شباب عراقيون يروون قصص نجاحهم في «تيداكس بغداد»

خراب الحروب والإرهاب حفزهم على الإبداع

جانب من فعاليات «تيداكس بغداد»
جانب من فعاليات «تيداكس بغداد»
TT

شباب عراقيون يروون قصص نجاحهم في «تيداكس بغداد»

جانب من فعاليات «تيداكس بغداد»
جانب من فعاليات «تيداكس بغداد»

قصص نجاح وابتكار ومثابرة، تروى على لسان أبطالها أمام جمهور عريض، معظمهم من الشباب المتحمس للحياة، تجمعوا في العاصمة العراقية بغداد في ثالث تجربة لمؤتمر «تيداكس» الذي يهدف إلى الترويج للأفكار الخلاقة التي تستحق النشر وتحدي الصعاب وإفادة الجميع منها، إضافة إلى خدمة المواهب وجعلها معروفة عالميا. ويقام مؤتمر «تيداكس» في خمسين دولة من بينها العراق، وكان من المفترض أن يتواصل لثلاثة أيام لكن ظروف البلاد قلصته إلى يوم واحد حظي بفعاليات مهمة.
يحيى العبدلي، رئيس مؤتمر «تيداكس» في بغداد، قال لـ«الشرق الأوسط» بعد إلقائه لكلمته في فندق الرشيد وسط بغداد «يتمثّل تيداكس بغداد بمبادرة مؤلفّة من شطرين: الفعاليات والمشاريع. الفعاليات تضع أصحاب المواهب على منصّة عالمية حيث ينالون التقدير ويشاركون معرفتهم وأفكارهم مع العالم، ويلتقون بمتحدّثين عالميين سبق لهم تحقيق إنجازات عالمية. أمّا المشاريع فهي تسمح بتطوير بعض من هذه الأفكار على شكل مبادرات تهدف لخدمة المجتمع العراقي». وأكد أن «تيداكس بغداد سيعمل على تطوير المواهب العراقية وجعلها معروفة على الصعيد الدولي والإسهام بإعادة مكانة العراق كمركز للعلم والمعرفة في الشرق الأوسط».
حفل الافتتاح الذي شهد حضورا كبيرا لشخصيات معروفة في بغداد، إضافة لحضور المساهمين، شهد عرضا فنيا لفرقة «صولو بغداد» التي أمتعت الجمهور بأغان تراثية عراقية. والفرقة تتألف من ثمانية عازفين موهوبين جاءوا من محافظات وأديان مختلفة جمعهم قائدهم حسين راسم.
نيكولاي ملادينوف، المتحدث الخاص للأمين العام ورئيس بعثة المساعدة للأمم المتحدة في العراق، تحدث في كلمة موجزة خلال المؤتمر عن أهمية عدم الاستسلام للظروف والتحديات الصعبة التي يعشيها العراقيون، وأنه لا بد من تحديها، وذلك يبدأ بمبادرات الشباب خصوصا. وتحدث عن جهود البعثة الأممية لمساندة الشعب العراقي في مثل هكذا مبادرات.
ومن بين الذين شاركوا في المؤتمر نيسان هرمز، وهو شاب عراقي ناشط في مجال المجتمع المدني وحقوق الإنسان تعرض للإعاقة بسبب الحرب، لكنه فضل محاربة إعاقته باللجوء للرياضة وانضم إلى المنتخب الوطني لكرة السلة. ويشير نيسان إلى أن «قيمة الإنسان في نفسه وفي ذاته وليست في شكله»، و«الإعاقة ليست نهاية الحياة بل بداية الحياة». وعلى الرغم من الظروف القاسية المحيطة بإعاقته وكونه العائل الوحيد لأسرته، فقد أصر على إثبات نفسه في العمل مبتدئا بورشة صغيرة لتصليح وتحوير الكراسي المتحركة، والتي استمرت في التوسع لتخدم يوميا المئات من العراقيين المعاقين.
أما مصطفى حمد، من مواليد بغداد، لكنه يعيش في ألمانيا، فقد تحدث عن تجربته بالقول «عشقت المناظر الطبيعية واتجهت للتصوير الفوتوغرافي كهواية جادة أعبر من خلالها على أحلامي». ويتمنى مصطفى أن يكون أحد المصورين البارزين في مجلة «ناشيونال جيوغرافيك» المشهورة عالميا.
وتحدثت ساهرة مصطفى، بعد أن اعتلت المنصة، عن ابنتها المريضة بالقول «ابنتي التي يقولون إنها منغولية علمتني أكثر مما علمني إياه أولادي المهندسون والأطباء». وتحدثت عن تجربتها مع ابنتها التي اخبرها الأطباء بأنها لن تتعلم أو تتكلم ولن تقرأ، لكنها اليوم صارت تعرف كيف تقرأ وتتحدث أفضل من غيرها.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)