احتجاجات العراق... مطالب مؤجلة وحلول مستعجلة

عبد المهدي: الهروب من المسؤولية ذهاب إلى المجهول

احتجاجات العراق... مطالب مؤجلة وحلول مستعجلة
TT

احتجاجات العراق... مطالب مؤجلة وحلول مستعجلة

احتجاجات العراق... مطالب مؤجلة وحلول مستعجلة

لم تكن المظاهرات التي خرجت في الأول من شهر أكتوبر (تشرين الأول) الحالي في العاصمة العراقية بغداد وعدد من محافظات الوسط والجنوب مفاجئة من حيث التوقيت. فقبل أكثر من شهر كان هناك من توقع حصول مثل هذه المظاهرات.
بل هناك سياسيون وناشطون مدنيون لم يربطوها، ولأول مرة، بالخدمات التي هي أحد أبرز مطالب العراقيين المؤجلة منذ أكثر من عقد ونصف من السنوات، لكنهم ربطوها بالجدل الدائر حول حكومة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي التي لا تزال تنقصها حقيبتا التربية والصحة. ذلك أن التوافق السياسي بشأن مصير حقيبة وزارة التربية ما زال يصطدم باستمرار الخلافات بين الكتل السياسية التي تتحكم بالمشهد العام في البلاد، أما فيما يتعلّق بحقيبة وزارة الصحة فقد اضطر وزيرها علاء العلوان إلى الاستقالة من منصبه في أعقاب «تعرضه للابتزاز» طبقاً لكتاب الاستقالة الذي وجهه إلى رئيس الوزراء عادل عبد المهدي.

بدا يوم الأول من شهر أكتوبر (تشرين الأول) يوماً عادياً، مثله مثل أي يوم احتجاجي آخر، لا سيما في ساحة التحرير بوسط العاصمة العراقية بغداد، التي تعد أيقونة المظاهرات في العراق منذ أول انطلاقة لها خلال شهر فبراير (شباط) عام 2011 بالتزامن مع بدء «الربيع العربي».
غير أن الأمر اللافت في هذه المظاهرات أنها فاجأت العراقيين، وكذلك، فاجأت أركان الحكومة، الذين كانوا يتصوّرون أنها لن تخرج عمّا كان سائداً طوال السنوات الماضية على صعيد المظاهرات.
ما لم يكن متوقعاً، حقاً، هو أن المتظاهرين، الذين لم يأخذوا إجازة رسمية وفقا للقانون، ولم تكن لهم مرجعية واضحة، هو إصرارهم على الاحتكاك بقوات الأمن... التي كانت، في البداية، مجرد قوات لمكافحة الشغب تحمل معها خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع.

الجمهورية... الجسر والخضراء
إبّان كل المظاهرات التي انطلقت في العراق بدءا من 2011، والتي بلغت ذروتها عام 2015 حين اجتاح المتظاهرون «المنطقة الخضراء» التي كانت محصنة آنذاك مرتين خلال أقل من ثلاثة شهور، يكون جسر الجمهورية هو الضحية الأولى. إذ تعمد السلطات إلى إغلاقه لكونه يربط بين «ساحة التحرير» التي هي المكان التقليدي في جانب الرصافة و«المنطقة الخضراء» في جانب الكرخ.
وبما أن «المنطقة الخضراء» لم تعد محصنة، بعدما أمر رئيس الوزراء عادل عبد المهدي بفتحها قبل نحو شهرين، فإنه كانت ثمة خشية جدية من اجتياحها، وهي المنطقة التي تضم المقار والمكاتب الحكومية وقصور كبار المسؤولين، وبالتالي، تمثل أولوية كبرى للحكومة.
بعد ظهر اليوم الأول من المظاهرات، وبعد سقوط 3 من القتلى، أغلق جسر مرات الاحتجاج السابقة. ذلك أن أعداد المتظاهرين بدأت بالازدياد، وهو ما دعا إلى إغلاق ساحة التحرير نفسها، ومن ثم، إلى انتقال المتظاهرين إلى الأماكن القريبة من الساحة، وبالتحديد، كل من ساحتي الطيران والخلاني. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل انتقلت المظاهرات إلى مناطق وأحياء أخرى داخل بغداد، كان ملاحظاً أنها مناطق وأحياء ذات غالبية سكانية شيعية.
في الوقت نفسه بدأت تظهر احتجاجات، هنا وهناك في عدد من المحافظات الوسطى والجنوبية، وخصوصاً في كل من القادسية (الديوانية) وذي قار (الناصرية) والبصرة. وفي هذه الأثناء، أخذت تتزايد أعداد الضحايا، قتلى وجرحى، سواءً في صفوف المتظاهرين أو القوات الأمنية التي يفترض أن مهمتها حماية المتظاهرين. بيد أن هذه القوات وجدت نفسها وقد تحولت إلى طرف في الأزمة، يقابلها ويقابل المتظاهرين أيضاً، ما اعتبره البعض «الطرف الثالث».

مندسّون أم «طرف ثالث»

في كل المظاهرات العراقية السابقة كانت تُسجَّل عمليات احتكاك قد تؤدي إلى خسائر بالأرواح - وإن كان على أضيق نطاق - أو بالممتلكات... يمكن أن تصل إلى حد إحراق مقرات الأحزاب وقنصليات الدول، كما حصل في البصرة العام الماضي، حين جرى إحراق قنصلتي إيران والولايات المتحدة الأميركية.
من جهة أخرى، كان هناك اتفاق ضمني بين الحكومة و«مرجعيات» المظاهرات بأن هناك ما بات يُطلق عليهم اسم «المندسّون» الذين لا يمثلون الحكومة - عبر قواتها «قوات مكافحة الشغب» - أو المتظاهرين. ولعله من باب المفارقات اللافتة أن «المندسّين» كانوا من عوامل تهدئة المظاهرات، بما أن الطرفين الرئيسيين (أي الحكومة وجموع المتظاهرين) أخذا يشعران بالخطر الذي يمكن أن يؤدي إليه حرف المظاهرات عن غايتها الأصلية، ألا وهي المطالبة في الغالب بالخدمات، ومن ثم، «الإصلاح الشامل» بعد دخول «التيار الصدري» وزعيمه مقتدى الصدر على خط المظاهرات المليونية بدءا من عام 2015.
هذه المرة في هذه الاحتجاجات الشعبية، التي كان متوسط أعمار المشاركين فيها لا يزيد على عشرين سنة، كانت هناك حقيقة واضحة، هي أن معظم المشاركين في المظاهرات والاحتجاجات من أبناء هذا «النظام الجديد»، ولذا، جاء الكلام عن وجود «طرف ثالث» - وليس جماعات «مندسة» - تولى أفراده قمع المتظاهرين والقوات الأمنية معا. وهذا، طبعاً، بمعزل عن الاتهامات لأطراف إقليمية ودولية بأنها هي المسؤولة عن زرع هذا «الطرف الثالث» في الاحتجاجات كي يلعب دور التأجيج من خلال القنص المباشر للمتظاهرين وحُماتهم من الجيش. وجدير بالإشارة أن الجيش كان قد دخل على الخط في اليوم الثاني للمظاهرات في أعقاب تزايد أعداد الضحايا، وبلوغها عشرات القتلى ومئات الجرحى، وكذلك قوات وزارة الداخلية. وما عدا الاتهامات غير الموثقة، فإنه لم يثبت حتى الآن هوية الجهة التي تقف خلف «الطرف الثالث». وهو بالضبط ما أعلنت الحكومة أنها عازمة على معرفته عبر فتح تحقيق عالي المستوى.

عبد المهدي: الاستقالة لم تعد في جيبي
باللقاء الذي حضرته «الشرق الأوسط» مع مجموعة من الإعلاميين العراقيين ورئيس الوزراء عادل عبد المهدي، في منزله بحي الجادرية الراقي في بغداد، بدا على عبد المهدي التعب نظراً لأحكام العمر (78 سنة) مثلما أخبرنا خلال الجلسة، مضيفاً «أنا أقدم سياسي عراقي من بين الموجودين في المشهد السياسي الحالي».
وحقاً، عادل عبد المهدي هو أحد «الآباء المؤسسين» للنظام السياسي الحالي الذي يحتج عليه الشعب العراقي لا سيما الشبان منهم. وفي السنة التي ولد فيها غالبية هؤلاء الشبان كان عبد المهدي عضواً مناوباً في «مجلس الحكم الانتقالي» الذي أسسه الحاكم المدني الأميركي بول بريمر بعد غزو العراق عام 2003. وبعد تشكيل الحكومات العراقية المتعاقبة منذ ذلك العام، تولّى عبد المهدي عدة وزارات منها النفط والتخطيط بجانب منصب نائب رئيس الجمهورية. ولأن الاستقالة لم تعد في جيبه الآن بالقياس إلى السنوات الماضية فقد استقال مرتين... مرة من منصب نائب رئيس الجمهورية عام 2009 ومرة ثانية من منصب وزير النفط عام 2015.
كذلك فإنه تنافس على منصب رئاسة الوزراء عام 2006 مع إبراهيم الجعفري، الذي فاز عليه يومذاك بفارق صوت واحد. إذن، وصول عبد المهدي الآن إلى منصب رئاسة الوزراء تأخر نسبياً لسياسي من «الحرس القديم» مثله. لكنه، ولكونه أحد آباء هذا النظام المؤسسين بات يتوجب عليه مواجهة استحقاقات مؤجلة منذ 16 سنة.
لهذا السبب بدا عبد المهدي أثناء حديثه معنا أنه يشعر بثقل «المسؤولية حيال ما يجري في البلد»، قائلا: «صحيح أن الاستقالة، ومثلما هو معروف في جيبي، لكن الظروف اختلفت الآن». ثم يوضح أن الظروف اختلف عن ذي قبل، شارحاً: «أولاً، القوى السياسية التي ألحّت علي كثيراً لقبول منصب رئيس الوزراء من منطلق أن هذه هي الفرصة الأخيرة، مثلما قالوا، كان لديها شرط واحد هو ألا أستقيل. وثانياً، أن البلد الآن في وضع مرتبك، وبالتالي، فإن أي استقالة تعني هروباً من المسؤولية وذهاباً إلى المجهول».

حلول أم ترقيعات؟
من أجل مواجهة الاحتجاجات، التي بلغ ضحاياها في أقل من أسبوع أكثر من 120 قتيلا وأكثر من 6 آلاف جريح، كان لا بد من اتخاذ إجراءات في غاية الصعوبة. والحلول التي تبدو كائنة ما كانت جذريتها تظل آنية بالقياس إلى كون معظم المطالب التي خرج الناس من أجلها - بصرف النظر عمن ركب موجتها - مطالب مشروعة ومؤجلة منذ 16 سنة.
لجهة كون المطالب مشروعة فإن الطبقة السياسية تعترف بها جميعاً، لأن النظام السياسي الحالي في العراق، الذي بني على المحاصصة العرقية والطائفية، لم يتمكن بعد من خلق فرص عمل لأبناء الشعب العراقي رغم الثروة الهائلة التي يملكها بلد نفطي مثل العراق. والحكومات المتعاقبة منذ عام 2003 وحتى اليوم لجأت إلى اسلوب التوظيف التنفيعي في الدولة، الأمر الذي أدى إلى «ترهل الجهاز الوظيفي بشكل كامل»، كما يقول الخبير الاقتصادي باسم جميل أنطون في حديث لـ«الشرق الأوسط».
أنطون يوضح أن «أعداد الموظفين في العراق تبلغ نحو 6 ملايين موظف ومتقاعد ومتعاقد، الأمر الذي أدى إلى تردي إنتاجية هذا الموظف بحيث لا تتعدى الـ17 دقيقة في اليوم». ويرى أنطون أن «هذا الأسلوب في استيعاب الخريجين الجدد الذين يكملون دراساتهم الجامعية جعل نسبة تربو على 70 في المائة من موازنة الدولة تذهب إلى ما هو تشغيلي، ويتمثل في الرواتب والأجور، بينما تقدّر حصة الموازنة الاستثمارية بأقل من 20 في المائة». ثم يشرح أن «من بين الأسباب التي أدت إلى هذا الترهل هو العجز عن توفير فرص استثمارية في القطاع الخاص... الذي قصر نشاطه على ما هو تجاري فقط، وذلك لكون معظم السياسيين مسنودين برجال أعمال. وبالتالي، بات الاستيراد هو السياسة المتبعة، في محاربة الاستثمار، ويسد السبل في وجه إتاحة الفرص أمام المستثمرين العرب والأجانب».

إجراءات لامتصاص النقمة
في ضوء ما تقدم، فإن ما أقدمت عليه الحكومة والبرلمان خلال الفترة الماضية هو إجراءات تهدف إلى امتصاص نقمة الشعب بشكل عام، والمتظاهرين بصورة خاصة. وهذه الإجراءات تتأرجح بين ما يمكن أن يدخل في باب «الحلول»، وإن تأخرت كثيراً، و«الترقيع» لا سيما كل ما يتعلق بما يحتاج له ذلك من جنبة مالية. وفي هذا الإطار يقول عدنان الزرفي، النائب عن ائتلاف «النصر»، إن «ما يتحدث به رئيس الوزراء عن إصلاحات... هي في الحقيقة مجرد وعود قد لا تتحقق. لأنه سيواجه مشكلة التمويل في وقت تعاني الموازنة من عجز كبير... وربما نواجه نهاية السنة مشكلة حتى في تأمين الرواتب». ويضيف الزرفي أن «هذه الطريقة في التعامل مع أزمة خطيرة كالتي حصلت مؤخراً يمكن أن تأتي بنتائج عكسية في حال لم تتمكن الحكومة من تأمين الأموال اللازمة لذلك، الأمر الذي يمكن أن يعيد الاحتجاجات بشكل أوسع وأكبر».


مقالات ذات صلة

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الاقتصاد عَلم العراق يرفرف أمام حقل نفطي (رويترز)

شركة صينية توقِّع عقداً لاستكشاف وإنتاج النفط بالرقعة 7 في العراق

أعلنت المؤسسة الوطنية الصينية للنفط البحري عن توقيع عقد استكشاف وإنتاج، مع شركة نفط الوسط العراقية المملوكة للدولة، لاستكشاف النفط والغاز في الرقعة 7 بالعراق.

«الشرق الأوسط» (لندن)
المشرق العربي آليات عسكرية أميركية في قاعدة عين الأسد الجوية في الأنبار بالعراق (أرشيفية - رويترز)

هجوم صاروخي يستهدف قاعدة عسكرية بها قوات أميركية في بغداد

قال مصدران عسكريان إن قاعدة عسكرية تستضيف قوات أميركية قرب مطار بغداد استُهدفت، فجر (الثلاثاء)، بصاروخي «كاتيوشا» على الأقل، واعترضت الدفاعات الجوية الصاروخين.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
شؤون إقليمية 
قائد «فيلق القدس» إسماعيل قاآني وخلفه محمد رضا أشتياني وزير الدفاع (مشرق)

قاآني في بغداد لاحتواء «تصدع الإطار»

أكدت مصادر متطابقة وصول قائد «فيلق القدس» الإيراني إسماعيل قاآني، أمس الثلاثاء، إلى بغداد، في زيارة التقى خلالها قادةً بـ«الإطار التنسيقي»، إلى جانب قادة.

فاضل النشمي (بغداد)
المشرق العربي مسافرون داخل مطار بغداد الدولي (أرشيفية - أ.ف.ب)

«فوضى» تضرب مطار بغداد... والحكومة تتدخل بالتحقيق

قالت مصادر حكومية إن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني «أمر بتشكيل لجنة للتحقيق في أسباب فوضى شهدها مطار بغداد الدولي»، جراء التضارب والتأخير في مواعيد الرحلات.

فاضل النشمي (بغداد)

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها
TT

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية الحبيسة، بفضل نموذجها الديمقراطي النادر في قارتها، وأدائها الاقتصادي الصاعد.

قد يكون هذا الإعجاب سجل خفوتاً في مؤشراته، خصوصاً مع موجة ركود وبطالة اجتاحت البلاد منذ سنوات قليلة، إلا أنه يبحث عن استعادة البريق مع رئيس جديد منتخب ديمقراطياً.

على عكس الكثير من دول «القارة السمراء»، لم تودّع بوتسوانا حقبة الاستعمار عام 1966 بمتوالية ديكتاتوريات وانقلابات عسكرية، بل اختارت صندوق الاقتراع ليفرز برلماناً تختار أغلبيته الرئيس. وأظهر أربعة من زعماء بوتسوانا التزاماً نادراً بالتنحي عن السلطة بمجرد استكمال مدّد ولايتهم المنصوص عليها دستورياً، بدءاً من كيتوميلي ماسيري، الذي خلف «السير» سيريتسي خاما عند وفاته في منصبه بصفته أول رئيس لبوتسوانا. وهذا التقليد الذي يصفه «مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية» بأنه «مثير للإعجاب»، جنت بوتسوانا ثماره أخيراً بانتقال سلمي للسلطة إلى الحقوقي والمحامي اليساري المعارض دوما بوكو.

انتصار بوكو جاء بعد معركة شرسة مع الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه الحزب الديمقراطي... الذي حكم البلاد لمدة قاربت ستة عقود.

ويبدو أن تجربة تأسيس الحزب الديمقراطي من زعماء قبائل ونُخَب أوروبية كانت العلامة الأهم في رسم المسار الديمقراطي لبوتسوانا، عبر ما يعرف بـ«الإدماج الناعم» لهؤلاء الزعماء القبليين في بنية الدولة. لكن المفارقة كانت «الدور الإيجابي للاستعمار في هذا الشأن»، وفق كلام كايلو موليفي مُستشار الديمقراطية في مكتب رئيس بوتسوانا السابق للإذاعة السويسرية. وتكمن كلمة السر هنا في «كغوتلا»، فبحسب موليفي، اختار البريطانيون الحُكم غير المُباشر، عبر تَرك السلطة للقادة القبليين لتسيير شؤون شعبهم، من دون التدخل بهياكل الحكم التقليدية القائمة.

نظام «كغوتلا» يقوم على «مجلس اجتماعي»، ويحق بموجبه لكل فرد التعبير عن نفسه، بينما يناط إلى زعيم القبيلة مسؤولية التوصل إلى القرارات المُجتمعية بتوافق الآراء. ووفق هذا التقدير، قاد التحالف البلاد إلى استقرار سياسي، مع أنه تعيش في بوتسوانا 4 قبائل أكبرها «التسوانا» - التي تشكل 80 في المائة من السكان وهي التي أعطت البلاد اسمها -، بجانب «الكالانغا» و«الباسار» و«الهرو».

وإلى جانب البنية الديمقراطية ودور القبيلة، كان للنشأة الحديثة للجيش البوتسواني في حضن الديمقراطية دور مؤثر في قطع الطريق أمام شهوة السلطة ورغباتها الانقلابية، بفضل تأسيسه في عام 1977 وإفلاته من صراعات مع الجيران في جنوب أفريقيا وزيمبابوي وناميبيا.

على الصعيد الاقتصادي، كان الاستعمار البريطاني سخياً – على نحو غير مقصود – مع بوتسوانا في تجربة الحكم، إلا أنه تركها 1966 سابع أفقر دولة بناتج محلي ضئيل وبنية تحتية متهالكة، أو قل شبه معدومة في بعض القطاعات.

مع هذا، انعكس التأسيس الديمقراطي، وفق محللين، على تجربة رئيسها الأول «السير» سيريتسي خاما؛ إذ مضى عكس اتجاه الرياح الأفريقية، منتهجاً نظام «رأسمالية الدولة»، واقتصاد السوق، إلى جانب حرب شنَّها ضد الفساد الإداري.

على صعيد موازٍ، أنعشت التجربة البوتسوانية تصدير اللحوم، كما عزّز اكتشاف احتياطيات مهمة من المعادن - لا سيما النحاس والماس - الاقتصاد البوتسواني؛ إذ تحتضن بلدة أورابا أكبر منجم للماس في العالم.

ثم إنه، خلال العقدين الأخيرين، جنت بوتسوانا - التي تغطي صحرء كالاهاري 70 في المائة من أرضها - ثمار سياسات اقتصادية واعدة؛ إذ قفز متوسط الدخل السنوي للمواطن البوتسواني إلى 16 ألف دولار أميركي مقابل 20 دولاراً، بإجمالي ناتج محلي بلغ 19.3 مليار دولار، وفق أرقام البنك الدولي. كذلك حازت مراكز متقدمة في محاربة الفساد بشهادة «منظمة الشفافية العالمية». ومع أن الرئيس البوتسواني المنتخب تسلم مهام منصبه هذا الأسبوع في ظل مستويات بطالة مرتفعة، وانكماش النشاط الاقتصادي المدفوع بانخفاض الطلب الخارجي على الماس، إلا أن رهان المتابعين يبقى قائماً على استعادة الماسة البوتسوانية بريقها.