مدن سعيدة... وأخرى منكسرة

ميزان القوة بين الزائر والمكان

دمشق القديمة
دمشق القديمة
TT

مدن سعيدة... وأخرى منكسرة

دمشق القديمة
دمشق القديمة

لا أحب المدن المنكسرة، ولا تلك المتباهية. فهما تنطويان على ثقل يبدد خفة السفر ويطفئ بهجته.
دمشق، مثلاً، كانت فردوساً جميلاً بأناقة أرواح سكانها، بطعامها، بعمارتها القديمة، لكن رائحة الخوف تثقل هواء ذلك الفردوس. كان عليك أن تخفض صوتك إذا أبديت ملاحظة بسيطة، وربما تجد نفسك في محل ريبة دون أن تقول شيئا، لمجرد أنك صحافي. وكان من الممكن أن يداهمك الحزن، لا بسبب أذى يمسك شخصياً، بل لرؤية العدوان يقع على آخرين ليس بوسعك أن تمد لهم يد العون.
للأسف، تبدد الفردوس وبقي الخوف. انتفض الناس ضده؛ ففقدت المدينة ما يحبونها لأجل، بينما تضاعف الخوف حتى صار خيمة سميكة تُغلِّف ما تبقى من المدينة. وربما سيجعلك هذا الألم تختنق بالبكاء علناً في مدينة سعيدة، عندما تقاطعك سيدة «تبعثون إلينا بمهاجرين يبددون اطمئناننا ويأخذون وظائفنا» وتضطر لذكر فراديسنا المفقودة، وتغص بكلمة دمشق عندما تنطقها لتقول للسيدة: «بلادنا أيضاً جميلة، وأنتم ساهمتم في تدميرها».
روما، مدينة حرة، تضغط على سكانها بطريقة أخرى: بالبذخ! جمالها متفاخر. فخامة العمارة، كرنفال الألوان في الملابس والورود والمطعم الغني، تجعل زائرها مبهوتاً محسوراً مثل كافر أرى المعجزة بعد أوان الاستغفار.
لم أكن أول من اكتشف أن روما تجبر زائرها على السير مرفوع الرأس؛ لكن هذه الوضعية لا تعني تفاخر الزائر وغروره، بل على العكس. المدينة تجبره على ذلك الانتباه ليتأمل جمالها الذي ينثر بهجة سريعة الزوال ويُخلِّفُ ندبة في القلب.
لو كان لي أن أختار موطناً لما يتبقى من حياتي فهو فيرونا. في أي بيت على بعد من كليشيه فيللا جوليت. جمال فيرونا متواضع وقريب من القلب، وطعامها مصنوع بحب، والقمر قريب جداً، يمكن أن تلمسه من مكانك في الشرفة.
أفترض أن دمشق وروما ليستا المثالين الوحيدين اللذين يرهبان زائرهما بصنعة القوة أو صنعة الجمال، ولا أظن أنني المسافر الوحيد الذي أحسهما على هذا النحو؛ لأن مبدأ القوة يسري على علاقة الإنسان بالمكان الذي يزوره.
من أنت؟ من أين جئت؟ وأين تقف؟ أسئلة تحدد موازين القوة بينك وبين وجهات السفر.
في مدن الشمال الواثقة من نفسها يبدو الغرباء الجنوبيون أكثر هشاشة ويرون أنهم غير جديرين بها، والعكس بالعكس؛ فالصلافة الاستعراضية أبرز سمات الزائرين الشماليين الذين يتصرف الكثير منهم وكأنهم مُلاَّك المدن الجنوبية المنكسرة.
أفكر الآن بثلاث رحلات كبرى: رحلة رفاعة رافع الطهطاوي، مؤذن أول بعثة تعليمية إلى باريس الذي كتب «تخليص الإبريز في تلخيص باريس» ورحلة جوستاف فلوبير إلى مصر والشرق ورحلة نيكوس كازانتزاكيس إلى مصر.
رأى الطهطاوي في باريس وبشرها قدوة، نقل متعجباً عادات المائدة، بل ومن النظافة الشخصية، ومن عادة النوم «على شيء مرتفع، نحو سرير».
كان أمامه في باريس التي سافر إليها عام 1826 مشردون ليس بوسعهم أن يجلسوا إلى مائدة، أو يناموا على سرير. يسرقون طعامهم من الأسواق أو يلتمسون الفضلات في القمامة. وكان بها أشكال من الانحراف تأباها القاهرة، ولكنه كان حيياً عند وصف ما لم يُعجبه، أو في إبداء ملحوظة لا تناسب سلوكاً معيناً مع تقاليد الإسلام.
أدوات المائدة وتقاليد الطعام، التي أعجبته عرفها المصري واليمني والعراقي قبل آلاف السنوات من رحلته، وكانت موجودة في بيوت المصريين الموسرين في زمنه وقبل زمنه.
استناداً إلى الوثائق المختلفة وعقود العقارات وكتب الأدب رسمت نيللي حنا صورة حياة الطبقة الوسطى المصرية في القرون الـ16 و17 و18 وقد كانت طبقة واسعة تضم نحو ثلث سكان المجتمعات الحضرية، من كبار التجار والعسكريين والعلماء ورجال التعليم. لكن الطهطاوي لم يكن من تلك الطبقة عندما سافر لكي يعرف كيف تعيش، ولم يذهب مسلحاً بتاريخ وثقافة مصر الفرعونية وعاداتها، رغم ما يبدو في كتابه من اطلاعه على تاريخ علوم الدولة الإسلامية.
فلوبير، جاء إلى القاهرة بعد ثلاثة وعشرين عاما من ذهاب الطهطاوي إلى باريس، جاء بمنطلقات غير التي ذهب بها الطهطاوي. جاءنا غازياً مغامراً، يتسقط الغرابة، ويتصيد أخبار بائعات الهوى والمشردين والشواذ ويضيف على نوادرهم من خياله، دونما استعداد لتفهم المكان في لحظة من تاريخه.
نيكوس كازانتزاكيس جاء إلى القاهرة عام 1929 وبخلاف الاثنين فقد انتقل من بلد إلى آخر مكافئ له. لا اليونان دولة استعمارية ولا مصر، ولهما ماض عريق وحاضر يأمل بالنهوض.
كان فلاسفة أثينا يُنظِّرون للطبيعة وأساليب الحكم وما وراء الطبيعة عندما لم تكن فرنسا شيئا، كما أنه يدرك تماماً أن حضارة بلاده كانت حلقة تالية للحضارة المصرية، لذلك فقد رأى في القاهرة نداً. ومن الواضح أنه جاء متسلحاً بالتاريخ الفرعوني ونصوصه الأدبية والدينية، مكلفاً من صحيفة، ولم يكن لينتظر حتى يتهجى المكان بعشوائية بعد وصوله.
رأى الواقع على حاله، وبحث عن السبب الثقافي والاجتماعي الكامن في الظواهر السلبية؛ فهو، على سبيل المثال، يسوق ملاحظة عن عدم توق المصريين للحرية، ويعللها بأنهم مشغولون بمحاولة الفوز بالحياة الأخرى، ومن ثم يريدون العبور إليها بجسد سليم لم يتعرض للأذى في ثورات احتجاج.
وثمَّن كازانتزاكيس كفاح المصري لصنع الحياة في شريط ضيق تتربص به الصحراء كنمر شرس واثق من النصر. وأخذ يستشهد في رحلته بشعر أحمد شوقي، ويلتقي بالناس ويستمع إليهم؛ فالمصريون بالنسبة له ليسوا لاعبين في سيرك ولا كائنات للفُرجة.
بعد أن قام برحلته إلى الماضي زار فيها الآثار من الأهرام حتى معابد ومقابر الأقصر، يكتب: «لقد عدت إلى القاهرة، القلب النابض بالحيوية في مصر الحديثة، وكنت أنطلق من الصباح إلى المساء لأرى رجال المال ورجال السياسة، ورجال الصحافة المثقفين. إنهم رجال متحمسون، ماكرون، وطنيون وماهرون في التحايل، وقد حاولت أن أطلع على الأمور بقدر ما أستطيع. ما هي الدوافع التي يتذرعون بها لإعادة انبعاث مصر الحديثة؟».
من المؤكد أن الاختلافات الشخصية بين المسافرين من حيث تكوينهم النفسي والثقافي موجودة، لكن ميزان القوة بين الزائر والمكان موجود كذلك.



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟