بصبر بارد وسياسة النفس الطويل بدأ البريطانيون «الصحوة»، التعبير الذي اختطفه «الإسلامجية»، حسب قول دبلوماسي بريطاني متقاعد خدم في المنطقة، (نطق الإسلامجية باللهجة المصرية)، بعد الخطاب القوي الذي ألقته وزيرة الداخلية تريزيا ماي مساء الثلاثاء في المؤتمر السنوي لحزب المحافظين في برمنغهام.
في اليوم التالي أمس، أعاد زعيم المحافظين، رئيس الوزراء ديفيد كاميرون كلمات الوزيرة ماي - وكانت الصحافة صباح الأربعاء شبهتها بالراحلة الليدي ثاتشر، أقوى وأهم زعامات المحافظين الأيقونية منذ السير ونستون تشرشل - في تأكيداتها القوية وبرود الأعصاب والهدوء الحاسم - عن التصدي للإرهاب الذي يمثله التطرف، ليس فقط في مجموعة مقترحات وتعديلات في مشروع قانون ستحاول تقديمه للبرلمان في الأشهر الباقية من عمره الحالي، بل في توجيه كلمات قوية للمتطرفين والإرهابيين الذين التحقوا بصفوف الإرهاب الذي يهدد الإنسانية.
وجه كاميرون القول لمئات من الشباب الذين التحقوا بالمنظمات المتطرفة قائلا: «أنتم أعداء المملكة المتحدة، أعداء مسلمي بريطانيا ومكانكم السجن». وكان رئيس الوزراء الأسبق توني بلير كان قال بنبرة قوية يشوبها الغضب صبيحة هجمات يوليو (تموز) 2005 الإرهابية على وسائل المواصلات: «إذا أردتم العيش في بريطانيا فلتحترموا القوانين وإلا فأرونا ظهوركم واذهبوا للعيش بين الإرهابيين».
وزيرة الداخلية مهدت للمقترحات بقائمة من انتهاكات القانون، والإرهاب والضغوط التي يتعرض لها مسلمو بريطانيا على أيدي أصحاب الفكر المتطرف، مثل إقامة «محاكم الشريعة» السرية في غيتوهات يقطن معظمها المهاجرون من الصومال وباكستان واليمن، وهي محاكمات ليس لها أصل قانوني، والقضاة مؤهلاتهم الفقهية مجهولة، ويتعرض فيها الضعفاء (وهم إما من النساء المهاجرات اللاتي لا يعرفن اللغة الإنجليزية أو مهاجرين غير شرعيين يخشون الشكوى للمسؤولين فيؤدي الأمر بترحيلهم) لعقوبات جسدية كالجلد والضرب والزواج القسري للقاصرات؛ ومثل الاعتداء على أصحاب المتاجر بتهم الاتجار في بضائع تحرمها الشريعة الإسلامية، أو فرض إتاوات عليهم كما كانت تفعل عصابات المافيا في أميركا في مطلع القرن الماضي.
الملاحظ أن وزيرة الداخلية استشهدت في الخطاب بآيات من القرآن الكريم لإقناع الحضور بطلبها نصرة مسلمي بريطانيا والعالم في مواجهة داعش والإرهابيين الذين أعلنوا بالفعل الحرب على بريطانيا بمسلميها وغير مسلميها. ويوم إلقائها الخطاب احتلت الأخبار حادثة هروب فتاتين دون السن القانونية إلى تركيا للالتحاق بصفوف داعش وقلق الأسرتين عليهما.
جاء خطاب الوزيرة ماي ليتوج حركة الصحوة التي أشار إليها الدبلوماسي البريطاني المستعرب، بعد أن كان مروجو التطرف استخدموا تعبير «الصحوة» إشارة إلى نجاحهم في غسل أدمغة الشباب وإبراز الإرهاب على أنه صحوة إسلامية جديدة لمحاربة ما يعدونه «الكفرة والصليبيين والمرتدين» (ويقصدون الغالبية العظمى من المسلمين الذين لا يشاركونهم تفسيرهم الملتوي للدين).
ربما كانت الصدمة الكبيرة التي أفاق عليها البريطانيون، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، هي اعتداء مخبولين من أصول أفريقية على الجندي لي ريغبي وذبحه في وضح النهار في شارع في جنوب لندن، ثم التبجح أثناء المحاكمة بأنهما يجاهدان في سبيل الله والإسلام.
وكانت الأسابيع الماضية شهدت استياء كبيرا في الرأي العام، وتقارير لمؤسسات اجتماعية إسلامية عن تزايد الاعتداءات اللفظية وغيرها على المسلمين كرد فعل لتصرفات متطرفين بريطانيين. وهي ردود فعل لتوزيع داعش فيديوهات لمسلم بريطاني يسمي نفسه المجاهد يوحنا Jihadie John وهو يذبح صحافيا أميركيا، ثم فيديو آخر له يقطع رأس أسير بريطاني وتقارير المخابرات عن مئات من البريطانيين المسلمين يقاتلون في صفوف داعش، وعدد من المراهقات التحقن بهم، وآخر التقارير مقتل (داعش سمته استشهادا) لطالب مسلم دون الـ18.
في الأسبوع الماضي ألقي القبض على أكثر من خلية من نشطاء إسلاميين متطرفين، لكن باستثناء شخصين، أفرج عن أكثر من 20 شخصا ممن ألقي القبض عليهم لعدم كفاية الأدلة. وهذه هي المشكلة التي تواجه الحكومة ووزيرة الداخلية على جبهتين، الأولى سياسية دستورية مع حزبها ومع البرلمان والقضاء، والثانية قانونية جنائية.
فالقضاء العرفي في محاكم إنجلترا وإمارة ويلز لا يأخذ مثلا بالاعترافات كأدلة، أو لا تكفي أقوال الشهود من دون أدلة مادية لا يرقى إليها الشك. وكل مهمة الدفاع إلقاء بذرة شك في عقل المحلفين وتسقط القضية حتى ولو ألقي القبض على الإرهابي بحزام ناسف حول وسطه، لكن القضاء يتعامل مع الجاني حسب نتائج فعله وليس حول نواياه.
من المقبوض عليهم في مجموعات الأسبوع الماضي أئمة مساجد ودعاة من جماعات مثل «حزب التحرير» و«المهاجرون» التي حظرت بأمر قضائي لعلاقتها المباشرة بالإرهاب.
ومنهم مثلا أنجيم شودري الذي كثيرا ما قاد مظاهرات استفزازية ضد الجنود العائدين من أفغانستان (وهي من الأمور التي استفزت الرأي العام وأدت إلى الصحوة المناهضة، خاصة إهانة جماعته لأهالي جنود ماتوا في أفغانستان بمظاهرات استفزازية في موكب استقبال الجثامين) وخطبه ومنشوراته كانت باعتراف المقبوض عليهم وراء تجنيدهم لجماعات مثل داعش. مصادر اسكوتلنديارد تقول: إن دوافع توقيفهم كانت أدلة وجدت مع شباب قبض عليهم في المطارات بعد عودتهم من القتال مع داعش في سوريا. لكن النيابة (مكتب ادعاء التاج) نصحت بضرورة وجود أدلة أخرى لتقديمهم للمحاكمة بتهم التآمر. الأدلة مصدرها مخابرات وأجهزة مباحث وتسجيلات لاجتماعات ومكالمات تليفونية. يذكر أن المحكمة في ظل القوانين الحالية لا تسمح للمحلفين بالاطلاع على هذه الأدلة لإثبات التآمر على عمل إرهابي بلا وجود الضباط أو الوكلاء الذين قاموا بجمع هذه الأدلة في منصة الشهود واستجوابهم من قبل ممثلي الاتهام والدفاع. المخابرات والمباحث ترفضان تقديم هؤلاء الضباط كشهود خشية تعرض حياتهم وذويهم للخطر وكذا كشف الطرق التي تستخدمها المخبرات. وهي حلقة مفرغة نتيجتها إفلات متآمرين ومدبري الإرهاب من العدالة ولا سبيل لتوقيفهم إلا فقط تحت قانون الأمن العام في الطريق، أي لليلة واحدة وعدة ساعات في حالة مظاهرات في الشوارع. لكن لا يمكن إثبات التهم عليهم إلا بحل لمعضلة السماح بأدلة التنصت على المكالمات.
ومع ضغوط الرأي العام، وقلق الحكومة من أن يؤدي غضب الرأي العام إلى فتنة وصراعات طائفية بين السكان الأصليين والأجيال (الثالث والرابع) من أبناء المهاجرين المسلمين، وهو ما حذرت منه وزيرة الداخلية في خطابها الثلاثاء، فإنها اقترحت عدة حلول توضع في شكل قانون جديد بتهم التحريض على الإرهاب وتوجيه القصر أو منهم دون السن القانونية نحو الإرهاب. الحلول أدخلتها في مواجهة وانتقادات بعد دقائق فقط. المنتقدون هم الجناح التقليدي في حزبها المحافظ، وبعكس المفهوم الشائع فإن يمين حزب المحافظين الليبرترياني Libertarian (التيار الذي يتزعمه اليميني ديفيد دافيز) وليس الليبرالي هو المتمسك بحرية التعبير وعدم السماح للإرهابيين بتغيير النمط الثقافي للمجتمع والقاعدة الذهنية الثقافية لمفهوم العدالة.
الوزيرة تريد رقابة أكثر تشددا على وسائل التواصل الاجتماعي كـ«فيسبوك» بحيث يحصل المتطرفون ومروجو الفكر الجهادي المتشدد على تصريح مسبق يشرف عليه البوليس للتأكد من السجل الجنائي، قبل أن يكون له «فيسبوك» ومنعه إذا روج للإرهاب. أيضا منح البوليس وأجهزة المخابرات صلاحيات واسعة للتنصت على المكالمات ومراقبة الاتصالات والإنترنت، والعودة إلى نظام حكومة بلير العمالية، تحت اسم آخر، بوضع المتطرفين والمشتبه فيهم في أماكن إقامة جبرية وأطواق إلكترونية على معاصمهم رغم أنها ألغت هذه الأمر الإداري بنفسها عندما تولت وزارة الداخلية.
الأمر الآخر الذي يثير اعتراض يمين المحافظين هو اقتراحها بعدم السماح للمتطرفين بترويج دعايتهم عبر الصحافة، خاصة المسموعة والمرئية. هذا بدوره أثار الانتقادات. فحكومة ثاتشر كانت استصدرت قرارا مشابها بمنع حزب شين فين، الواجهة السياسية لجماعة الجيش الجمهوري الآيرلندي من الظهور في التلفزيون والإذاعة وأثناء إرهاب فترة الثمانينات. المنع جاء بنتائج عكسية فقد لقيت الحركة الجمهورية الآيرلندية تأييدا واسعا في أميركا وجمعت الملايين من التبرعات والأسلحة المهربة، بينما لجأ الصحافيون إلى نسخ المقابلات مع زعماء شين فين واستئجار ممثلين لقراءتها بأصواتهم.
ولأن بريطانيا نظام برلماني خالص وليست نظاما رئاسيا جمهوريا، فمن المستحيل أن يدخل أي مطلب شعبي أو قرار حكومي حيز التنفيذ إلا بعد أن يدرج كمشروع قرار يصوت عليه البرلمان، ثم يرفع إلى مجلس اللوردات (الشيوخ) فيناقشه ويعدله وعادة يعيده إلى مجلس العموم بالرفض أو التعديل (حال معظم مشاريع القوانين التي يتسرع ساسة العموم بصياغتها)، ثم يرفع للملكة للتصديق قبل أن يصبح قانونا؛ وهناك سوابق في رفض الملكة التوقيع وإعادة القانون للبرلمان عندما تكتشف بخبرتها وحكمتها ثغرات قانونية.
في الحال العادي وبلا اعتراضات لن تكفي الفترة الباقية من عمر البرلمان الحالي (من 17 أكتوبر (تشرين الأول) حتى 5 مايو (أيار)، وإجازات أعياد الميلاد ونصف السنة والفصح تبقى أقل من 90 يوم عمل فقط، ونصيب أيام الحكومة فيها لتقديم مشاريع قوانين 6 فقط). قبل انتخابات مايو 2015.
لكن سواء قدم المشروع في هذا البرلمان أو في دورة البرلمان القادم، نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 في حالة فوز المحافظين في الانتخابات، ففرصة تحول مقترحات الوزيرة في مواجهة المتطرفين بتشدد أقل من الثلث.
فتقريبا ما بين 4 أو 5 نواب من المحافظين سيعترضون على المشروع بشكله الحالي، والعمال كحزب معارضة سيحرجون الحكومة بالتصويت بالرفض، أما الديمقراطيون الأحرار، شركاء كاميرون في الائتلاف الحالي فيصعب على زعيمهم نيقولاس كليغ إقناع جذور الحزب وأعضائه بقبول ما يهدد حرية التعبير، أما في حالة تصويت مجلس العموم عليه - إذا عقد كاميرون صفقة مع زعيم العمال إدوارد ميليباند كما فعل في مشروع قرار المشاركة في ضرب داعش - فمن المؤكد أن مجلس اللوردات المتورم بالقضاة المتقاعدين وفقهاء القانون والمحامين سيرفض المشروع بل وسيكشفون ثغرة مضحكة في كل فقرة ومادة من مواده.
باختصار، خطاب وزيرة الداخلية على ما يبدو كان مفصلا على مقاس «صحوة» الرأي العام ضد التطرف الإسلامي من ناحية، ومن ناحية أخرى خطوة بارعة لتشبيه الصحافة لها بالسيدة ثاتشر، حلما في قيادة الحزب والوقوف يوما ملوحة للمصورين على باب رقم 10 داونينغ ستريت.
انتهى.
«صحوة» بريطانية ضد مروجي التطرف
كاميرون: هؤلاء مكانهم السجن
«صحوة» بريطانية ضد مروجي التطرف
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة