الجنرال مارك ميلي... الرئيس الجديد لأركان القوات المسلحة الأميركية

تعيينه وتولي إسبر وزارة الدفاع يضمنان ولاء «البنتاغون» لترمب

الجنرال مارك ميلي... الرئيس الجديد لأركان القوات المسلحة الأميركية
TT

الجنرال مارك ميلي... الرئيس الجديد لأركان القوات المسلحة الأميركية

الجنرال مارك ميلي... الرئيس الجديد لأركان القوات المسلحة الأميركية

تعيين الجنرال مارك ميلي، الرئيس الـ20 لرؤساء أركان الجيوش الأميركية المشتركة، لم يكن مفاجئاً، بل كانت المفاجئة في توقيتها، حين أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب، قبل سنة تقريباً من انتهاء ولاية الجنرال جوزف دانفورد، الرئيس السابق لرؤساء الأركان، عن رغبته في تعيين ميلي رئيساً لأركان القوات المسلحة.
الجنرال ميلي الذي يحمل على كتفيه 4 نجوم، والذي أقسم اليمين الدستورية أخيراً كأرفع ضابط عسكري أميركي في الولايات المتحدة، يأتي من الجيش (أي القوات البرية)، ويخلف في رئاسة هيئة الأركان المشتركة دانفورد الآتي من قوات «المارينز»، الذي كان قد عيّنه الرئيس باراك أوباما. ويشير تاريخ رئيس الأركان الجديد العسكري طيلة 39 سنة من الخدمة إلى مشاركته في كثير من الحروب، قديمها وجديدها.

في أواخر عام 2018، كان من المتوقع أن يختار الرئيس الأميركي دونالد ترمب إما الجنرال مارك ميلي أو رئيس أركان القوات الجوية الجنرال ديفيد غولدفين، إلا أن روايات انتشرت في وزارة الدفاع (البنتاغون) تشير إلى أن غولدفين كان مدعوماً من دانفورد، ووزير الدفاع - آنذاك - الجنرال جيم ماتيس. غير أن تودد ميلي لترمب، وتبادله معه النكات الودية التي تخللتها نقاشات حول كيفية تقليص النفقات العسكرية المتضخمة، أقنع الرئيس باختياره في ديسمبر (كانون الأول) الماضي. وشكل هذا صدمة في أوساط «البنتاغون»، بالنظر إلى أنه كان ما زال أمام دانفورد 9 أشهر من الخدمة قبل أن يتقاعد.
وفعلاً، صوّت مجلس الشيوخ في يوليو (تموز) الماضي على تثبيت ميلي بـ89 صوتاً، مقابل اعتراض صوت واحد، هو السيناتور الديمقراطي جيف ميركلي (من ولاية أوريغون)، ممن حضروا الجلسة. ومع تثبيته، يكون نصف الرؤساء العشرين لرئاسة الأركان قد أتوا من الجيش (أي القوات البرّية)، و4 من القوات الجوية، و4 من القوات البحرية، و2 من قوات مشاة البحرية (المارينز).

ترمب يبعد معارضيه
وكانت الأجواء تشير كلها إلى رغبة الرئيس ترمب في إبعاد معارضي سياساته الخارجية، ونظرته إلى القوات الأميركية وتحديثها وميزانيتها، عن إدارته. ومعلوم اختلافه مع البعض حول رؤيته وفهمه للدور الذي تلعبه الولايات المتحدة على المسرح الدولي، وتمسّكه بسياسة «إنهاء التورط الأميركي» فيما يصفه بـ«الحروب اللامتناهية غير المفيدة». وعندما رشّح ميلي لهذا المنصب، فإنه ألقى بدعمه وراء تحديث القوات النووية الأميركية، والقدرات الجديدة لحرب المعلومات.
وعام 2018، عندما أعلن ترمب نيته تشكيل «قوة الفضاء»، كقوة مستقلة قائمة بذاتها إلى جانب الجيوش (أو الأسلحة) الأميركية الأربعة، عارضه دانفورد ووزير دفاعه السابق ماتيس. ولم يمض بضعة أشهر حتى أعلن ترمب نيته سحب القوات الأميركية من سوريا، مما تسبب في استقالة ماتيس من منصبه، وأفسح المجال أمام تغييرات بنيوية في قيادة «البنتاغون»، ساهمت الإطالة في تعيين بديل عنه في تعزيزها.
اليوم، يربط البعض بين التطورات الأخيرة في ملف الأزمة السورية والكشف عن أن رئيس الأركان الجديد مارك ميلي كان حاضراً مع وزير الدفاع الجديد أيضاً مارك إسبر الذي عمل لمدة سنتين معه حين كان وزيراً للجيش، خلال المكالمة الهاتفية التي جرت بين ترمب ونظيره التركي رجب طيب إردوغان. وهي المكالمة التي بحث فيها الرئيسان الأميركي والتركي العملية العسكرية التي أطلقتها تركيا في شمال سوريا. والقصد هو أن سياسات ترمب تسير الآن بتوافق تام مع قيادته العسكرية التي باتت أكثر التزاماً بتوجيهات ترمب بصفته «القائد الأعلى» للقوات الأميركية، عمّا كانت عليه في السابق.
ميلي يحظى بإعجاب ترمب
يقول أصدقاء ميلي، والأشخاص الذين عملوا معه، إن قدرته على التواصل مع ترمب هي، ببساطة، انعكاس لشخصيته كجنرال متحمس... على النقيض من دانفورد الأكثر تحفظاً. وترمب نفسه أشار إلى ذلك في أثناء حفل تقديم ميدالية الشرف، العام الماضي، عندما أشار إلى محادثات جرت مع ميلي حول تكلفة القنابل الباهظة الثمن، إذ قال الرئيس: «لقد رأيت ذلك في عينيه عندما تحدثت عن تكلفة تلك القنابل... إنه جيد في إلقائها، وجيد أيضاً في تسعيرها».
وفي عام 2016، قال ترمب: «عندما كان ميلي رئيساً لأركان الجيش، وكانت إدارته تجري بحثاً ودراسة مطولة لاختيار مسدس جديد، حينها انفجر ميلي غاضباً، وقال: سنتان لاختبار مسدس؟ وبكم؟ 17 مليون دولار؟ وقال للمكتب الاستشاري في واشنطن: أعطني 17 مليون دولار في بطاقة ائتمان، وسأتصل بشركة كابيلا الليلة لتوريد الشحنة».

سجل عسكري حافل
ووفق بطاقة التعريف الرسمية برئيس الأركان الجديد، الصادرة عن «البنتاغون»، كان مارك ميلي رئيس الأركان الـ39 في الجيش (القوات البرية)، قبل إسناد منصبه الجديد إليه في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي.
وحسب المعلومات، شغل الجنرال ميلي عدة مناصب في القيادة والأركان في 8 فرق وقوات خاصة على مدار السنوات الـ39 الماضية، تشمل قيادة الكتيبة الأولى المشاة 506، والفرقة الثانية المشاة، واللواء الثاني، والفرقة الجبلية العاشرة، ونائب القائد العام، والفرقة 101 المحمولة جواً (الهجوم الجوي)، والقائد العام في الفيلق الثالث، والقائد العام في قيادة قوات الجيش. وفي أثناء خدمته كقائد عام للفيلق الثالث، عمل الجنرال ميلي قائداً عاماً للقيادة المشتركة لقوة المساعدة الأمنية الدولية، ونائب القائد العام للقوات الأميركية في أفغانستان. وتشمل المهام المشتركة للجنرال ميلي أيضاً مديرية عمليات الأركان المشتركة، ومساعداً عسكرياً لوزير الدفاع.

مشاركاته في العالم العربي وخارجه
شارك الجنرال ميلي في مهام القوة المتعددة الجنسيات والمراقبين في شبه جزيرة سيناء بمصر، وعملية «القضية العادلة» في بنما عام 1989، وعملية «دعم الديمقراطية» في هايتي، وعملية «المسعى المشترك» في البوسنة والهرسك لتنفيذ اتفاق دايتون للسلام، كذلك عملية «حرية العراق»، و3 جولات خلال عملية «الحرية الدائمة» في أفغانستان، وكذلك في الصومال وكولومبيا. وإبان فترة خدمته العسكرية في العراق، اضطر الجنرال ميلي للنزول في مجاري الصرف الصحي المفتوحة في أبو غريب، وتعرض لنيران القنابل الصاروخية والرشاشات في مدينة الصدر، خلال الحرب التي أخذت لاحقاً طابعاً طائفياً. وينقل عنه هجومه الحاد والفظ على ضابط أميركي كبير أعلى منه، سأله عما إذا كان بإمكانه التعامل مع الوضع العسكري المتفجر والتمرد الذي تشهده مدينة بغداد، قائلاً له: «أيها الجنرال، نحن أكبر لواء متحرك لديك على الإطلاق. ركز فقط في العمل داخل مدينتك».
ومن جهة أخرى، تعرض ميلي، عندما كان رئيساً لأركان الجيش، لانتقادات من بعض أفراد فريق العمليات الخاصة بسبب الكمين الذي نصب للقوات الأميركية في النيجر عام 2017، وأودى يومذاك بحياة 4 جنود أميركيين. وقيل إن ميلي أقنع باتريك شاناهان، الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع بالوكالة قبل أشهر قليلة، بالحد من عمليات المراجعة الواسعة، كما عمل على منع فصل الضابط الذي تلقى اللوم بسبب الكمين. ودافع أنصار ميلي عن ذلك بقولهم إنه اكتفى بمنع الضابط من قيادة وحدة قتالية أخرى.

اختبار العلاقة مع ترمب
سياسياً، سيكون الأمر متروكاً لميلي في التعايش مع الرئيس ترمب.
وسيكون على هذا العسكري، الذي كثيراً ما يمزج بين المزاح والجدية الفظة، إدارة ما قد يكون العلاقة الأكثر مهنية في حياته، بعدما غدا أكبر مستشار عسكري لرئيس سريع القرارات، زجّ بـ«البنتاغون» في صلب المواجهات السياسية الداخلية بشكل روتيني ودائم. وآخر تلك المواجهات ملف ما بات يعرف بـ«فضيحة أوكرانيا» التي أعلن قادة «البنتاغون» أنهم سيتعاونون فيها مع لجان التحقيق في مجلس النواب، ويقدمون الوثائق المطلوبة... التي قد تمهد لتصويت المجلس على عزل الرئيس ترمب. وهذا الأمر كان سبباً لقلة ارتياح عدد من القادة العسكريين وأركان وزارة الدفاع.
ومن ناحية ثانية، يعرف عن الجنرال ميلي إسهابه في الكلام، بجانب أنه طالب متعطش للتاريخ بشكل عام، وللتاريخ العسكري بشكل خاص. وينقل عنه استشهاده بالقديسين أوغسطينوس وتوماس الأكويني، وكذلك هنري ديفيد ثورو، في أحاديثه. وهو يرفض نقاش ما دار في معركة القصرين، التي تعد إحدى الجولات المهمة في الحرب العالمية الثانية في تونس، عندما تفوقت القوات الألمانية على القوات الأميركية. وفي هذا الصدد، يشدد على القول إن القوات الأميركية لم تكن جاهزة للمعركة بعد في ذلك الوقت.
كذلك ينقل عنه ميله الشديد غريزياً لإيجاد أرضية مشتركة مع أطباع وآراء كثير من الأشخاص. وفي مؤتمر لكبار القادة العسكريين الأفارقة في مدينة أروشا، بجمهورية تنزانيا، خلال مايو (أيار) 2016، كسر ميلي حالة الجمود والصمت التي هيمنت على القاعة، عندما افتتح خطابه الرئيسي بأن وجه الحديث إلى الجنرال الأميركي الكبير الذي نظم المؤتمر، ووصفه بصاحب الرأس العنيد. ولقد أثار هذا الأمر الضحك، ثم إنه شبه الفترة التي قضاها في حرب العراق بمن قضى وقتاً وسط صراعات الجيوش الأفريقية. وقال ميلي مخاطباً مسؤولين عسكريين كباراً من 37 دولة أفريقية: «كثيرون منكم في هذه القاعة هم أحفاد المقاتلين الذين خاضوا حرب العصابات ضد الفرنسيين والبريطانيين والقوات الاستعمارية في أوروبا. إن أهم متطلبات الانضمام إلى جيوشكم هي معرفة كيفية خوض حرب العصابات».
وحقاً، قد يخوض ميلي نوعاً آخر من حرب العصابات، كأكبر مستشار عسكري لترمب. إنها مهمة حساسة ومتخصصة للغاية في السير على حبل مشدود لإعطاء الرئيس أفضل نصيحة عسكرية ممكنة، مع أداء التحية له، واتباع التوجيهات التي قد لا يتفق معها تماماً.

مسيرة أكاديمية وعسكرية

> ينقل عن الجنرال مارك ميلي قوله إنه لم يخطط للخدمة العسكرية وقضاء حياته في الجيش. ويضيف أنه كان عليه أن يختار بين الانضمام إلى أفواج المجندين في أكاديمية «ويست بوينت» العسكرية، والالتحاق بإحدى الجامعات المرموقة، إذ أصر والده، وهو عسكري سابق في قوات مشاة البحرية (المارينز) شارك في معركة «إيو جيما» التي انتهت بانتصار الولايات المتحدة على اليابان في الحرب العالمية الثانية، أنه لا يريد لابنه أن ينضم إلى الجيش. ويقال إنه طلب من أحد أبنائه التخريب ومحاولة إفساد زيارة ابنه مارك إلى «ويست بوينت»، عبر الطلب من بعض معارفه الحديث بشكل سلبي، وإظهار الحياة القاسية في الكلية الحربية.
بيد أن الأب، واسمه ألكساندر ميلي، وقد توفي عام 2015، خسر لاحقاً معركة ثني ابنه عن اختيار حياة الجيش، إذ أخبر مارك أصدقاءه أن شيئاً ما قد زرع في عقله جعله يعتقد أنه محظوظ لأنه ولد في أميركا، وأن من واجبه أن يسير على خطى والده، وسرعان ما انضم خلال وجوده في جامعة برينستون إلى برنامج تدريبات الضباط الاحتياط.
وأنهى ميلي دراسته الثانوية في مدرسة بلمونت هيل الخاصة الراقية في مدينة بوسطن، عاصمة ولاية ماساتشوستس، ثم بدأ مسيرته الجامعية، فحصل على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة برينستون العريقة، ثم على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة عريقة أخرى، هي جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك.
وتخصّص كضابط في الأمن القومي والدراسات الاستراتيجية في إحدى أهم الكليات الحربية للأركان في البحرية الأميركية. كما تخرج كمتخصص في دراسات الأمن القومي في أحد برامج معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي» المرموق.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.