زغاريد سودانية تختتم فعاليات مهرجان الجونة السينمائي

«ستموت في العشرين» يتوج بالذهبية... وهند صبري وهنيدي بين المكرمين

المخرج السوداني أمجد أبو العلاء وفريق عمله لدى فوزه بجائزة «الجونة الذهبية» عن فيلمه «ستموت في العشرين» (أ.ف.ب)
المخرج السوداني أمجد أبو العلاء وفريق عمله لدى فوزه بجائزة «الجونة الذهبية» عن فيلمه «ستموت في العشرين» (أ.ف.ب)
TT

زغاريد سودانية تختتم فعاليات مهرجان الجونة السينمائي

المخرج السوداني أمجد أبو العلاء وفريق عمله لدى فوزه بجائزة «الجونة الذهبية» عن فيلمه «ستموت في العشرين» (أ.ف.ب)
المخرج السوداني أمجد أبو العلاء وفريق عمله لدى فوزه بجائزة «الجونة الذهبية» عن فيلمه «ستموت في العشرين» (أ.ف.ب)

لم تتمالك الممثلات السودانيات فرحتهن بالفوز الكبير في ختام «مهرجان الجونة السينمائي» في مصر، فأطلقن الزغاريد على المسرح ابتهاجاً بالتفوق الكبير للسينما السودانية التي حصدت جائزتين ذهبيتين، الأولى «جائزة الجونة الذهبية» لأفضل فيلم روائي طويل ونالها «ستموت في العشرين» للمخرج أمجد أبو العلاء وقيمتها خمسون ألف دولار، وجائزة «الجونة الذهبية» لأفضل فيلم وثائقي واقتنصها «حديث عن الأشجار» للمخرج صهيب قسم الباري، وقيمتها ثلاثون ألف دولار لتكون ليلة الختام سودانية بامتياز.
تصفيق تواصل لدقائق من الحضور في حفل ختام الدورة الثالثة لمهرجان الجونة السينمائي، مساء أول من أمس، إعلان فوز السينما السودانية، وأهدى المخرج صهيب قسم الباري جائزته إلى والدته فاطمة عبد الوهاب التي كانت تؤمن المادة المصورة عند خالته حتى إذا فُتش منزلهم «في عهد البشير» لا تُصادر المشاهد المصورة، كما أهداها إلى والده وشقيقه الذي حلم بفوزه في المهرجان، وسكان الحارة الرابعة الذين صور فيلمه بينهم، ولأبطال فيلمه الأربعة، فيما أهدى المخرج أمجد أبو العلاء جائزته «لكل من آمن أنه من الممكن أن تعود السينما في السودان، وإلى الناقد الراحل بشار إبراهيم أول من قرأ السيناريو وهو مريض وإلى كل المشاركين بالفيلم الذين دعاهم للصعود على خشبة المسرح، فضلاً عن بلده وأهله في السودان».
وبعد انتهاء توزيع الجوائز هنأ المخرجان أمجد وصهيب بعضهما بهذا النجاح، وقال صهيب في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»: «منذ وقت قريب كنت كلما أخبرت أي سوداني أنني مخرج سينمائي يتساءل بسخرية، وهل هناك سينما في السودان؟ ثم جاءت هذه اللحظة العجيبة التي يصعب استيعابها، ففي ظل الغياب الطويل للسينما على مدار ثلاثين عاماً، حدثت لحظة التحول بهذا النجاح فألقت علينا مسؤولية جسيمة، لقد شاهدت فيلم أمجد للمرة الأولى خلال المهرجان وهو فيلم عظيم واجتهد فيه كثيراً، أتمنى أن مبادراتنا الفردية تفتح الباب أمام كافة السينمائيين السودانيين».
من جهته، تحدث المخرج السوداني الكبير، إبراهيم شديد أحد أبطال فيلم «حديث عن الأشجار» قائلاً: «لقد جاء نجاحنا مفاجئاً للبعض، لكنه ليس مفاجئاً لنا لأن السينما السودانية ذات تاريخ طويل، لكنها لم تجد اهتماماً من الدولة، ولولا مساعدة جهات إنتاجية دولية ما ظهرت هذه الأفلام، ولكن نأمل أن يشجع القطاع الخاص في السودان على العودة للإنتاج السينمائي».
وعبر المخرج المصري عمر عبد العزيز «رئيس اتحاد النقابات الفنية» عن فرحته بفوز الفيلمين السودانيين وقال في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»: «إنا منبهر بالفيلمين الوثائقي والروائي، وكفاح السينمائيين السودانيين الذين أعادوا السينما في الوقت الذي لم يعد بالسودان دار عرض واحدة».
- دموع هند صبري
وفازت هند صبري بجائزة أفضل ممثلة عن دورها في الفيلم التونسي «حلم نورا»، وبكت وهي تقول: «هي جائزة من بلدي لبلدي، وأشكر هند بوجمعة أنها لم تخف من الاستعانة بي لأن الممثل حينما يحقق نجاحاً يخاف منه صناع السينما المستقلة، كما أشكر زوجي»، ووجهت حديثها إليه قائلة: «من دونك لم أكن سأحقق شيئاً»، كما وجهت شكرها لوالدتها والمخرج مروان حامد وطفلتيها علياء وليلى.
وأعرب السينارست تامر حبيب في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، عن سعادته «الكبيرة» بفوز هند صبري، وقال: «كنت على ثقة من فوزها، فهذا أجمل دور قدمته في حياتها، وهي ممثلة كبيرة وتستحق الجائزة، لقد ظهرت مختلفة تماماً عن كافة أدوارها فهي جريئة، وأم لثلاثة أولاد كبار، وقد أخلصت تماماً للشخصية».
- نصيب الأسد
وكان للسينما العربية نصيب الأسد من جوائز الدورة الثالثة لمهرجان الجونة، إذ فاز الفيلم المغربي «آدم»، بجائزة الجونة البرونزية لأفضل فيلم روائي طويل وقيمتها 15 ألف دولار، بينما فاز الفيلم الجزائري «بابيشا» بجائزة نجمة الجونة لأفضل فيلم عربي طويل للمخرجة مونية مندور، كما نال الفيلم اللبناني «1982» جائزة «الاتحاد الدولي لنقاد السينما» (فيبرسي)، بينما ذهبت جائزة نجمة الجونة الفضية لأفضل فيلم لـ«عيد القربان» وهو إنتاج بولندي فرنسي، كما فاز بطله بارتوش بيلينا بجائزة أفضل ممثل، وكان المخرج خيري بشارة رئيس لجنة التحكيم قد أكد على إعجابه بمستوى أفلام المسابقة، كما أعلن المخرج مروان حامد جوائز الأفلام القصيرة والمخرج موسى توريه جوائز الأفلام التسجيلية الطويلة، ومنحت لجنة تحكيم نتباك «شبكة تعزيز السينما الآسيوية» جائزتها للفيلم الوثائقي «كابل... مدينة في الريح»، فيما منح الجمهور الفيلم الفرنسي «البؤساء» جائزة سينما من أجل الإنسانية.
- تكريم هنيدي
وشهد حفل الختام تكريم الفنان محمد هنيدي ومنحه جائزة الإنجاز الإبداعي، وقد عُرض له فيلم قصير عن مشواره الفني تضمن شهادات لبعض زملائه وأصدقائه كما كان في استقباله على المسرح مؤسس المهرجان رجل الأعمال نجيب ساويرس الذي أشاد بموهبة هنيدي كنجم كوميدي، كما جاء الفنان أحمد السقا خصيصاً ليقدم له درع التكريم، وقال هنيدي: «تمنيت زمان أشياء تشبه أغنية كمننا وأعطاني الله أكثر مما تمنيت».


مقالات ذات صلة

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)
يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)