احتجاجات العراق... مطالب مؤجلة وحلول مستعجلة

عبد المهدي: الهروب من المسؤولية ذهاب إلى المجهول

احتجاجات العراق... مطالب مؤجلة وحلول مستعجلة
TT

احتجاجات العراق... مطالب مؤجلة وحلول مستعجلة

احتجاجات العراق... مطالب مؤجلة وحلول مستعجلة

لم تكن المظاهرات التي خرجت في الأول من شهر أكتوبر (تشرين الأول) الحالي في العاصمة العراقية بغداد وعدد من محافظات الوسط والجنوب مفاجئة من حيث التوقيت. فقبل أكثر من شهر كان هناك من توقع حصول مثل هذه المظاهرات.
بل هناك سياسيون وناشطون مدنيون لم يربطوها، ولأول مرة، بالخدمات التي هي أحد أبرز مطالب العراقيين المؤجلة منذ أكثر من عقد ونصف من السنوات، لكنهم ربطوها بالجدل الدائر حول حكومة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي التي لا تزال تنقصها حقيبتا التربية والصحة. ذلك أن التوافق السياسي بشأن مصير حقيبة وزارة التربية ما زال يصطدم باستمرار الخلافات بين الكتل السياسية التي تتحكم بالمشهد العام في البلاد، أما فيما يتعلّق بحقيبة وزارة الصحة فقد اضطر وزيرها علاء العلوان إلى الاستقالة من منصبه في أعقاب «تعرضه للابتزاز» طبقاً لكتاب الاستقالة الذي وجهه إلى رئيس الوزراء عادل عبد المهدي.

بدا يوم الأول من شهر أكتوبر (تشرين الأول) يوماً عادياً، مثله مثل أي يوم احتجاجي آخر، لا سيما في ساحة التحرير بوسط العاصمة العراقية بغداد، التي تعد أيقونة المظاهرات في العراق منذ أول انطلاقة لها خلال شهر فبراير (شباط) عام 2011 بالتزامن مع بدء «الربيع العربي».
غير أن الأمر اللافت في هذه المظاهرات أنها فاجأت العراقيين، وكذلك، فاجأت أركان الحكومة، الذين كانوا يتصوّرون أنها لن تخرج عمّا كان سائداً طوال السنوات الماضية على صعيد المظاهرات.
ما لم يكن متوقعاً، حقاً، هو أن المتظاهرين، الذين لم يأخذوا إجازة رسمية وفقا للقانون، ولم تكن لهم مرجعية واضحة، هو إصرارهم على الاحتكاك بقوات الأمن... التي كانت، في البداية، مجرد قوات لمكافحة الشغب تحمل معها خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع.

الجمهورية... الجسر والخضراء
إبّان كل المظاهرات التي انطلقت في العراق بدءا من 2011، والتي بلغت ذروتها عام 2015 حين اجتاح المتظاهرون «المنطقة الخضراء» التي كانت محصنة آنذاك مرتين خلال أقل من ثلاثة شهور، يكون جسر الجمهورية هو الضحية الأولى. إذ تعمد السلطات إلى إغلاقه لكونه يربط بين «ساحة التحرير» التي هي المكان التقليدي في جانب الرصافة و«المنطقة الخضراء» في جانب الكرخ.
وبما أن «المنطقة الخضراء» لم تعد محصنة، بعدما أمر رئيس الوزراء عادل عبد المهدي بفتحها قبل نحو شهرين، فإنه كانت ثمة خشية جدية من اجتياحها، وهي المنطقة التي تضم المقار والمكاتب الحكومية وقصور كبار المسؤولين، وبالتالي، تمثل أولوية كبرى للحكومة.
بعد ظهر اليوم الأول من المظاهرات، وبعد سقوط 3 من القتلى، أغلق جسر مرات الاحتجاج السابقة. ذلك أن أعداد المتظاهرين بدأت بالازدياد، وهو ما دعا إلى إغلاق ساحة التحرير نفسها، ومن ثم، إلى انتقال المتظاهرين إلى الأماكن القريبة من الساحة، وبالتحديد، كل من ساحتي الطيران والخلاني. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل انتقلت المظاهرات إلى مناطق وأحياء أخرى داخل بغداد، كان ملاحظاً أنها مناطق وأحياء ذات غالبية سكانية شيعية.
في الوقت نفسه بدأت تظهر احتجاجات، هنا وهناك في عدد من المحافظات الوسطى والجنوبية، وخصوصاً في كل من القادسية (الديوانية) وذي قار (الناصرية) والبصرة. وفي هذه الأثناء، أخذت تتزايد أعداد الضحايا، قتلى وجرحى، سواءً في صفوف المتظاهرين أو القوات الأمنية التي يفترض أن مهمتها حماية المتظاهرين. بيد أن هذه القوات وجدت نفسها وقد تحولت إلى طرف في الأزمة، يقابلها ويقابل المتظاهرين أيضاً، ما اعتبره البعض «الطرف الثالث».

مندسّون أم «طرف ثالث»

في كل المظاهرات العراقية السابقة كانت تُسجَّل عمليات احتكاك قد تؤدي إلى خسائر بالأرواح - وإن كان على أضيق نطاق - أو بالممتلكات... يمكن أن تصل إلى حد إحراق مقرات الأحزاب وقنصليات الدول، كما حصل في البصرة العام الماضي، حين جرى إحراق قنصلتي إيران والولايات المتحدة الأميركية.
من جهة أخرى، كان هناك اتفاق ضمني بين الحكومة و«مرجعيات» المظاهرات بأن هناك ما بات يُطلق عليهم اسم «المندسّون» الذين لا يمثلون الحكومة - عبر قواتها «قوات مكافحة الشغب» - أو المتظاهرين. ولعله من باب المفارقات اللافتة أن «المندسّين» كانوا من عوامل تهدئة المظاهرات، بما أن الطرفين الرئيسيين (أي الحكومة وجموع المتظاهرين) أخذا يشعران بالخطر الذي يمكن أن يؤدي إليه حرف المظاهرات عن غايتها الأصلية، ألا وهي المطالبة في الغالب بالخدمات، ومن ثم، «الإصلاح الشامل» بعد دخول «التيار الصدري» وزعيمه مقتدى الصدر على خط المظاهرات المليونية بدءا من عام 2015.
هذه المرة في هذه الاحتجاجات الشعبية، التي كان متوسط أعمار المشاركين فيها لا يزيد على عشرين سنة، كانت هناك حقيقة واضحة، هي أن معظم المشاركين في المظاهرات والاحتجاجات من أبناء هذا «النظام الجديد»، ولذا، جاء الكلام عن وجود «طرف ثالث» - وليس جماعات «مندسة» - تولى أفراده قمع المتظاهرين والقوات الأمنية معا. وهذا، طبعاً، بمعزل عن الاتهامات لأطراف إقليمية ودولية بأنها هي المسؤولة عن زرع هذا «الطرف الثالث» في الاحتجاجات كي يلعب دور التأجيج من خلال القنص المباشر للمتظاهرين وحُماتهم من الجيش. وجدير بالإشارة أن الجيش كان قد دخل على الخط في اليوم الثاني للمظاهرات في أعقاب تزايد أعداد الضحايا، وبلوغها عشرات القتلى ومئات الجرحى، وكذلك قوات وزارة الداخلية. وما عدا الاتهامات غير الموثقة، فإنه لم يثبت حتى الآن هوية الجهة التي تقف خلف «الطرف الثالث». وهو بالضبط ما أعلنت الحكومة أنها عازمة على معرفته عبر فتح تحقيق عالي المستوى.

عبد المهدي: الاستقالة لم تعد في جيبي
باللقاء الذي حضرته «الشرق الأوسط» مع مجموعة من الإعلاميين العراقيين ورئيس الوزراء عادل عبد المهدي، في منزله بحي الجادرية الراقي في بغداد، بدا على عبد المهدي التعب نظراً لأحكام العمر (78 سنة) مثلما أخبرنا خلال الجلسة، مضيفاً «أنا أقدم سياسي عراقي من بين الموجودين في المشهد السياسي الحالي».
وحقاً، عادل عبد المهدي هو أحد «الآباء المؤسسين» للنظام السياسي الحالي الذي يحتج عليه الشعب العراقي لا سيما الشبان منهم. وفي السنة التي ولد فيها غالبية هؤلاء الشبان كان عبد المهدي عضواً مناوباً في «مجلس الحكم الانتقالي» الذي أسسه الحاكم المدني الأميركي بول بريمر بعد غزو العراق عام 2003. وبعد تشكيل الحكومات العراقية المتعاقبة منذ ذلك العام، تولّى عبد المهدي عدة وزارات منها النفط والتخطيط بجانب منصب نائب رئيس الجمهورية. ولأن الاستقالة لم تعد في جيبه الآن بالقياس إلى السنوات الماضية فقد استقال مرتين... مرة من منصب نائب رئيس الجمهورية عام 2009 ومرة ثانية من منصب وزير النفط عام 2015.
كذلك فإنه تنافس على منصب رئاسة الوزراء عام 2006 مع إبراهيم الجعفري، الذي فاز عليه يومذاك بفارق صوت واحد. إذن، وصول عبد المهدي الآن إلى منصب رئاسة الوزراء تأخر نسبياً لسياسي من «الحرس القديم» مثله. لكنه، ولكونه أحد آباء هذا النظام المؤسسين بات يتوجب عليه مواجهة استحقاقات مؤجلة منذ 16 سنة.
لهذا السبب بدا عبد المهدي أثناء حديثه معنا أنه يشعر بثقل «المسؤولية حيال ما يجري في البلد»، قائلا: «صحيح أن الاستقالة، ومثلما هو معروف في جيبي، لكن الظروف اختلفت الآن». ثم يوضح أن الظروف اختلف عن ذي قبل، شارحاً: «أولاً، القوى السياسية التي ألحّت علي كثيراً لقبول منصب رئيس الوزراء من منطلق أن هذه هي الفرصة الأخيرة، مثلما قالوا، كان لديها شرط واحد هو ألا أستقيل. وثانياً، أن البلد الآن في وضع مرتبك، وبالتالي، فإن أي استقالة تعني هروباً من المسؤولية وذهاباً إلى المجهول».

حلول أم ترقيعات؟
من أجل مواجهة الاحتجاجات، التي بلغ ضحاياها في أقل من أسبوع أكثر من 120 قتيلا وأكثر من 6 آلاف جريح، كان لا بد من اتخاذ إجراءات في غاية الصعوبة. والحلول التي تبدو كائنة ما كانت جذريتها تظل آنية بالقياس إلى كون معظم المطالب التي خرج الناس من أجلها - بصرف النظر عمن ركب موجتها - مطالب مشروعة ومؤجلة منذ 16 سنة.
لجهة كون المطالب مشروعة فإن الطبقة السياسية تعترف بها جميعاً، لأن النظام السياسي الحالي في العراق، الذي بني على المحاصصة العرقية والطائفية، لم يتمكن بعد من خلق فرص عمل لأبناء الشعب العراقي رغم الثروة الهائلة التي يملكها بلد نفطي مثل العراق. والحكومات المتعاقبة منذ عام 2003 وحتى اليوم لجأت إلى اسلوب التوظيف التنفيعي في الدولة، الأمر الذي أدى إلى «ترهل الجهاز الوظيفي بشكل كامل»، كما يقول الخبير الاقتصادي باسم جميل أنطون في حديث لـ«الشرق الأوسط».
أنطون يوضح أن «أعداد الموظفين في العراق تبلغ نحو 6 ملايين موظف ومتقاعد ومتعاقد، الأمر الذي أدى إلى تردي إنتاجية هذا الموظف بحيث لا تتعدى الـ17 دقيقة في اليوم». ويرى أنطون أن «هذا الأسلوب في استيعاب الخريجين الجدد الذين يكملون دراساتهم الجامعية جعل نسبة تربو على 70 في المائة من موازنة الدولة تذهب إلى ما هو تشغيلي، ويتمثل في الرواتب والأجور، بينما تقدّر حصة الموازنة الاستثمارية بأقل من 20 في المائة». ثم يشرح أن «من بين الأسباب التي أدت إلى هذا الترهل هو العجز عن توفير فرص استثمارية في القطاع الخاص... الذي قصر نشاطه على ما هو تجاري فقط، وذلك لكون معظم السياسيين مسنودين برجال أعمال. وبالتالي، بات الاستيراد هو السياسة المتبعة، في محاربة الاستثمار، ويسد السبل في وجه إتاحة الفرص أمام المستثمرين العرب والأجانب».

إجراءات لامتصاص النقمة
في ضوء ما تقدم، فإن ما أقدمت عليه الحكومة والبرلمان خلال الفترة الماضية هو إجراءات تهدف إلى امتصاص نقمة الشعب بشكل عام، والمتظاهرين بصورة خاصة. وهذه الإجراءات تتأرجح بين ما يمكن أن يدخل في باب «الحلول»، وإن تأخرت كثيراً، و«الترقيع» لا سيما كل ما يتعلق بما يحتاج له ذلك من جنبة مالية. وفي هذا الإطار يقول عدنان الزرفي، النائب عن ائتلاف «النصر»، إن «ما يتحدث به رئيس الوزراء عن إصلاحات... هي في الحقيقة مجرد وعود قد لا تتحقق. لأنه سيواجه مشكلة التمويل في وقت تعاني الموازنة من عجز كبير... وربما نواجه نهاية السنة مشكلة حتى في تأمين الرواتب». ويضيف الزرفي أن «هذه الطريقة في التعامل مع أزمة خطيرة كالتي حصلت مؤخراً يمكن أن تأتي بنتائج عكسية في حال لم تتمكن الحكومة من تأمين الأموال اللازمة لذلك، الأمر الذي يمكن أن يعيد الاحتجاجات بشكل أوسع وأكبر».


مقالات ذات صلة

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الاقتصاد عَلم العراق يرفرف أمام حقل نفطي (رويترز)

شركة صينية توقِّع عقداً لاستكشاف وإنتاج النفط بالرقعة 7 في العراق

أعلنت المؤسسة الوطنية الصينية للنفط البحري عن توقيع عقد استكشاف وإنتاج، مع شركة نفط الوسط العراقية المملوكة للدولة، لاستكشاف النفط والغاز في الرقعة 7 بالعراق.

«الشرق الأوسط» (لندن)
المشرق العربي آليات عسكرية أميركية في قاعدة عين الأسد الجوية في الأنبار بالعراق (أرشيفية - رويترز)

هجوم صاروخي يستهدف قاعدة عسكرية بها قوات أميركية في بغداد

قال مصدران عسكريان إن قاعدة عسكرية تستضيف قوات أميركية قرب مطار بغداد استُهدفت، فجر (الثلاثاء)، بصاروخي «كاتيوشا» على الأقل، واعترضت الدفاعات الجوية الصاروخين.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
شؤون إقليمية 
قائد «فيلق القدس» إسماعيل قاآني وخلفه محمد رضا أشتياني وزير الدفاع (مشرق)

قاآني في بغداد لاحتواء «تصدع الإطار»

أكدت مصادر متطابقة وصول قائد «فيلق القدس» الإيراني إسماعيل قاآني، أمس الثلاثاء، إلى بغداد، في زيارة التقى خلالها قادةً بـ«الإطار التنسيقي»، إلى جانب قادة.

فاضل النشمي (بغداد)
المشرق العربي مسافرون داخل مطار بغداد الدولي (أرشيفية - أ.ف.ب)

«فوضى» تضرب مطار بغداد... والحكومة تتدخل بالتحقيق

قالت مصادر حكومية إن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني «أمر بتشكيل لجنة للتحقيق في أسباب فوضى شهدها مطار بغداد الدولي»، جراء التضارب والتأخير في مواعيد الرحلات.

فاضل النشمي (بغداد)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.