ليوناردو ديكابريو لـ«الشرق الأوسط»: لو لم أولد في هوليوود لما أصبحت ممثلاً

الممثل الأميركي يأمل أن تأتي إدارة جديدة تعي مخاطر المتغيرات البيئية

إلى اليسار مع براد بت في «ذات مرة في هوليوود»
إلى اليسار مع براد بت في «ذات مرة في هوليوود»
TT

ليوناردو ديكابريو لـ«الشرق الأوسط»: لو لم أولد في هوليوود لما أصبحت ممثلاً

إلى اليسار مع براد بت في «ذات مرة في هوليوود»
إلى اليسار مع براد بت في «ذات مرة في هوليوود»

المرة الأخيرة التي التقينا فيها مع ليوناردو ديكابريو كانت في أعقاب فيلم «المنبعث» (The Revenant) سنة 2015 والكثير من الأفلام مرت من تحت وفوق جسر الزمن من ذلك الحين.
ليوناردو ديكابريو أنجز كممثل وكمنتج في السنوات الأربع الأخيرة ثلاثة عشر مشروعاً آخرها «ذات مرّة في الغرب» الذي يجمعه مع براد بت تحت مظلة كونتِن تارنتينو مخرجاً، وهو الفيلم الذي عُرض بنجاح كبير في الدورة الأخيرة من مهرجان «كان».
يلعب ريك في هذا الفيلم شخصية ممثل كان نجماً وبدأ يهوي. عند مرحلة مبكرة من الفيلم يدرك تماماً أن مكانته السابقة لم تعد له، وأن استمراره يفرض عليه التراجع من بطولات الأفلام إلى تمثيل أدوار الشر في بعض المسلسلات، وما تيسر من أفلام. يقول في حديثه هنا إن تلك الشخصية لا تمثله، لكنه يفهمها تماماً. هذا حدث مع ممثلين آخرين وما زال يحدث دائماً. لكن ما يلفت النظر هو أن أداءه جسد هذا الخطر عليه حتى وإن كان الواقع الذي يعيشه مختلفاً عن الواقع المفترض على الشاشة.
الفيلم المذكور كان فرصة للظهور مع براد بت الذي لعب النصف الثاني من البطولة. هو، في الفيلم «الدوبلير» الذي يقوم بتنفيذ المهام الصعبة والخطرة عوض الشخصية التي يؤديها ديكابريو، وبذلك يضمن الفيلم متعة مشاهدة ممثلين، كل بأسلوب أداء مختلف وإلقاء مسلكي متباين ويجدهما صنوين متساويين في الموهبة والحضور.
> الشخصية التي تؤديها في «ذات مرة في هوليوود» هي لممثل يودّع سنوات شهرته ويقبل بما هو متاح له من أدوار في مشاريع ثانوية أو صغيرة. هل ينتابك أي قلق من أن يحدث ذلك معك في الواقع؟
- رغم أن مهنتي توجهت منذ البداية في سبيل مختلف عن السبيل الذي توجهت إليه شخصية ريك، فإنه لا شيء يمنع من أن أفكر بأن هذه الشخصية تتصل بي مباشرة. هو شخص من داخل الصناعة التي أوهمته بأنه شخصية دائمة الحضور ليكتشف أن الثقافة الاجتماعية والتطوّرات التي صاحبت الصناعة تجاوزتاه وهذا مصدر التهديد الذي يواجهه. علاقة تلك الشخصية بي، بالتالي، هي أنني أدركت تماماً ما تمر به من مخاوف رغم اختلافها عني وعن مسيرتي.
> هل كان في بالك شخصية ممثل آخر عندما بدأت التحضير للدور؟
- المثير في (المخرج) كوينتن تارنتينو هو أنه «سينيفيلي» كامل. يعرف كل شيء عن أفلام B (أفلام ذات ميزانيات وعناصر إنتاج صغيرة) على عكسي فأنا لا أعرف شيئاً عنها. لم أتابعها. لكن بفضل معلوماته استطعت أن أبحث وأدرك عما يتحدث عنه وما رؤيته وتأثير تلك الأفلام عليه. أدركت أن هناك العديد من الممثلين الجيدين الذين مرّوا بالحالة ذاتها التي تمر بها شخصية ريك مثل تاي هاردن وإد بيرنز وويليام شاتنر. ثم هناك المدعو رالف ميكر الذي كان إلهامي الفعلي. ميكر لم أتعرف عليه سابقاً، لكنني تابعت أفلامه قبل تصوير هذا الفيلم ووجدته بارعاً قام بأداءات مدهشة. كونتن يعتبره أحد أفضل ممثلي السينما.
> لكن هل مررت بفترة، ولو وجيزة، طرحت على نفسك أسئلة سببها عدم رضاك عما تقوم به؟
- أعتقد كل ممثل أعرفه مر بمثل هذه اللحظات. لكن أغلبنا يعرف كيف يتجاوزها سريعاً. أعرف ممثلاً فوجئ بأن الفيلم الذي اعتقد أنه سيربح به ما خسره من نجاح سقط بدوره. لكنه لم يسقط بفعله بل انتقل للعمل في فيلم آخر واستعاد مكانته. يحدث ذلك معنا من حين لآخر، خصوصاً إذا ما صرفت الجهد والوقت على فيلم ما ولم تكن النتيجة جيدة على الشاشة أو مقبولة لدى الجمهور.
> جلست قبل أشهر، خلال مهرجان «كان» مع براد بت وتحدث عنك بإعجاب شديد. قال إن وجودكما معاً هو تكامل فني لجانب أنه أيضاً صداقة. كيف وجدت بت حين عملت معه في هذه المرّة الأولى بينكما؟
- نعم. ما قاله صحيح جداً. أعتقد أننا تشاركنا في فهم الفيلم وفهم المدينة وفهم الفترة الزمنية التي تقع فيها الأحداث (سنة 1969). كوننا بدأنا التمثيل في فترة زمنية متقاربة (التسعينات) جعلنا قادرين على فهم ما يحاول الفيلم الحديث فيه والتعليق عليه. كان لا بد لنا أن نلم بالقصة الخلفية للحكاية وساعدنا المخرج في هذه المهمّة التي من دونها لم نكن لنستطيع هضم بيئتها وطبيعتها. لذلك عندما وصلنا إلى اليوم الأول من التصوير كان كل شيء عندنا جاهزاً للتطبيق.
> كانت الصورة الذهنية للشخصيتين اللتين قمتما بتأديتهما مكتملة…
- وحاضرة لكي نجسدها. براد كان رائعاً والعمل معه كان عظيماً، خصوصاً أنه من الممثلين الذين سعوا للعمل مع مخرجين متميزين. ممثل رائع ومحترف مبهر وموهوب.
> لم يسبق لكما العمل معاً داخل فيلم واحد، لكنه كان أحد منتجي فيلم «المغادر» الذي مثلته أنت مع جاك نيكولسون وأخرجه مارتن سكورسيزي…
- صحيح. قبل ذلك اشتركنا في مسلسل تلفزيوني اسمه «آلام متنامية» (Growing Pains) لكن ليس في وقت واحد. هو بدأ على ما أظن مع ذلك البرنامج في أواخر الثمانينات وأنا مثلت فيه في مطلع التسعينات.
> يبقى «ذات مرة في هوليوود» فيلماً عن هوليوود بقدر ما هو فيلم عن ممثل ودوبليره، وما كاد أن يحدث لشارون تايت. من هنا، ما تعنيه هوليوود بالنسبة إليك؟
- تعني لي حياتي كلها. لقد ولدت وترعرعت في هوليوود. في الحقيقة السبب الوحيد في أنني ممثل يعود إلى أني ولدت في هوليوود. أعني أنني لو ولدت خارج هوليوود… في (ولاية) أيوا أو ميسوري لما فكرت مطلقاً في أن أحمل حقيبتي وأتوجه إلى هوليوود لكي أصبح ممثلاً.
> أعتقد أنك بدأت السعي للتمثيل عبر التجارب التي يقيمها المنتجون والمخرجون بحثاً عن الوجوه.
- نعم وبفضل والدتي التي كانت تأخذني إلى هذه المراسم وتنتظر معي وتأخذ الموعد التالي.
> لم يكن الأمر هيناً.
- لا. لم يكن هيناً بالمرّة.
> كيف تصف تجربتك الأخرى كمهتم بالبيئة والتحولات التي تتعرض لها؟ ما الذي تعلمته من حقائق حولها وكيف تتعامل والأرقام كونك أحد المتبرعين للمنظمات الراعية لمثل هذه النشاطات؟
- في الواقع لا أتعاطى مع الحسابات والمسائل التفصيلية بنفسي. لا يمكن لي أن أفعل ذلك وأقوم بعملي كمنتج أو كممثل. أنا مؤمن بأهمية هذا الدور وبواجبنا في الحفاظ على البيئة التي ورثناها وتحسينها لهذا أنا أشجع هذا النوع من النشاطات، لكن لدي موظف خاص لهذه الغاية هو من يتابع مثل هذه الأمور.
> هل أنت متفائل بالنسبة لمستقبل الأرض بيئياً؟
- من الصعب جداً أن تكون متفائلاً. لقد صرفت الكثير من حياتي على الموضوع وقمت بتأسيس المؤسسة التي تنصرف لهذه القضية. لكننا نعيش في عالم صعب وكل يوم هناك ما يعمل ضد البيئة وضد الإنسان والإنسانية عموماً. هذه أوقات عصيبة لم تمر بنا من قبل. آمل أن تأتي إدارة جديدة في أميركا تعي المخاطر الفعلية للمتغيرات البيئية الحاصلة. هناك لاعبون قلائل عليهم أن يفعلوا ما يجب فعله لإنقاذ البيئة. هناك أوروبا وهناك روسيا والصين والهند…
> هناك ذلك المشهد الذي تخونك فيه قدراتك الأدائية. تلقي الحوار مرة بعد مرة وترتكب أخطاء فيعاد التصوير وتشعر بالغضب نتيجة ذلك. هل حدث هذا معك؟
- كل ممثل أعرفه مرّ بهذا الوضع. مررت شخصياً بوضع مماثل. كنت مرهقاً ولم أحسن إلقاء الجملة التي كان علي إلقاؤها. تعثرت وخرج مني كلام غير مفهوم (يضحك). كنت أشبه بصبي المدرسة الذي يدخل الصف مرتدياً ملابسه الداخلية (يضحك). لمعلوماتك، هذا المشهد الذي تشير إليه لم يكن في السيناريو الأصلي. ابتكره كونتِن وأنا. في الفترة التي يقع فيها المشهد كان ريك على دراية بأن الأمور لا تمشي حسب ما يريد. مهنته لا تسير وفق ما يتمنى.
> «ذات مرّة في الغرب» يتناول حقبة شهد تيار الهيبيين. كنت تراهم في الشوارع والحدائق وكانت لهم حفلاتهم الموسيقية مثل «وودستوك». هل عشت هذه الأجواء وأنت صغير؟
- ولدت بعد خمس سنوات من أحداث الفيلم (1973) ووالداي كانا هيبيين. بالتالي، نعم عشت الفترة لكني سأحكي لك قصّة. لكي نصوّر الفيلم فرشنا شارع هوليوود بوليفارد بتصاميم وملامح الستينات لخمس «بلوكات» على جانبي الطريق. ألبسنا الممثلين ثياب تلك الفترة وطلبنا منهم التسكع في الشارع. المشهد موجود على الشاشة. لكن خلال التصوير كنت وبراد بت في السيارة وشاهدت والدي بينهم… قلت له: «هاي… هذا والدي هناك»، لم يصدقني، قلت له «هذا والدي بالفعل» فقال ساخراً: «جاء ليرتدي ملابس الهيبيين ويلعب دوراً كعابر… أليس كذلك؟». أكدت له أن ما يرتديه هو ما يرتديه كل يوم. لا أعرف إذا صدّقني أم لا. لكنه كان هناك في ذلك الشارع.
> شخصيتك في «ذات مرة في هوليوود» كان عليها أن تلجأ إلى إيطاليا لتعيد بعض نجاحها. في تلك الفترة كان الكثير من الممثلين يقومون بذلك وبينهم كلينت إيستوود.
- الاختلاف أن كلينت إيستوود لم يكن حقق نجاحاً كبيراً في السينما. هو ذهب إلى إيطاليا مباشرة من عمله التلفزيوني في «روهايد». شخصية ريك ذهبت مباشرة من السينما. لكن هناك تقاطع لأن الفترة التي تقع فيها أحداث الفيلم شهدت إعادة ولادة العديد من الممثلين الذين بنوا استمرارهم في هوليوود على التمثيل في أفلام إيطالية.
> على ذكر كلينت إيستوود تقوم بإنتاج فيلم من إخراجه. أليس كذلك؟
- نعم. «أنشودة رتشارد جيووَل» عن شخص أنقذ العشرات في حادثة إرهابية لكن الناس اعتقدت أنه أحد الإرهابيين.
> ما رأيك بتجربة إيستوود السينمائية كممثل وكمنتج؟
- هو مثل أعلى بلا ريب. لا أكتشف جديداً عندما أقول إنه أيقونة وآخر الهوليووديين القدامى، والمثير أنه ما زال يحقق الأفلام بنشاط. شاهدت له كل فيلم تقريباً وبعضها أكثر من مرة، وفي كل مرّة يعجبني أكثر كممثل ويعجبني أيضاً كمنتج. إنه بطل أميركي.


مقالات ذات صلة

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

سينما المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

ماذا تفعل لو أنك اكتشفت أن الشخص المتهم بجريمة قتل بريء، لكنك لا تستطيع إنقاذه لأنك أنت من ارتكبها؟ لو اعترفت لبرّأت المتهم لكنك ستحلّ مكانه في السجن

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
سينما من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)

شاشة الناقد: دراما نسوية

في فن صنع الأفلام ليس ضرورياً أن يتقن المخرج الواقع إذا ما كان يتعامل مع قصّة مؤلّفة وخيالية.

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)