرد. والشفرة هي «العمى» التي اتخذت بعداً سيكولوجياً جعل الشخصيات إمّا مبأرة أو مبئرة، والوسيلة الفنية التي يسرت هذا التشفير هي طريقة الاستدعاء لراويين: الأول حكاء، والآخر سارد.
والرواية تستحضر التاريخ الطويل للسرد العربي، الذي كان فيه الحكاء هو المهيمن، بالتخييل وبحكايات عادة ما تكون قصيرة، وفيها شخصية تتعرض لصنوف من الأحداث الفنتازية.
وبين وجود حكاء يتولى السرد قاصداً التخييل، وسارد يتوخى محاكاة الواقعة، يكون التنازع السردي قد تحقق. ومن تبعات تحققه أن كلاً منهما يريد إزاحة الآخر عن دربه، فميدان السارد الموضوعي واقع نصي يريد عرضه بمنطقية التحبيك، وبصوت أحادي غائب، والحكاء ميدانه التخييل الفنتازي الذي به يَسْرح بخياله كيفما شاء، محلقاً في أجواء من الحلم، حتى لا يكون هناك خيط فاصل بين ما هو منطقي وما هو غير معقول، منتقلاً من الحاضر إلى الماضي بلوازم مثل «ضاع نفس الأركيلة، وضاعت الجمرات، يا محترم» أو «تململت القطة في الحضن الأنيس» أو «فيلبد كالقطة في الحضن الأنيس».
وهو ما يسميه جان لينتفلت السرد اللاحق، ويسميه جينيت قصة مثلية، وما المماثلة القصصية المتأتية من وجود راويين إلا نوع من التظاهر باللازمنية بين حكاية هي سرد مثلي لأن الحكاء مشترك بقصته الخاصة، وقصة هي سرد غيري لأن السارد وإن كان داخل القصة، فإنه غير مشترك في أحداثها، كما هو الحال مع شهرزاد التي هي سارد داخل القصة، لكنها ساردة غيرية القصة لأنها لا تحكي قصتها ألبتة.
وبوجود سارد ينافسه حكاء، ينقسم المسرود له إلى قسمين: واحد خارج القصة حقيقي، والآخر داخل القصة خيالي.
ويتلاقى عمل الحكاء والسارد في صنع شخصيات قصصية محتملة تجعل الحكاية مرتبطة بالكون السردي، عبر علاقة موضوعية لكنها تفسيرية، بمعنى أنها تريد أن تعلل لمَ كانت شخصية «مولود» وحدها هي العاقة والخائنة التي قبلت بالتآمر والتجسس على الأقربين بكل تخاذل وجبن وصفاقة. وكيف أن التلاعب بالزمان استرجاعاً واستباقاً بالأحلام والتنبؤات سيُفسر لنا لمَ كانت الشخصيات كلها معرضة للعمى، باستثناء مولود الذي جعله كل من الحكاء والسارد في منأى عن العمى.
ولأنهما يدركان حرفة السرد، يزداد التنازع بينهما قوة، وكأن قدامة الحكاء وحداثة السارد لا تؤثر في جمالية السرد وهما يقصان حكاية المدن الثلاث، كمبا وقمورين وبر شمس، التي تفشا بين أهلها العشو ليلاً والعمى نهاراً، وعلامته «نقطة بيضاء تظهر في عين كل ولد وهو رضيع. النقطة تكبر حتى تصبح مثل غيمة تحجب النظر في النهار» (الرواية، ص144).
والحكاء هو الذي يبتدئ الرواية في شكل حكاية لها مقدمة يسميها كالمقدمات، وتنتهي بخاتمة يسميها كالخواتيم، وما بينهما متون فيها العهدة في السرد تلقى على الراوي «وعلى ذمة الراوي، يا سادة يا كرام». وتقسم المتون إلى عيون، وهنا يظهر السارد الموضوعي، بادئاً بالشكوى من أن الحكايات تعددت وتضاربت، لذا يحاول هو ضبط ما جرى واقعياً في المدن الثلاث.
لكن السارد يظل يتتبع خطوات الحكاء، من خلال توظيف الحكايات والرسائل، مراعياً قصر كل فصل، ومتكئاً على طريقة التتابع «أواصل ما انقطع أمس من الحكاية». وتوكيداً لرغبة السارد في مجاراة الحكاء، يجمع الماضي الشفاهي بالحاضر الكتابي، جاعلاً متلقيه مستمعاً يلبد ولا يشاكس، مختتماً بجمل سردية من قبيل: «تململت القطة في الحضن الأنيس، فتململ مولود في حضن الكنبة»، أو «القطة تفر من الحضن الأنيس مجفلة. مولود يفر من حضن الكنبة مذعوراً، ولا يزيده السرير إلا ذعراً» (الرواية، ص97).
ورغم المجاراة والمنافسة، فإن السارد يحاول أن يثبت وجوده عبر المداومة على ضمير الغائب، وبالمونولوجات التي تأتي بضمير الخطاب، مع توظيف التداعي الحر. وقد يحصل أن يباغت الحكاء السارد خلسة، فيجعله يداخل السرد بالحكي، كقوله «رأى مولود نفسه كما لو أنه أبو وعد يحكي حكاية» (الرواية، ص237).
وكذلك يدلل السارد على حضوره بالنزعة الواقعية الغرائبية التي تظل واضحة وهو يصعِّد مستوى الحبك، بادئاً بالشيخ حميد ماء العينين، وزوجته فخر النساء، منتقلاً إلى أولاده مولود فمهيمن ثم معاوية، محاولاً بالتغريب صنع الشخصيات الفنتازية (أم قنفذ والسنديانة والجنية وكبابة الشوك)، والقصد مجاراة الحكاء الذي بدا منافساً قوياً للسارد في هذا الاتجاه.
وبينما يدلل الحكاء على نفسه ببلاغة الألفاظ وفصاحة المفردات، استتباعاً للسالف من السرد العربي، فضلاً عن براعة استعمال المنامات بالعبارات «يرى فيما يرى النائم أو فيما يرى اليقظان»، أو قوله «بين ما ليس بالنوم وليس باليقظة» (الرواية، ص130).
وفي مغالبة الحكاء للسارد دلالة قوية على أن مخيال السرد العربي كان قوياً وأكثر مدى من مخيال الشعر العربي الذي تقيده موجبات الوزن والتقفية، وهو ما يغيب عن أذهاننا بسبب تركيزنا النظر على المخيال الشعري، مستنتجين عدم مجاراة المخيال العربي للمخيال اليوناني، مما كان أبو القاسم الشابي قد ذهب إليه في بحث كتبه عن الخيال عند العرب.
ويشترك الحكاء والسارد في رغبتهما في الاستباق باستعمال المفارقة الساخرة الناجمة عن إثبات الشيء ثم إتباعه بما ينفيه، رغبة في شد القارئ وتشويقه لما ستؤول إليه أحداث القصة، متعامليْن مع ثيمة العمى تعاملاً آليغورياً جديداً يغاير الدلالة السلبية المعتادة التي فيها العمى رمز للجهل والضلالة والمرض الذي يصيب الحيوات فيجعلها ضعيفة مستكينة، إلى دلالة إيجابية فيها النجاة والتحصن والبراءة التي لا يحظى بها إلا الأنقياء، كالشيخ حميد ماء العينين، وزوجته فخر النساء، وأماني ومليكة، وغيرهم. وهذا التعامل الآليغوري الجديد مع العمى يتماشى مع ما كانت العرب قديماً تستعمله استعارة، فتسمي الكفيف بصيراً. ولطالما فخر الشعراء العميان بعماهم، ومنهم بشار بن برد، وقد تغنى أبو العيناء البصري بالعمى، عاداً إياه نعمة بسببها اغتنى، بينما غيره من الشعراء افتقر. وكان الجاحظ قد أورد في كتابه «البرصان والعرجان والعميان والحولان» مواضع كثيرة تؤكد أن أشراف العرب كانوا من العميان، وأن عددهم بلغ من الكثرة ما لم يستطع معه إحصاءهم.
وإذا كان توظيف ثيمة العمى قد عرفها السرد العربي القديم، وكذلك طرقها السرد الحديث، فإن التعاطي معها في السردين، وعند الراويين، كان واحداً من ناحية الارتفاع بمنزلة العميان، وعدم انتقاص حالهم أو استضعافهم.
وفي العصر الحديث، تطور تعامل الكتاب الغربيين مع ثيمة العمى، فجوزيه ساراماغو الذي تعامل مع العمى سيكولوجياً في روايته «العمى»، وغدا الإبصار خطيئة في رواية «بلد العميان» لهربرت جورج ويلز، بينما فقدانه تكفير عنها. وهذا ما تعلمه البطل نونيز الذي اعتقد خاطئاً أنه «في بلد العميان، يكون الأعور ملكاً» (ص13)، وهو رديف للمثل العربي الشائع «الأعور في بلد العميان أمير». لكن نونيز وجد العجب، وفي مقدمة هذا العجب أن لا وجود لكلمة اسمها «أرى». والمدهش أن دليل نونيز ومعلمه كان الرجل الأعمى الذي عرفه أن «هناك الكثير ليتعلمه المرء في العالم».
أمّا ما تؤكده رواية «تاريخ العيون المطفأة»، فهو أن الحياة تعاش بالعمى حين تسير بالمقلوب، وأن العمى فيها بحسب النورولوجيا الحديثة والقديمة على درجات، فهناك الأعشى والأعمى والمبصر والبصير والرائي بقلبه والناظر بإحساسه.
وبسبب ذلك صار للعيون تاريخ يجمع الماضي والحاضر معاً. فأما الماضي، فيعرضه الحكاء الذي يراهن على التخييل، مستعملاً جملة «قال الراوي» و«قلنا، يا سادة يا كرام»، مستدعياً حكايات الجنيات. وأما الحاضر، فيقدمه السارد الموضوعي الذي يراهن على الواقع، مستدعياً مسائل العولمة، كالهجرة والنزوح بحثاً عن الحرية أو الدراسة أو المال، وقضايا المراقبة والاستجواب التي تهدد الإنسانية، وبسببها تتشظى الهويات، وتتزعزع الانتماءات، وتنهار القيم الأخلاقية.
وما تقسيم الرواية إلى فصول بثمانٍ وأربعين عيناً، ثم تكرار ذكر عام 1948، سوى إشارة آليغورية تدلل على ما ساد أمة العرب في هذا العام من ظلام كبير فتت وحدتها وضعضع أملها بالقادم. وإذا كان النور قد انطفأ في العيون، فإن القلوب الصامدة هي وحدها التي ستظل مبصرة طريقها في العتمة، مستمدة من الإسلاف قوتها.
وبذلك تكون رواية «تاريخ العيون المطفأة» رواية ما بعد حداثية، تسير في درب السرد القديم، وتستمد من السرد الحداثي توجهاته، سابرة الممكن والمستحيل، وقد تعاضد التجريب في الأشكال مع الترميز في الثيمات. وطبيعي ألا يكون للتجريب الشكلي أهمية، إن لم يسانده اشتغال موضوعي جمالي، تماماً كالنظرية التي لا قيمة لها، إذا لم تصلح لخلق الممارسة، كما يقول جينيت.


مقالات ذات صلة

«الدّماغ المؤدلج»: حين يكون التطرّف السياسي نتاج البيولوجيا

كتب ليور زميغرود

«الدّماغ المؤدلج»: حين يكون التطرّف السياسي نتاج البيولوجيا

طرحٌ جريء في علم الأعصاب الاجتماعي تقدّمه الباحثة الملحقة بجامعة كامبردج (بريطانيا) ليور زميغرود في كتابها الجديد «الدماغ المؤدلج»

ندى حطيط
كتب فدوى طوقان

صمود فلسطيني على الجبهة الثقافية

صدر كتاب باللغة الإنجليزية يحمل عنواناً عربياً: «صمود: مختارات من كتابات فلسطينية جديدة» (Sumud: A New Palestinian Reader)، أشرف على التحرير جوردان الجرابلي…

د. ماهر شفيق فريد
يوميات الشرق حسين فهمي أكد حبه للقراءة وارتباطه بها (مهرجان القاهرة السينمائي الدولي)

حسين فهمي لـ«الشرق الأوسط»: الكتاب رفيق دربي

أبدى الفنان المصري حسين فهمي، رئيس مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، فخره وسعادته بالمشاركة بصفته متحدثاً رئيسياً في معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2025.

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
ثقافة وفنون يحفل معرض مسقط الدولي للكتاب بنحو 211 فعالية ثقافية وفنية وترفيهية (العمانية)

الفعاليات الثقافية تفتح مساحة للحوار في «معرض مسقط للكتاب»

استقطبت 211 فعالية في «معرض مسقط الدولي للكتاب 2025» حضوراً لافتاً من الجمهور المهتم الذي يتوافد إليه، توزعت بين ندوات حوارية وأمسيات ثقافية وعروض مسرحية.

«الشرق الأوسط» (مسقط)
ثقافة وفنون محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

كل قراءة أو «إعادة» قراءة لشاعر هي قراءة جديدة. ما مِن إعادة بمعنى التكرار إزاء النصوص المخترقة لزمنها، المتقدمة عليه.

باسم المرعبي

أي تأثير للحب العذري في شعر «التروبادور»؟

أي تأثير للحب العذري في شعر «التروبادور»؟
TT
20

أي تأثير للحب العذري في شعر «التروبادور»؟

أي تأثير للحب العذري في شعر «التروبادور»؟

يتفق معظم الباحثين الغربيين والعرب على تأثر شعراء التروبادور في العصور الأوروبية الوسيطة بشعر الحب العربي، سواء ما اتصل منه بالتجربة العذرية زمن الأمويين، أو الذي نظمه في ظروف مغايرة متيَّمو الأندلس وشعراؤها العشاق. وفيما ذهب محمود عباس العقاد إلى أن الشعراء الجوالين قد تعلموا الموسيقى على يد أساتذة أندلسيين من أحفاد زرياب، رأى المستشرق الإسباني خوليان ريبيرا «أن الموشحات والأزجال التي انتشرت في الأندلس في القرن التاسع الميلادي هي المفتاح العجيب الذي يكشف لنا عن سر القوالب والطرُز الشعرية الأوروبية في العصر الوسيط». أما المستشرق الفرنسي غوستاف لوبون فيشير في كتابه «حضارة العرب» إلى أن مكتباً للمترجمين قد أنشئ في طليطلة منذ مطالع القرن الثاني عشر لنقل أهم كتب العرب إلى اللاتينية.

ويرى موريس فالنسي، من جهته، أن إعلاء شعراء التروبادور لمنزلة المرأة واتخاذها معبودة وملهمة، إنما يعود إلى تأثرهم البالغ بالشعر العربي العذري الذي وصلهم عن طريق الأندلس، خصوصاً وأن القوانين المدنية الأوروبية كانت تضع النساء في منزلة أدنى من الرجل وجعلهن مرؤوسات على الدوام. إضافة إلى أن آباء الكنيسة المسيطرة على المجتمع الأوروبي آنذاك كانوا يعتبرون المرأة «الوباء الأعظم وباب جهنم وحارس النار المتقدم وسهم إبليس».

والواقع أن تلازم العشق العفيف مع الفروسية لم يكن أمراً مقتصراً على أوروبيي القرون الوسطى وحدهم، بل كان العرب قد ربطوا العشق بالفروسية قبل ذلك بقرون عدة، حيث كانت تتعايش فوق سطح واحد ثنائيات الحب والحرب، الانتقام والتسامح، والقسوة والرقة. ولعل في مواصفات عنترة بن شداد ما يجعله صورة نموذجية عن العاشق الفارس، الذي ترتعد لقوته فرائص الأعداء، فيما كان حبه لعبلة يُكسبه سلوكه الليّن وطباعه الرقيقة. وقبل أن يكتب الكاهن الفرنسي أندرياس دي جابلن، الذي وضع مؤلفاً مهماً عن العشق الفروسي وقواعده، أن بمستطاع الحب أن «يحوّل الرجل الفظ وذا البأس الشديد إلى شخص دمث ولين العريكة»، كان أبو فراس الحمداني قد اختصر مفارقة العشق الفروسي بالقول:

نحن قومٌ تذيبنا الأعين النجلُ

على أننا نذيبُ الحديدا

لعل النصوص التي نظمها شعراء الحب من كلتا الثقافتين العربية والغربية هي الدليل الأمثل على ما بينهما من تشابهات، بخاصة في ما يتعلق بإبقاء المرأة المعشوقة في حالة ترنح دائم بين الحضور والغياب، إذكاءً لنيران الشغف والشوق، فنحن إذ نقرأ لأحد شعراء التروبادور قوله:

يا رب ما السر في أن شوقي إليها

يزداد كلما ابتعدتْ عني

يتبادر إلى أذهاننا قول جميل بن معمر قاصداً بثينة:

يموت الهوى مني إذا ما لقيتْها

ويحيا إذا فارقتْها فيعودُ

أما على مستوى الرغبة والاشتهاء الجسدي، فإن ثمة وجوهاً مماثلة للشبه بين العشقين العربي والغربي الوسيط. ففي كلا المجتمعين الحجازي البدوي والبروفنسي التروبادوري، تقتصر الملامسات العذرية على النصف العلوي من الجسد متجنبة الفعل الجنسي على نحو قاطع. يكتب أندرياس دي جابلن، رجل الدين الفرنسي الذي كان أول من وضع كتاباً في أصول العشق الفروسي، أن حب التروبادور «الذي يقوم على التأمل الفكري والميل القلبي، يسمح بالقبلة والعناق ويستغني عما هو أبعد، إذ لا يُسمح به لمن يحب حباً طاهراً عفيفاً».

وإذ يعتبر الشاعر العربي العذري أن جنونه واختلاط عقله ليس تهمة توجب الاعتذار عنها، بل سبيله الأمثل إلى التلذذ بهوى المعشوق، كما في القول المنسوب إلى قيس بن الملوح، وينسبه بعضهم إلى سواه:

قالوا جننتَ بمن تهوى فقلتُ لهم

ما لذةُ العيش إلا للمجانينِ

يردّ الشاعر الفارس إيمري دي بلونو على منتقدي إسرافه في العشق المرَضي بأن هذا الإسراف بالذات، وصولاً إلى الجنون، هو ما يوفر له لذته القصوى، فيهتف معلناً:

ستقتلني هذه الشهوة المنشودة سواء بقيتُ أم رحلت

لأن اللذة التي تستطيع شفائي لا ترقُّ لحالي

واللذة هذه وإن يكن فيها الجنون

هي أفضل بالنسبة لي من كل لذة

وثمة في تقاليد الشعراء الفرسان ما يتصل بضرورة إخفاء أمر المرأة التي يحبونها، وعدم الإفصاح عما إذا كانت مجرد حالة مستلهمة من خيال الشاعر، أو هي امرأة من لحم ودم. وهم باتفاقهم على عدم البوح بالاسم الحقيقي للمرأة المعشوقة، والإشارة إليها باسم «السيدة»، يبدون كما لو كانوا ينتمون إلى ديانة معينة أو إيمان سري، أو أنهم يفعلون ذلك تجنباً لمكائد الوشاة والحساد. ولعل قول الشاعر الجوال جيرودو بورنهيل «كفّوا أيها الوشاة الماكرون الضالعون في الخبث، عن السؤال عمن تكون حبيبتي المعبودة، وعما إذا كان موطنها بعيداً أو قريباً، لأنني سأكتمه عنكم كل الكتمان، وأفضّل الموت على البوح بكلمة واحدة»، يذكّرنا بإصرار العباس بن الأحنف على كتمان الاسم الحقيقي لحبيبته «فوز».

أما اشتهاء العشاق الجوالين للموت بوصفه المآل الأخير للحب العفيف والمتعذر التحقق، فقد وجدنا نظائره لدى شعراء بني عذرة الذين لم يكتفوا بجعل الموت ذروة هيامهم بالمرأة المعشوقة، بل تجاوزوا بالحب الحدود الفاصلة بين سطح الأرض وجوفها المظلم. وكما أن بعض معشوقات العذريين المتزوجات قد قضين نحبهن حداداً وكمداً على موت عشاقهن، فقد تحدث مؤرخو القرون الوسطى الأوروبيون عن أن أحد الأمراء الغيورين قتل عشيق امرأته وقدم لها قلبه المطهو في طبق الطعام. وحين أعلم زوجته بالأمر أجابته قائلة «مولاي لقد أطعمتني طعاماً لذيذاً إلى درجة أنني لن أتناول بعده طعاماً آخر»، ثم ألقت بنفسها من نافذة الحصن الذي كانت تقيم مع زوجها فيه.

وإذ عمد العذريون العرب إلى نقل فكرة الجهاد من خانتها الدينية إلى خانتها «النسائية»، كما بدا في قول جميل بن معمر «يقولون جاهدْ يا جميل بغزوةٍ وأيّ جهاد غيرهنّ أريدْ»، فقد تكرر الأمر نفسه مع بعض عشاق أوروبا العذريين، حيث نقل الرواة عن الشاعر التروبادوري جوفري رودال أنه قرر إنهاء مشاركته في الحملة الصليبية «الجهادية» بعد أن وقع عن بعد في حب أميرة طرابلسية تناقل الحجاج أخبار جمالها الفاتن وسموها الأخلاقي، ليقرر حمل صليبه على جلجلة عشقه الأفلاطوني، إلى أن قضى نحبه بين يدي أميرته المعشوقة.

لعل النصوص التي نظمها شعراء الحب من كلتا الثقافتين العربية والغربية هي الدليل الأمثل على ما بينهما من تشابهات

أما في الجهة المقابلة من المواقف، فيبدو الفيلسوف الألماني شليغل الطرف الأكثر دحضاً لنظرية التأثر التروبادوري بالحب العربي، حيث يقول «إن شعراً يقوم على تقديس المرأة وعلى الحرية العظيمة في حياتها الاجتماعية، لا يمكن أن يستوحي شعر شعب آخر نساؤه من الجواري وحبيسات المنازل». وبصرف النظر عن صوابية رأي شليغل بشأن مسألة التأثر، فإن اتهامه العرب بتحويل النساء إلى مجرد إماء وخادمات، يكاد يلامس بنبرته التعميمية، نبرة الاستعلاء الغربي العنصري، فضلاً عن أنه يتناسى بأن النسوة العربيات لم يكنّ يتمتعن بقدر وافر من الحرية فحسب، بل إن الكثيرات منهن قد حولن منازلهن إلى منتديات ثقافية مفتوحة، أو بادلن غزل الرجل بغزل مماثل، كما فعلت ميسون بنت جندل الكلبية وليلى الأخيلية وعشرقة المحاربية وولادة بنت المستكفي وغيرهن.

وينفي الباحث المصري عبد الهادي زاهر أي تأثر للتروبادور بالشعر الأندلسي، سواء تعلق الأمر بالشكل التعبيري أم بتجربة الحب نفسها. فهو يعتبر أن التروبادور قد استعاروا قالب الموشحة والزجل من التراث اللاتيني الذي شاع استخدامه قبل ظهور الشعر العربي كله. وفي معرض نفيه لاقتفاء الغربيين التجربة العربية العشقية، يتخذ المؤلف من حرص التروبادور على الفرادة والابتكار، ومن عدائهم للعرب ومشاركة بعضهم الفاعلة في الحروب الصليبية حجتين دالتين على صوابية رأيه.

ومع ذلك فإن هاتين الحجتين، على وجاهتهما، لا يدحضان بالقطع مقولة التأثر، لأن استلهام الجوالين لتجربة العذريين العرب، عبر الاحتكاك بالأندلس، لا يجعل منهم نسخة مكررة عن هذه التجربة، ولا يسلخهم عن تربتهم المحلية، أو ينفي عنهم صفتي الأصالة والابتكار. أما كرههم للعرب بوصفهم الغزاة الذين احتلت طلائع جيوشهم أجزاء من إسبانيا وفرنسا، فلا يوجب بالضرورة عدم افتتانهم بما كان يصلهم عبر الأندلس من منجزات العرب الحضارية والثقافية، الأمر الذي أكد عليه ابن خلدون في «مقدمته» الشهيرة، حين اعتبر أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب، لأن النفس تعتقد الكمال في من غلبها.