احتجاجات العراق... مطالب مؤجلة وحلول مستعجلة

عبد المهدي: الهروب من المسؤولية ذهاب إلى المجهول

احتجاجات العراق... مطالب مؤجلة وحلول مستعجلة
TT

احتجاجات العراق... مطالب مؤجلة وحلول مستعجلة

احتجاجات العراق... مطالب مؤجلة وحلول مستعجلة

لم تكن المظاهرات التي خرجت في الأول من شهر أكتوبر (تشرين الأول) الحالي في العاصمة العراقية بغداد وعدد من محافظات الوسط والجنوب مفاجئة من حيث التوقيت. فقبل أكثر من شهر كان هناك من توقع حصول مثل هذه المظاهرات.
بل هناك سياسيون وناشطون مدنيون لم يربطوها، ولأول مرة، بالخدمات التي هي أحد أبرز مطالب العراقيين المؤجلة منذ أكثر من عقد ونصف من السنوات، لكنهم ربطوها بالجدل الدائر حول حكومة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي التي لا تزال تنقصها حقيبتا التربية والصحة. ذلك أن التوافق السياسي بشأن مصير حقيبة وزارة التربية ما زال يصطدم باستمرار الخلافات بين الكتل السياسية التي تتحكم بالمشهد العام في البلاد، أما فيما يتعلّق بحقيبة وزارة الصحة فقد اضطر وزيرها علاء العلوان إلى الاستقالة من منصبه في أعقاب «تعرضه للابتزاز» طبقاً لكتاب الاستقالة الذي وجهه إلى رئيس الوزراء عادل عبد المهدي.

بدا يوم الأول من شهر أكتوبر (تشرين الأول) يوماً عادياً، مثله مثل أي يوم احتجاجي آخر، لا سيما في ساحة التحرير بوسط العاصمة العراقية بغداد، التي تعد أيقونة المظاهرات في العراق منذ أول انطلاقة لها خلال شهر فبراير (شباط) عام 2011 بالتزامن مع بدء «الربيع العربي».
غير أن الأمر اللافت في هذه المظاهرات أنها فاجأت العراقيين، وكذلك، فاجأت أركان الحكومة، الذين كانوا يتصوّرون أنها لن تخرج عمّا كان سائداً طوال السنوات الماضية على صعيد المظاهرات.
ما لم يكن متوقعاً، حقاً، هو أن المتظاهرين، الذين لم يأخذوا إجازة رسمية وفقا للقانون، ولم تكن لهم مرجعية واضحة، هو إصرارهم على الاحتكاك بقوات الأمن... التي كانت، في البداية، مجرد قوات لمكافحة الشغب تحمل معها خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع.

الجمهورية... الجسر والخضراء
إبّان كل المظاهرات التي انطلقت في العراق بدءا من 2011، والتي بلغت ذروتها عام 2015 حين اجتاح المتظاهرون «المنطقة الخضراء» التي كانت محصنة آنذاك مرتين خلال أقل من ثلاثة شهور، يكون جسر الجمهورية هو الضحية الأولى. إذ تعمد السلطات إلى إغلاقه لكونه يربط بين «ساحة التحرير» التي هي المكان التقليدي في جانب الرصافة و«المنطقة الخضراء» في جانب الكرخ.
وبما أن «المنطقة الخضراء» لم تعد محصنة، بعدما أمر رئيس الوزراء عادل عبد المهدي بفتحها قبل نحو شهرين، فإنه كانت ثمة خشية جدية من اجتياحها، وهي المنطقة التي تضم المقار والمكاتب الحكومية وقصور كبار المسؤولين، وبالتالي، تمثل أولوية كبرى للحكومة.
بعد ظهر اليوم الأول من المظاهرات، وبعد سقوط 3 من القتلى، أغلق جسر مرات الاحتجاج السابقة. ذلك أن أعداد المتظاهرين بدأت بالازدياد، وهو ما دعا إلى إغلاق ساحة التحرير نفسها، ومن ثم، إلى انتقال المتظاهرين إلى الأماكن القريبة من الساحة، وبالتحديد، كل من ساحتي الطيران والخلاني. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل انتقلت المظاهرات إلى مناطق وأحياء أخرى داخل بغداد، كان ملاحظاً أنها مناطق وأحياء ذات غالبية سكانية شيعية.
في الوقت نفسه بدأت تظهر احتجاجات، هنا وهناك في عدد من المحافظات الوسطى والجنوبية، وخصوصاً في كل من القادسية (الديوانية) وذي قار (الناصرية) والبصرة. وفي هذه الأثناء، أخذت تتزايد أعداد الضحايا، قتلى وجرحى، سواءً في صفوف المتظاهرين أو القوات الأمنية التي يفترض أن مهمتها حماية المتظاهرين. بيد أن هذه القوات وجدت نفسها وقد تحولت إلى طرف في الأزمة، يقابلها ويقابل المتظاهرين أيضاً، ما اعتبره البعض «الطرف الثالث».

مندسّون أم «طرف ثالث»

في كل المظاهرات العراقية السابقة كانت تُسجَّل عمليات احتكاك قد تؤدي إلى خسائر بالأرواح - وإن كان على أضيق نطاق - أو بالممتلكات... يمكن أن تصل إلى حد إحراق مقرات الأحزاب وقنصليات الدول، كما حصل في البصرة العام الماضي، حين جرى إحراق قنصلتي إيران والولايات المتحدة الأميركية.
من جهة أخرى، كان هناك اتفاق ضمني بين الحكومة و«مرجعيات» المظاهرات بأن هناك ما بات يُطلق عليهم اسم «المندسّون» الذين لا يمثلون الحكومة - عبر قواتها «قوات مكافحة الشغب» - أو المتظاهرين. ولعله من باب المفارقات اللافتة أن «المندسّين» كانوا من عوامل تهدئة المظاهرات، بما أن الطرفين الرئيسيين (أي الحكومة وجموع المتظاهرين) أخذا يشعران بالخطر الذي يمكن أن يؤدي إليه حرف المظاهرات عن غايتها الأصلية، ألا وهي المطالبة في الغالب بالخدمات، ومن ثم، «الإصلاح الشامل» بعد دخول «التيار الصدري» وزعيمه مقتدى الصدر على خط المظاهرات المليونية بدءا من عام 2015.
هذه المرة في هذه الاحتجاجات الشعبية، التي كان متوسط أعمار المشاركين فيها لا يزيد على عشرين سنة، كانت هناك حقيقة واضحة، هي أن معظم المشاركين في المظاهرات والاحتجاجات من أبناء هذا «النظام الجديد»، ولذا، جاء الكلام عن وجود «طرف ثالث» - وليس جماعات «مندسة» - تولى أفراده قمع المتظاهرين والقوات الأمنية معا. وهذا، طبعاً، بمعزل عن الاتهامات لأطراف إقليمية ودولية بأنها هي المسؤولة عن زرع هذا «الطرف الثالث» في الاحتجاجات كي يلعب دور التأجيج من خلال القنص المباشر للمتظاهرين وحُماتهم من الجيش. وجدير بالإشارة أن الجيش كان قد دخل على الخط في اليوم الثاني للمظاهرات في أعقاب تزايد أعداد الضحايا، وبلوغها عشرات القتلى ومئات الجرحى، وكذلك قوات وزارة الداخلية. وما عدا الاتهامات غير الموثقة، فإنه لم يثبت حتى الآن هوية الجهة التي تقف خلف «الطرف الثالث». وهو بالضبط ما أعلنت الحكومة أنها عازمة على معرفته عبر فتح تحقيق عالي المستوى.

عبد المهدي: الاستقالة لم تعد في جيبي
باللقاء الذي حضرته «الشرق الأوسط» مع مجموعة من الإعلاميين العراقيين ورئيس الوزراء عادل عبد المهدي، في منزله بحي الجادرية الراقي في بغداد، بدا على عبد المهدي التعب نظراً لأحكام العمر (78 سنة) مثلما أخبرنا خلال الجلسة، مضيفاً «أنا أقدم سياسي عراقي من بين الموجودين في المشهد السياسي الحالي».
وحقاً، عادل عبد المهدي هو أحد «الآباء المؤسسين» للنظام السياسي الحالي الذي يحتج عليه الشعب العراقي لا سيما الشبان منهم. وفي السنة التي ولد فيها غالبية هؤلاء الشبان كان عبد المهدي عضواً مناوباً في «مجلس الحكم الانتقالي» الذي أسسه الحاكم المدني الأميركي بول بريمر بعد غزو العراق عام 2003. وبعد تشكيل الحكومات العراقية المتعاقبة منذ ذلك العام، تولّى عبد المهدي عدة وزارات منها النفط والتخطيط بجانب منصب نائب رئيس الجمهورية. ولأن الاستقالة لم تعد في جيبه الآن بالقياس إلى السنوات الماضية فقد استقال مرتين... مرة من منصب نائب رئيس الجمهورية عام 2009 ومرة ثانية من منصب وزير النفط عام 2015.
كذلك فإنه تنافس على منصب رئاسة الوزراء عام 2006 مع إبراهيم الجعفري، الذي فاز عليه يومذاك بفارق صوت واحد. إذن، وصول عبد المهدي الآن إلى منصب رئاسة الوزراء تأخر نسبياً لسياسي من «الحرس القديم» مثله. لكنه، ولكونه أحد آباء هذا النظام المؤسسين بات يتوجب عليه مواجهة استحقاقات مؤجلة منذ 16 سنة.
لهذا السبب بدا عبد المهدي أثناء حديثه معنا أنه يشعر بثقل «المسؤولية حيال ما يجري في البلد»، قائلا: «صحيح أن الاستقالة، ومثلما هو معروف في جيبي، لكن الظروف اختلفت الآن». ثم يوضح أن الظروف اختلف عن ذي قبل، شارحاً: «أولاً، القوى السياسية التي ألحّت علي كثيراً لقبول منصب رئيس الوزراء من منطلق أن هذه هي الفرصة الأخيرة، مثلما قالوا، كان لديها شرط واحد هو ألا أستقيل. وثانياً، أن البلد الآن في وضع مرتبك، وبالتالي، فإن أي استقالة تعني هروباً من المسؤولية وذهاباً إلى المجهول».

حلول أم ترقيعات؟
من أجل مواجهة الاحتجاجات، التي بلغ ضحاياها في أقل من أسبوع أكثر من 120 قتيلا وأكثر من 6 آلاف جريح، كان لا بد من اتخاذ إجراءات في غاية الصعوبة. والحلول التي تبدو كائنة ما كانت جذريتها تظل آنية بالقياس إلى كون معظم المطالب التي خرج الناس من أجلها - بصرف النظر عمن ركب موجتها - مطالب مشروعة ومؤجلة منذ 16 سنة.
لجهة كون المطالب مشروعة فإن الطبقة السياسية تعترف بها جميعاً، لأن النظام السياسي الحالي في العراق، الذي بني على المحاصصة العرقية والطائفية، لم يتمكن بعد من خلق فرص عمل لأبناء الشعب العراقي رغم الثروة الهائلة التي يملكها بلد نفطي مثل العراق. والحكومات المتعاقبة منذ عام 2003 وحتى اليوم لجأت إلى اسلوب التوظيف التنفيعي في الدولة، الأمر الذي أدى إلى «ترهل الجهاز الوظيفي بشكل كامل»، كما يقول الخبير الاقتصادي باسم جميل أنطون في حديث لـ«الشرق الأوسط».
أنطون يوضح أن «أعداد الموظفين في العراق تبلغ نحو 6 ملايين موظف ومتقاعد ومتعاقد، الأمر الذي أدى إلى تردي إنتاجية هذا الموظف بحيث لا تتعدى الـ17 دقيقة في اليوم». ويرى أنطون أن «هذا الأسلوب في استيعاب الخريجين الجدد الذين يكملون دراساتهم الجامعية جعل نسبة تربو على 70 في المائة من موازنة الدولة تذهب إلى ما هو تشغيلي، ويتمثل في الرواتب والأجور، بينما تقدّر حصة الموازنة الاستثمارية بأقل من 20 في المائة». ثم يشرح أن «من بين الأسباب التي أدت إلى هذا الترهل هو العجز عن توفير فرص استثمارية في القطاع الخاص... الذي قصر نشاطه على ما هو تجاري فقط، وذلك لكون معظم السياسيين مسنودين برجال أعمال. وبالتالي، بات الاستيراد هو السياسة المتبعة، في محاربة الاستثمار، ويسد السبل في وجه إتاحة الفرص أمام المستثمرين العرب والأجانب».

إجراءات لامتصاص النقمة
في ضوء ما تقدم، فإن ما أقدمت عليه الحكومة والبرلمان خلال الفترة الماضية هو إجراءات تهدف إلى امتصاص نقمة الشعب بشكل عام، والمتظاهرين بصورة خاصة. وهذه الإجراءات تتأرجح بين ما يمكن أن يدخل في باب «الحلول»، وإن تأخرت كثيراً، و«الترقيع» لا سيما كل ما يتعلق بما يحتاج له ذلك من جنبة مالية. وفي هذا الإطار يقول عدنان الزرفي، النائب عن ائتلاف «النصر»، إن «ما يتحدث به رئيس الوزراء عن إصلاحات... هي في الحقيقة مجرد وعود قد لا تتحقق. لأنه سيواجه مشكلة التمويل في وقت تعاني الموازنة من عجز كبير... وربما نواجه نهاية السنة مشكلة حتى في تأمين الرواتب». ويضيف الزرفي أن «هذه الطريقة في التعامل مع أزمة خطيرة كالتي حصلت مؤخراً يمكن أن تأتي بنتائج عكسية في حال لم تتمكن الحكومة من تأمين الأموال اللازمة لذلك، الأمر الذي يمكن أن يعيد الاحتجاجات بشكل أوسع وأكبر».


مقالات ذات صلة

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الاقتصاد عَلم العراق يرفرف أمام حقل نفطي (رويترز)

شركة صينية توقِّع عقداً لاستكشاف وإنتاج النفط بالرقعة 7 في العراق

أعلنت المؤسسة الوطنية الصينية للنفط البحري عن توقيع عقد استكشاف وإنتاج، مع شركة نفط الوسط العراقية المملوكة للدولة، لاستكشاف النفط والغاز في الرقعة 7 بالعراق.

«الشرق الأوسط» (لندن)
المشرق العربي آليات عسكرية أميركية في قاعدة عين الأسد الجوية في الأنبار بالعراق (أرشيفية - رويترز)

هجوم صاروخي يستهدف قاعدة عسكرية بها قوات أميركية في بغداد

قال مصدران عسكريان إن قاعدة عسكرية تستضيف قوات أميركية قرب مطار بغداد استُهدفت، فجر (الثلاثاء)، بصاروخي «كاتيوشا» على الأقل، واعترضت الدفاعات الجوية الصاروخين.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
شؤون إقليمية 
قائد «فيلق القدس» إسماعيل قاآني وخلفه محمد رضا أشتياني وزير الدفاع (مشرق)

قاآني في بغداد لاحتواء «تصدع الإطار»

أكدت مصادر متطابقة وصول قائد «فيلق القدس» الإيراني إسماعيل قاآني، أمس الثلاثاء، إلى بغداد، في زيارة التقى خلالها قادةً بـ«الإطار التنسيقي»، إلى جانب قادة.

فاضل النشمي (بغداد)
المشرق العربي مسافرون داخل مطار بغداد الدولي (أرشيفية - أ.ف.ب)

«فوضى» تضرب مطار بغداد... والحكومة تتدخل بالتحقيق

قالت مصادر حكومية إن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني «أمر بتشكيل لجنة للتحقيق في أسباب فوضى شهدها مطار بغداد الدولي»، جراء التضارب والتأخير في مواعيد الرحلات.

فاضل النشمي (بغداد)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.