صعود نجم الشعبويين في تونس يعمق مأزق «النهضة» الإسلامي

المتعاطفون مع «الحركة» يواصلون التخلي عنها بسبب «تنازلاتها المتواصلة»

الهيئة العليا المستقلة للانتخابات تعلن نتائج الدورة الرئاسية الأولى في تونس (إ.ب.أ)
الهيئة العليا المستقلة للانتخابات تعلن نتائج الدورة الرئاسية الأولى في تونس (إ.ب.أ)
TT

صعود نجم الشعبويين في تونس يعمق مأزق «النهضة» الإسلامي

الهيئة العليا المستقلة للانتخابات تعلن نتائج الدورة الرئاسية الأولى في تونس (إ.ب.أ)
الهيئة العليا المستقلة للانتخابات تعلن نتائج الدورة الرئاسية الأولى في تونس (إ.ب.أ)

يبرز الانزعاج الذي يشعر به ناخبون في مدينة العالية التونسية، الرابضة على تل المأزق الذي يواجهه حزب النهضة الإسلامي المعتدل، وهو يسعى للفوز في انتخابات يوم الأحد البرلمانية، بعد أن ظل لسنوات يقتسم السلطة مع النخبة السياسية العلمانية في تونس.
ولن يكون لمصير حزب النهضة صدى في تونس وحدها؛ إذ إن سعيه لرسم مسار معتدل، يحظى بالمتابعة في مختلف أنحاء العالم العربي، الذي أخفق على مدار عقود في التوفيق سلمياً بين الحركات الإسلامية والوطنية.
يقول محمد أمين (35 عاماً)، الذي يعمل سائق شاحنة، وهو يجلس تحت شجرة قرب طاولة للدعاية الانتخابية تابعة لحزب النهضة أمام مبنى البلدية لوكالة «رويترز» للأنباء: «المتعاطفون مع (النهضة) تخلوا عنه بسبب تنازلاته المستمرة، ولم يتبق سوى أعضائه».
ومنذ إجراء أول انتخابات حرة في تونس عام 2011، تراجع نصيب حزب النهضة من الأصوات على مستوى البلاد باطراد؛ الأمر الذي أثار تساؤلات عدة عن استراتيجيته، وهو يسعى للتعافي بعد انتخابات الرئاسة، التي احتل فيها المركز الثالث الشهر الماضي.
وفي السابق كان بإمكان الحزب أن يعول على تأييد المناطق المحافظة اجتماعياً، والأقل استفادة من التنمية في داخل البلاد. أما الآن، فإنه يواجه، حسب عدد من المراقبين، تحدياً من دخلاء شعبويين يتحدون الأحزاب الرئيسية بسبب الفقر. ولذلك؛ عاد الحزب يسعى لاستمالة قاعدة مؤيديه، بعد أن خيب آمال الإسلاميين بإطلاق وصف حزب «المسلمين الديمقراطيين» على نفسه وآمال الفقراء في تونس، وذلك بالانضمام إلى حكومات فشلت في تحسين معيشتهم. غير أنه بعد قضاء سنوات في الحكم، قدم خلالها بعض التنازلات، التي رأى أنها ضرورية للحفاظ على النظام الاجتماعي ومعالجة الأزمات، لم يعد من السهل استعادة صورته القديمة ذات الشعبية كحزب ثورة، دون أن يرفض ما صدر عنه من أفعال في الآونة الأخيرة.
وكان الحزب قد احتضن المرشح المستقل قيس سعيد، أستاذ القانون المنتمي للتيار المحافظ، الذي حصل على أعلى الأصوات في انتخابات
الرئاسة، وأعلن تأييده له رسمياً في جولة الانتخابات الثانية، التي ستجري في 13 من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي.
وبهذا الشكل اختار الحزب أن يقف ضد خصم سعيد في الانتخابات، نبيل القروي قطب صناعة الإعلام الذي يواجه محاكمة لاتهامه بالتهرب الضريبي وغسل أموال.

تنازلات بالجملة

في العالية، أحد معاقل حزب النهضة داخل واحدة من المناطق، التي شهدت تراجع شعبيته بشدة، حمل نشطاء الحزب القروي المسؤولية عن مشاكلهم. وفي هذا السياق، قال مهدي الحبيب عضو الحزب «لقد عمل (القروي) ثلاث سنوات مستهدفاً الفقر؛ وهو ما أدى إلى تراجع كل الأحزاب، وليس النهضة فقط».
وفي الأسبوع الماضي هاجم راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة، القروي خلال مؤتمر صحافي في معرض إبراز مزايا أي تحالف مستقبلي بين سعيد ونواب حزب النهضة.
ولفترة طويلة ظلت الانتخابات البرلمانية محور اهتمام حزب النهضة؛ لأن الحزب الذي يحصل على أكبر عدد من المقاعد، يملك أفضل فرصة لاختيار رئيس الوزراء، وتشكيل الحكومة. في حين أن صلاحيات الرئيس تبقى محدودة نسبياً.
وقبل انتفاضة 2011 كان حزب النهضة محظوراً، لكن برز بعدها كأقوى الأحزاب، وكان خصومه يعتبرونه حزباً رجعياً وخطيراً، في حين رأى فيه أنصاره صوت الثورة. غير أن نصره الانتخابي في ذلك العام بـ1.5 مليون صوت (مثلت 37 في المائة من مجموع الأصوات) دفع العلمانيين في تونس للتصدي له، بعد أن أقلقتهم هجمات متطرفين إسلاميين، وما حدث في مصر عندما تولى «الإخوان» المسلمون الحكم.
ومع استقطاب ينذر بالخطر في البلاد، ومواجهة أزمة اقتصادية متسارعة، تبنى حزب النهضة مواقف اجتماعية معتدلة، وانضم إلى أحزاب علمانية في سلسلة من الائتلافات، التي حاولت معالجة الدين العام.
وقد رأت قيادات الحزب أن تلك القرارات ساعدت في تحاشي اضطرابات مماثلة لما صاحب صعود نجم الإخوان المسلمين وسقوطهم في مصر، وفي تفادي كارثة اقتصادية. غير أنه أضعف هوية الحزب، وربطه بسياسات حكومية لا تحظى بالقبول الشعبي.
بحلول 2014 انخفض نصيب «النهضة» من الأصوات في الانتخابات البرلمانية إلى 28 في المائة، أي بإجمالي 947 ألف صوت. وفي انتخابات الرئاسة الشهر الماضي حصل مرشحه على 12 في المائة فقط، بمجموع 434 ألف صوت.

قوى ثورية

في سوق العالية الأسبوعية، كان حزب النهضة واحداً من أحزاب عدة نصبت أكشاكاً، تنطلق منها الموسيقى والشعارات عبر مكبرات الصوت، ويتم من خلالها توزيع منشوراته. وبداخله وقفت مجموعة من الشبان، كان أفرادها من الناخبين السابقين لحزب النهضة، وهم يوزعون منشورات انتخابية لحزب جديد يركز على التنمية الزراعية.
يقول حسن المجوبي، الذي منح صوته لحزب النهضة في 2011، والذي لم يعد يؤيد الحزب لأسباب اقتصادية: «النهضة لم يلتزم بوعوده».
والأسبوع الماضي استقال زبير شودي، أحد قيادات النهضة، ودعا الغنوشي إلى التنحي أيضاً، وهو ما يؤكد عمق الانقسامات الداخلية داخل «النهضة». لكن رغم كل متاعبه، لا تزال النهضة أفضل الحركات السياسية في تونس تنظيماً؛ إذ تقف في مواجهة مجموعة من المنافسين دائمي التحول ولا يمكن الاعتماد عليهم، بحسب بعض المراقبين. كما أن أمام الحزب فرصة طيبة لاحتلال المركز الأول في الانتخابات البرلمانية الأحد المقبل؛ إذ تشير بعض الاستطلاعات إلى أنه يحظى مع حزب قلب تونس، الذي يتزعمه القروي، بأغلب التأييد.
والأسبوع الماضي، سعى الغنوشي إلى الاستفادة من الجو الشعبوي، فأقسم ألا يشارك في ائتلاف إلا مع «القوى الثورية» الأخرى، بعد الانتخابات. غير أنه قد لا يملك، حسب نتيجة الانتخابات، خيارا سوى اقتسام السلطة مع أحزاب علمانية في حكومة ستجد نفسها في مواجهة الخيارات المالية الصعبة، التي سادت في السنوات الأخيرة.
لكن في الوقت الراهن، يتخلى ناخبون عدة عن النهضة، من أمثال أمين، الذي يؤمن إيماناً قوياً بالسياسات الإسلامية، بحجة أنه يريد «رئيساً إسلامياً يلتزم بمبادئه».



القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
TT

القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)

تراهن الحكومة المصرية على القطن المشهور بجودته، لاستنهاض صناعة الغزل والنسيج وتصدير منتجاتها إلى الخارج، لكن رهانها يواجه تحديات عدة في ظل تراجع المساحات المزروعة من «الذهب الأبيض»، وانخفاض مؤشرات زيادتها قريباً.

ويمتاز القطن المصري بأنه طويل التيلة، وتزرعه دول محدودة حول العالم، حيث يُستخدم في صناعة الأقمشة الفاخرة. وقد ذاع صيته عالمياً منذ القرن التاسع عشر، حتى أن بعض دور الأزياء السويسرية كانت تعتمد عليه بشكل أساسي، حسب كتاب «سبع خواجات - سير رواد الصناعة الأجانب في مصر»، للكاتب مصطفى عبيد.

ولم يكن القطن بالنسبة لمصر مجرد محصول، بل «وقود» لصناعة الغزل والنسيج، «التي مثلت 40 في المائة من قوة الاقتصاد المصري في مرحلة ما، قبل أن تتهاوى وتصل إلى ما بين 2.5 و3 في المائة حالياً»، حسب رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، الذي أكد عناية الدولة باستنهاض هذه الصناعة مجدداً، خلال مؤتمر صحافي من داخل مصنع غزل «1» في مدينة المحلة 28 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

أشار مدبولي، حسب ما نقله بيان مجلس الوزراء، إلى أن مشروع «إحياء الأصول» في الغزل والنسيج يتكلف 56 مليار جنيه (الدولار يعادل 50.7 جنيها مصري)، ويبدأ من حلج القطن، ثم تحويله غزلاً فنسيجاً أو قماشاً، ثم صبغه وتطويره حتى يصل إلى مُنتج سواء ملابس أو منسوجات، متطلعاً إلى أن ينتهي المشروع نهاية 2025 أو بداية 2026 على الأكثر.

وتكمن أهمية المشروع لمصر باعتباره مصدراً للدولار الذي تعاني الدولة من نقصه منذ سنوات؛ ما تسبب في أزمة اقتصادية دفعت الحكومة إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي؛ مرتين أولاهما عام 2016 ثم في 2023.

وبينما دعا مدبولي المزارعين إلى زيادة المساحة المزروعة من القطن، أراد أن يطمئن الذين خسروا من زراعته، أو هجروه لزراعة الذرة والموالح، قائلاً: «مع انتهاء تطوير هذه القلعة الصناعية العام المقبل، فسوف نحتاج إلى كل ما تتم زراعته في مصر لتشغيل تلك المصانع».

وتراجعت زراعة القطن في مصر خلال الفترة من 2000 إلى عام 2021 بنسبة 54 في المائة، من 518 ألفاً و33 فداناً، إلى 237 ألفاً و72 فداناً، حسب دراسة صادرة عن مركز البحوث الزراعية في أبريل (نيسان) الماضي.

وأرجعت الدراسة انكماش مساحته إلى مشكلات خاصة بمدخلات الإنتاج من بذور وتقاوٍ وأسمدة، بالإضافة إلى أزمات مرتبطة بالتسويق.

أزمات الفلاحين

سمع المزارع الستيني محمد سعد، وعود رئيس الوزراء من شاشة تليفزيون منزله في محافظة الغربية (دلتا النيل)، لكنه ما زال قلقاً من زراعة القطن الموسم المقبل، الذي يبدأ في غضون 3 أشهر، تحديداً مارس (آذار) كل عام.

يقول لـ«الشرق الأوسط»: «زرعت قطناً الموسم الماضي، لكن التقاوي لم تثمر كما ينبغي... لو كنت أجَّرت الأرض لكسبت أكثر دون عناء». وأشار إلى أنه قرر الموسم المقبل زراعة ذرة أو موالح بدلاً منه.

نقيب الفلاحين المصري حسين أبو صدام (صفحته بفيسبوك)

على بعد مئات الكيلومترات، في محافظة المنيا (جنوب مصر)، زرع نقيب الفلاحين حسين أبو صدام، القطن وكان أفضل حظاً من سعد، فأزهر محصوله، وحصده مع غيره من المزارعين بقريته في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لكن أزمة أخرى خيَّبت أملهم، متوقعاً أن تتراجع زراعة القطن الموسم المقبل مقارنة بالماضي (2024)، الذي بلغت المساحة المزروعة فيه 311 ألف فدان.

تتلخص الأزمة التي شرحها أبو صدام لـ«الشرق الأوسط» في التسويق، قائلاً إن «المحصول تراكم لدى الفلاحين شهوراً عدة؛ لرفض التجار شراءه وفق سعر الضمان الذي سبق وحدَّدته الحكومة لتشجيع الفلاح على زراعة القطن وزيادة المحصول».

ويوضح أن سعر الضمان هو سعر متغير تحدده الحكومة للفلاح قبل أو خلال الموسم الزراعي، وتضمن به ألا يبيع القنطار (وحدة قياس تساوي 100 كيلوغرام) بأقل منه، ويمكن أن يزيد السعر حسب المزايدات التي تقيمها الحكومة لعرض القطن على التجار.

وكان سعر الضمان الموسم الماضي 10 آلاف جنيه، لمحصول القطن من الوجه القبلي، و12 ألف جنيه للمحصول من الوجه البحري «الأعلى جودة». لكن رياح القطن لم تجرِ كما تشتهي سفن الحكومة، حيث انخفضت قيمة القطن المصري عالمياً في السوق، وأرجع نقيب الفلاحين ذلك إلى «الأزمات الإقليمية وتراجع الطلب عليه».

ويحدّد رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن التابع لوزارة الزراعة، الدكتور مصطفى عمارة، فارق سعر الضمان عن سعر السوق بنحو ألفي جنيه؛ ما نتج منه عزوف من التجار عن الشراء.

وأكد عمارة أن الدولة تدخلت واشترت جزءاً من المحصول، وحاولت التيسير على التجار لشراء الجزء المتبقي، مقابل أن تعوض هي الفلاح عن الفارق، لكن التجار تراجعوا؛ ما عمق الأزمة في السوق.

يتفق معه نقيب الفلاحين، مؤكداً أن مزارعي القطن يتعرضون لخسارة مستمرة «سواء في المحصول نفسه أو في عدم حصول الفلاح على أمواله؛ ما جعل كثيرين يسخطون وينون عدم تكرار التجربة».

د. مصطفى عمارة رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية (مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار المصري)

فرصة ثانية

يتفق المزارع ونقيب الفلاحين والمسؤول في مركز أبحاث القطن، على أن الحكومة أمامها تحدٍ صعب، لكنه ليس مستحيلاً كي تحافظ على مساحة القطن المزروعة وزيادتها.

أول مفاتيح الحل سرعة استيعاب أزمة الموسم الماضي وشراء المحصول من الفلاحين، ثم إعلان سعر ضمان مجزٍ قبل موسم الزراعة بفترة كافية، وتوفير التقاوي والأسمدة، والأهم الذي أكد عليه المزارع من الغربية محمد سعد، هو عودة نظام الإشراف والمراقبة والعناية بمنظومة زراعة القطن.

ويحذر رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن من هجران الفلاحين لزراعة القطن، قائلاً: «لو فلاح القطن هجره فـلن نعوضه».

أنواع جديدة

يشير رئيس غرفة الصناعات النسيجية في اتحاد الصناعات محمد المرشدي، إلى حاجة مصر ليس فقط إلى إقناع الفلاحين بزراعة القطن، لكن أيضاً إلى تعدد أنواعه، موضحاً لـ«الشرق الأوسط» أن القطن طويل التيلة رغم تميزه الشديد، لكن نسبة دخوله في المنسوجات عالمياً قليلة ولا تقارن بالقطن قصير التيلة.

ويؤكد المسؤول في معهد بحوث القطن أنهم استنبطوا بالفعل الكثير من الأنواع الجديدة، وأن خطة الدولة للنهوض بصناعة القطن تبدأ من الزراعة، متمنياً أن يقتنع الفلاح ويساعدهم فيها.