«الداعشيات»... ماضٍ مظلم ومستقبل مجهول

عدد الأجنبيات من روسيا والدول الغربية يفوق كثيراً قريناتهن العرب

متهمات بالانضمام إلى {داعش} مع أطفالهن في مخيم الهول (أ.ف.ب)
متهمات بالانضمام إلى {داعش} مع أطفالهن في مخيم الهول (أ.ف.ب)
TT

«الداعشيات»... ماضٍ مظلم ومستقبل مجهول

متهمات بالانضمام إلى {داعش} مع أطفالهن في مخيم الهول (أ.ف.ب)
متهمات بالانضمام إلى {داعش} مع أطفالهن في مخيم الهول (أ.ف.ب)

هناك من النساء من هربن من بلادهن وانضممن إلى صفوف تنظيم «داعش» في سوريا والعراق بمحض إرادتهن لاقتناعهن بآيديولوجيته وأهدافه ومبرراته، أو تم استدراجهن والتلاعب بعواطفهن. وكثيرات منهن كن عند استدراجهن في سن صغيرة. إضافةً إلى ذلك، هناك أيضاً مَن سافرن مع أزواجهن أو التحقن بهم في سوريا عبر تركيا بعد أن خدعوهن ولم يكنّ يعلمن الهدف الحقيقي من السفر وأنهم أصبحوا من المتطرفين «الدواعش».

أما النساء المنتميات إلى المناطق نفسها التي كانت تحت سيطرة تنظيم «داعش» في سوريا والعراق، فمنهن مَن تزوجن مسلحي «داعش» الأجانب برضاهن أو قسراً ثم طُلقن أو ترمّلن. والآن كل هؤلاء يُقِمن مع أطفالهن في مخيمات في أوضاع معيشية بائسة في ظروف لا يمكن تحملها، وهن في الآن ذاته لا يستطعن العودة إلى بلدانهن.
وفي مخيم «الهول» شمال شرقي سوريا، الذي بات ملاذاً آمناً للفارّين من مناطق التنظيم سابقاً في سوريا والعراق، يوجد اليوم نحو 72 ألف نازح ولاجئ، 90% منهم نساء وأطفال، حسب المسؤولين عن المخيم. وتُعَد نسبة العراقيين الأعلى من بين القاطنين، حيث يعيش 30875 ضمن 8746 عائلة، أما السوريون فيبلغ عددهم 30593 ويبلغ تعداد العائلات 8983.
تم تخصيص قسم خاص في المخيم للنساء الأجانب وأطفالهنّ المتحدرين من دول غربية وعربية ويبلغ عددهم نحو 10734، من بينهم 3177 امرأة بعضهن قاصرات، أما الباقي فأطفال دون سن الخامسة عشرة. ويخضع القسم لحراسة أمنية مشددّة، حيث يُمنع خروج ودخول النساء إلا بإذن خطّي من إدارة المخيم وبرفقة عناصر من قوى الأمن الداخلي. وتأتي روسيا على رأس القائمة من الأجانب ويبلغ عدد النساء مع أطفالهن 2010، تليها دول آسيا الوسطى بما مجموعه 2320، ثم دول أوروبية بـ1200، إضافة إلى عدد آخر من المنحدرين من أميركا وأستراليا.
أما عدد النساء العربيات المهاجرات وأطفالهنّ فهو 1453، عدا العراقيات، ويأتي المغرب على رأس القائمة ويبلغ تعداد النساء والأطفال منه 582، تليه مصر بـ377 امرأة وطفلاً، ثم تونس بـ251، بينما يبلغ تعداد النساء والأطفال من الجزائر 98 سيدة وطفلها، ومن الصومال 56، ومن لبنان 29، ومن السودان 24، ومن ليبيا 11، ومن فلسطين 8، والرقم نفسه من اليمن، إضافة إلى 9 من دول أخرى.
ومن الغريب أن نجد عدد الأجنبيات من روسيا وآسيا الوسطى والدول الغربية أكثر بكثير من اللاتي أتين من الدول العربية، وربما يعكس هذا أيضاً نسبة الدول التي يأتي منها المقاتلون الأجانب المنضمون لصفوف التنظيم. وقد تتشابه الأسباب التي أدت إلى انضمام النساء من هذه الدول ومن الدول العربية، مثل الإيمان بالآيديولوجية والمعاناة من القمع والجهل والفقر والتمييز والرضوخ لرغبة الزوج، ولكن لا تزال هناك تساؤلات حول تأثر هؤلاء النساء بفكر ودعاية «داعش» خارج نطاق محيطهن الاجتماعي العام العلماني أو المتحرر أو غير الإسلامي وكذلك الطريقة التي استطعن بها الوصول إلى سوريا من بلدانهن البعيدة.
وحتى الدول العربية التي يأتي معظم النساء منها، وغالباً الرجال أيضاً، لا تنطبق عليها الصورة النمطية للمجتمعات المسلمة المتشددة، بل العكس، هي دول معروف عنها الوسطية والاستقرار وتمكين المرأة. لذلك فإن تأثر هؤلاء النساء والرجال بالفكر المتطرف لا يمكن إرجاعه لعامل واحد فقط كالمناهج التعليمية أو المنابر الدينية أو وسائل التواصل الاجتماعي، وإنما يبدو أنها عوامل متعددة غذّى بعضها بعضاً، وقد يكون العامل الأسري والاقتصادي والنفسي المحرك الأقوى الذي تم استغلاله من جماعات منظمة لأهداف سياسية.
الآن فإن وضع هؤلاء النسوة وأطفالهن في مخيم «الهول» أقل ما يوصف به أنه كارثي. فالموجودون بحاجة ماسة إلى المساعدة، حيث تعرض القسم الأكبر منهم لفظائع وشهدوا حروباً ومشاهد موت فظيعة ومعاناة بدنية ونفسية. وهؤلاء يحتاجون إلى الأمان والمأوى والغذاء والرعاية الصحية والصرف الصحي، ويفتقر المخيم لمراكز صحية ومؤسسات تعليمية وترفيهية وإلى أبسط مقومات الحياة. ويفيد تقرير أعدته الأمم المتحدة بأن 126 قاصراً لقوا حتفهم في هذا المخيّم خلال الأشهر الأولى من هذا العام بسبب المرض أو سوء التغذية أو نتيجة إصابات تعذّرت معالجتها، وأن نحو 40 ألف طفل تتراوح أعمارهم بين السادسة والثانية عشرة يعيشون في ظروف مأساوية ولا يعرف أحد ماذا ينتظرهم.
وبطبيعة الحال، يبقى الأطفال الضحية الكبرى في هذا كله. ما مصيرهم؟ آباؤهم «الداعشيون» إما قُتلوا وإما اعتُقلوا وإما لا يعرف أحد مكان وجودهم ولا ما إذا كانوا أحياء أم في عداد الأموات. وفي بعض الحالات يكون الأب مجهولاً لأن الأم لا تعرف الاسم الحقيقي لزوجها. وقد بدأ بعض الحكومات بتسلم عدد بسيط من رعاياها الأطفال من عائلات مقاتلي تنظيم «داعش» الموجودين في مخيم «الهول» مثل ألمانيا والدنمارك وهولندا والنرويج والولايات المتحدة الأميركية وبلجيكا وأستراليا وروسيا وفرنسا. وأشارت التقارير إلى أن دول آسيا الوسطى الأعلى استعادةً لمواطنيها من نساء وأطفال مثل أوزباكستان وكازاخستان. أما الدول العربية فإن المغرب والسودان هما الوحيدان اللذان يبدو أنهما تسلما عدداً قليلاً من رعاياهما. وبلغ مجموع النساء اللاتي عدن إلى بلدانهن الأصلية من الجنسيات الأجنبية 319 سيدة مهاجرة مع طفلها، إضافة إلى الأطفال اليتامى الذين قُتل والداهم جراء المعارك في سوريا.
أما العراقيات فمنذ بداية العام الحالي، توقفت رحلات إعادة العراقيات الراغبات بالعودة إلى مناطقهن لأسباب تتعلق بالجانب العراقي، حسب المسؤولين عن المخيم. وفي سوريا تدخل شيوخ ووجهاء عشائر عربية وطالبوا بالسماح بإخراج النساء السوريات برفقة أطفالهن، لا سيما المتحدرات من مناطق الإدارة الذاتية في شمال سوريا وشرقها، وبدأ العمل بنظام «الكفالة» قبل العيد الماضي، وإخراجهن على دفعات. كما يوجد نساء وأطفال لدى دوائر الإصلاح العراقية وإقليم كردستان يقدر عددهم بنحو 1500 طفل بشبهة الانتماء إلى تنظيم «داعش»، بينهم 185 أجنبياً على الأقل أُدينوا بتهم متصلة بالإرهاب. وقد أشار بيان للخارجية العراقية شهر يوليو (تموز) الماضي، إلى أنها شاركت في عدد من عمليات ترحيل الأطفال من مختلف الجنسيات، وعددهم 473. ومن هذه الجنسيات: الروسية، والطاجيكية، والأذرية، والألمانية، والفرنسية، والجورجية، والبيلاروسية، والفنلندية، والأوكرانية، والتركية.
التعامل مع نساء تنظيم «داعش» يختلف عن الرجال. فرغم أن بعضهن حملن السلاح وقمن بعمليات انتحارية وكن أعضاء فاعلات في عمليات التخطيط والإمداد ونقل المعلومات والتجنيد، يظل واقع الحال يقول إن معظم نساء هذا التنظيم القابعات في المخيمات هن ضحية ظروفهن الأسرية والحرب، ومع ذلك تتعامل معهن بلادهن بحذر وقلق شديدين وتخشى من عودتهن. ويقول مسؤولو الاستخبارات الأميركية، إن مخيم «الهول»، الذي يديره حلفاء أكراد سوريون بقليل من المساعدات والأمن، بات يتطور ليصبح بمثابة بؤرة جديدة لآيديولوجية تنظيم «داعش»، كما توصل تقييم حديث للأمم المتحدة إلى النتيجة نفسها، حيث أكد التقرير أن الأشخاص الذين يعيشون في «الهول»، «قد يشكّلون تهديداً إذا لم يتم التعامل معهم بشكل مناسب». وتشير هذه المعلومات إلى أن تنظيم «داعش» يصعد من جديد، وذلك ليس في العراق وسوريا فحسب، ولكن في أماكن أخرى من غرب أفريقيا إلى سيناء، وكذلك في أفغانستان.
الحقيقة أنها نبهت إلى أنه يجب أخذ تهديد الإرهاب النسائي على محمل الجد وإلى ضرورة معالجة الأسباب والدوافع من جذورها وتقييم وتشخيص تبعات انضمام النساء إلى الجماعات المتطرفة، سواء كان ذلك عن قناعة أو على نحو قسري وما نتج عن ذلك، لا سيما بالنسبة إلى الأطفال، على المستوى النفسي والاجتماعي والأمني والاقتصادي وكيفية التعامل معها. فما دامت البيئة التي أفرزت هذه الآيديولوجيا والعوامل التي ساعدت على نشرها ونموها موجودة فسيستمر ظهور المزيد من الحالات. ومن المهم إعادة تثقيف النساء بأمور دينهن وتأهيلهن نفسياً واجتماعياً وتمكينهن اقتصادياً ليصبحن أمهات صالحات لتربية أبنائهن بعيداً عن فكر وبيئة «داعش». وبالنظر إلى تأثير مواقع الإنترنت فإنه إضافةً إلى متابعتها وإغلاقها من الجهات المعنية يجب إجراء دراسة للمواقع لتحديد مدى جاذبيتها وأساليبها في الاستقطاب ولماذا يلجأ إليها هؤلاء. لقد شكّلت المناقشة بخصوص دور المرأة ذاتها في مكافحة الإرهاب أحد المحاور الرئيسية في الاجتماع الوزاري التشاوري بحضور خبراء من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي في القاهرة في شهر يونيو (حزيران) الماضي حول تمكين المرأة، والذي كان يهدف إلى بلورة ما يمكن أن تضطلع به منظمة تنمية المرأة التابعة للمنظمة من دور فور بدء نشاطاتها، والذي من المؤمل أن يكون العام القادم. وركزت النقاشات على التحديات التي تواجهها المجتمعات المعاصرة في مجال مكافحة التطرف، وأهمية إشراك المرأة في التدابير والاستراتيجيات التي تضعها الدول الأعضاء في المنظمة في هذا المجال.
وأكد الخبراء أن أسباب ودوافع انضمام النساء للجماعات المتطرفة ليست واحدة، وبالتالي لا يمكن التصدي لها باستراتيجية واحدة يتم تعميمها، إذ تجب مراعاة خصوصية كل منطقة وتنوعها السياسي والاجتماعي والثقافي، مشيرين، في الوقت ذاته، إلى أن هناك بعض الإجراءات والسياسات التي يمكن أن تتفق بخصوصها جميع الدول المعنية بهذه الظاهرة، ومنها على الخصوص زيادة التوعية حول وجود إرهاب نسائي وإمكانية تطرف النساء، بشكل ربما يضاهي أو يكون أكثر تشدداً من تطرف الرجل، إضافة إلى ضرورة توسيع دائرة المعنيين بمواجهة التطرف، وعلى رأسهم المرأة، من خلال تمكينها من القيام بدورها الاستباقي في منع ومواجهة علاماته التي يمكن أن تظهر على أبنائها ومحيطها الاجتماعي.


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.