«القاعدة» بعد 18 عاماً من هجمات سبتمبر

تحديات تواجه تكتيكات التمدد بحثاً عن صدارة

طائرات الإرهابيين تصطدم ببرجي مركز التجارة العالمي بنيويورك في سبتمبر 2001  وسقوط مئات الضحايا نتيجة لهذه الهجمات (غيتي)
طائرات الإرهابيين تصطدم ببرجي مركز التجارة العالمي بنيويورك في سبتمبر 2001 وسقوط مئات الضحايا نتيجة لهذه الهجمات (غيتي)
TT

«القاعدة» بعد 18 عاماً من هجمات سبتمبر

طائرات الإرهابيين تصطدم ببرجي مركز التجارة العالمي بنيويورك في سبتمبر 2001  وسقوط مئات الضحايا نتيجة لهذه الهجمات (غيتي)
طائرات الإرهابيين تصطدم ببرجي مركز التجارة العالمي بنيويورك في سبتمبر 2001 وسقوط مئات الضحايا نتيجة لهذه الهجمات (غيتي)

اتفق مختصون في الحركات الأصولية بمصر على أن «تنظيم القاعدة الإرهابي الذي نفذ عملية هزت أميركا في 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001، حيث كان التنظيم في أوج قوته، وقاد حركة (الجهاد) العالمي، تعرض لمرحلة خفوت، عززها ظهور تنظيم داعش؛ إلا أن الأخير خسر نفوذه في سوريا والعراق، مما دفع (القاعدة) لأن يحاول تجديد شبابه لاستعادة زخم الماضي؛ زخم هجمات سبتمبر (أيلول)».

اتفق مختصون في الحركات الأصولية بمصر على أن «تنظيم القاعدة الإرهابي الذي نفذ عملية هزت أميركا في 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001، حيث كان التنظيم في أوج قوته، وقاد حركة (الجهاد) العالمي، تعرض لمرحلة خفوت، عززها ظهور تنظيم داعش؛ إلا أن الأخير خسر نفوذه في سوريا والعراق، مما دفع (القاعدة) لأن يحاول تجديد شبابه لاستعادة زخم الماضي؛ زخم هجمات سبتمبر (أيلول)-
يؤكد المختصون أن «تنظيم القاعدة استند أخيراً إلى استراتيجية تكثيف الوجود الإعلامي والتحريضي، محاولاً استقطاب عناصر (داعش) الفارة عقب الهزائم». وكشفوا عن تحديات تواجه «القاعدة»، من بينها تقدم سن زعيمها أيمن الظواهري، وجهود مكافحة الإرهاب.
ويقول خبراء أمنيون إن «(القاعدة) يتعامل مع الفترة الراهنة كفرصة للعودة إلى الواجهة من جديد، لكنه لن يتمكن من العودة إلى سابق عهده، بل سوف يشهد تحسناً»، وأوضحوا أنه «بعد هجمات سبتمبر (أيلول)، طرح (القاعدة) نفسه بوصفه لا يسعى لإقامة (الدولة)، عكس (داعش)، لذلك تبنى عدة أساليب هدف من خلالها للبقاء متماسكاً قدر الإمكان».
مراقبون أكدوا أن «القاعدة» عمل على تغيير خطابه منذ عام 2011، حيث حاول طرح واستخدام مصطلحات جديدة لم تكن تستخدم في خطابته من قبل (كالأمة)، وتخلى عن خطاب الاستعلاء الذي كان يتحدث به التنظيم عبر إصداراته المرئية أو المكتوبة.

حضور باهت
أحداث 11 سبتمبر (أيلول) هي مجموعة من الهجمات شهدتها الولايات المتحدة الأميركية، وفيها توجهت 4 طائرات لتصطدم ببرجي مركز التجارة الدولية بمنهاتن، وسقط نتيجة لهذه الهجمات عشرات الضحايا.
ومن جهته، يقول عمرو عبد المنعم الباحث في شؤون الحركات الأصولية: «بات تنظيم القاعدة في الذكرى الـ18 لأحداث سبتمبر (أيلول) باهتاً، يبحث عن ماضٍ، ويحاول أن يُمجد بكل طاقته أحداث سبتمبر (أيلول)، وليس له جديد من الأعمال أو الأحداث يستطيع عبرها أن يستقطب الشباب، ويبحث عن مستويات عدة قيادية جديدة، كما يبحث عن ماضٍ يجدد له شباب التنظيم، فلا يجد ميراثاً كبيراً يستطيع أن يلحق به بعض الأحداث الحالية لينال قصب السبق، عكس الماضي الذي أحدثته هجمات سبتمبر (أيلول)».
وأكد عبد المنعم لـ«الشرق الأوسط» أن «(القاعدة) لديه بعض التحديات، منها تقدم الظواهري في العمر، وجهود الولايات المتحدة الأميركية وباكستان لمكافحة الإرهاب، واحتمالية قتل الظواهري، سواء من قبل أعدائه من داخل التنظيم أو عبر عناصر (داعش)، أو من قبل الولايات المتحدة أو حلفائها، وأنه في حالة وفاة الظواهري بشكل طبيعي، فمن المرجح أن تكون هناك فوضى كبيرة تواجه الزعيم القادم للتنظيم، ومن المتوقع أن يتشتت (القاعدة) إلى قواعد، لأن طبيعة الظواهري ديناميكية، اعتمد على إنشائها عبر أطروحات وقواعد وانطلاقات الزعيم السابق أسامة بن لادن بشكل أساسي».
وقال عبد الله محمد، الباحث في شؤون الحركات المتطرفة، إنه «مع إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش في سوريا والعراق، اتجه (القاعدة) لمرحلة جديدة، عبر تصدير خطاب تحريضي ضد المؤسسات الوطنية في العالم الإسلامي، واستغلال بعض المشكلات الاقتصادية والاجتماعية لتحريض الشعوب ضد تلك المؤسسات، كما سعى إلى استغلال قضية القدس في خطابه للتحريض على الحكومات العربية»، موضحاً لـ«الشرق الأوسط» أن «(القاعدة) استند أخيراً إلى استراتيجية تقوم على تكثيف الوجود الإعلامي والتحريضي، محاولاً تجنيد واستقطاب عناصر (داعش) الفارة، أو شباب تنظيم (الإخوان)، وهو ما نراه في أعداد مجلة (أمة واحدة) التي تصدر عن التنظيم، ومحاولة تجنيدهم فيما سمته المجلة (الجهاد الإلكتروني)».

وهم التماسك
التغيرات التي مر بها «القاعدة» منذ أحداث سبتمبر (أيلول) وضحتها دراسة حديثة لدار الإفتاء المصرية، أكدت أن «التنظيم نجح في التعامل مع متغيرات المرحلة بالشكل الذي جعله يتمكن من البقاء حتى الآن، من دون أن يتم القضاء عليه. فبعد هجمات سبتمبر (أيلول)، ظل يطرح نفسه على أنه في طليعة التنظيمات المتطرفة، ولا يسعى لإقامة (الدولة) على المدى القصير، لذلك تبنى عدة أساليب هدف من خلالها للبقاء متماسكاً قدر الإمكان، عبر توفير القدرات واستقطاب مقاتلين جدد»، موضحة أن «(القاعدة) عمل على تقسيم الأساليب لعدة مراحل تتوافق مع متطلبات كل مرحلة. فبعد هجمات سبتمبر، وجد التنظيم صعوبة في انضمام مقاتلين له، مما جعله يعتمد على شبكة العلاقات في المناطق التي ينتشر فيها، بالإضافة إلى الاعتماد على مؤيديه في الخارج لتنفيذ عمليات إرهابية، كحادثتي مدريد ولندن أعوام 2004 و2005، كما عمل على وضع خطة تقوم على أساس أن كل مجموعة تابعة له تكون مسؤولة عن منطقة بعينها، وفق نمط لامركزي، وهو ما يشير إلى أن التنظيم عمل على ترك هذه المجموعات تعمل بشكل فردي، مع الحفاظ على فكرة (توحيد المجتمع) عبر تدمير المجتمعات الحالية، وإقامة أخرى بديلة». وبدا خلال الأشهر الماضية أن «القاعدة» استغل اهتمام القوى الدولية بمحاربة «داعش» في العمل على إعادة بناء قدراته العسكرية والتنظيمية، حيث حاول توسيع نطاق انتشاره من جديد، وهو ما كشف عنه منسق مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأميركية، ناثان سيلز، مطلع أغسطس (آب) الماضي، حينما أشار إلى أن «التنظيم ما يزال يشكل تهديداً للولايات المتحدة، كما كان في السابق، بعد أن انخرط في عملية إعادة بناء خلال الأعوام الماضية، معتمداً في هذا السياق على تبني آليات كثيرة، ترتبط بتكوين شبكة تحالفات، وما يسمى (الكمون التنظيمي)، فضلاً عن تنويع مصادر التمويل».
وقال عبد الله محمد إن «منحنيات (القاعدة) خلال السنوات الماضية شهدت مجموعة من الاستراتيجيات والتكتيكات التي ساعدت على بقاء التنظيم كخطر داهم على المجتمعات، فعمل على استغلال تركيز الجهد الدولي المنسق للقضاء على (داعش) لإعادة تنظيم صفوفه، بعد أن اعتراها الترهل والتفكك. كما عمل التنظيم على التواري عن دوائر الظهور، تجنباً للضربات التي قامت بها التحالفات العسكرية، وعمل على تطوير خطابه الإعلامي لكسب حاضنة شعبية، تمثل مخزناً لاستقطاب عناصر جديدة، فيما عمل الظواهري على إعادة دمج وتوحيد الفروع والشبكات الصغيرة، كما حدث في غرب أفريقيا».

إمداد وتمويل
وأكد عمرو عبد المنعم أنه «دائماً الجماعات المتشددة، ومن بينها (القاعدة)، تستقطب الشباب، خصوصاً خلال الفضاء الواسع، وتستخدم في ذلك عدة طرق جديدة، من ضمنها الشبكات العنكبوتية، وطرق الإمداد والتمويل عن بُعد، للتمدد في المناطق التي تستطيع أن تثبت جدارة فيها، من الناحية العسكرية والتكتيكية والجهادية».
يشار إلى أن «القاعدة» عمل على عدة مرتكزات أساسية منذ عام 2014 حتى الآن، أبرزها الانسحاب المؤقت من عدة ساحات ومناطق، خصوصاً تلك التي حظيت بزخم عسكري كبير من قبل التحالفات الدولية، مثل العراق وسوريا، وسعى في الوقت ذاته إلى لململة صفوفه، والحفاظ على فروعه وتوحيدها، وسعى نحو إعادة بناء شبكات جديدة، وتقوية روابطها في مناطق أخرى.
وأكد عبد المنعم أن «التنظيمات المنضمة لـ(القاعدة) تستخدم أكثر من مفردة تنظيمية، مثل (جيش الإسلام) و(أنصار الإسلام) و(حراس الشريعة) و(تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين) و(القاعدة في بلاد المغرب) و(القاعدة في إرتيريا) و(شباب المجاهدين)، لكن الأفكار واحدة، والتصورات واحدة، ومن يملك التنظير هو من له الحضور في المستقبل». وأكد باحثون في دار الإفتاء المصرية أن «(القاعدة) عقب هزيمة (داعش) تطلع أكثر إلى الانتقال للمرحلة الثانية، بعد الإعداد والتأسيس والدمج، وهي مرحلة التوسع على المستوى الإعلامي والدعائي، وكذلك الحركي والميداني، وهو ما يتضح في استراتيجية التنظيم في باكستان وأفغانستان والهند»، موضحين أن «منطقة كشمير باتت تشهد زخماً متزايداً من قبل تنظيمات موالية لـ(القاعدة)، ترجع جذورها إلى عام 2014، حينما أعلن الظواهري تأسيس فرع أو تنظيم تحت اسم (قاعدة الجهاد بشبه القارة الهندية)، وتولى آنذاك أحد قيادات حركة طالبان زعامة التنظيم، وسعى التنظيم لتنفيذ هجمات إرهابية خاصة في باكستان وبنغلاديش، وشهد عام 2015 العدد الأكبر من هجمات التنظيم الوليد، ثم عاد مرة أخرى للخفوت، خصوصاً العام الماضي».
وأكد المراقبون أن «(القاعدة) حرص عبر فروعه المنتشرة في عدد من المناطق على الدخول في شبكة تحالفات معقدة، سواء قبلية أو تنظيمية، مما أدى إلى ظهور أفرع وخلايا تابعة له في تونس وجنوب الجزائر وشمال مالي والنيجر وشمال نيجيريا في وقت متزامن».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحالف مع حركة (أنصار الدين) و(جبهة تحرير ماسينا) شمال مالي، و(أنصار الإسلام) في بوركينا فاسو، إضافة إلى تعاونه مع الفصيل الذي قاده أبو بكر شيكاو داخل حركة (بوكو حرام)، الذي أدى لتكوين جماعة (نصرة الإسلام والمسلمين) التي تم الإعلان عنها في مارس (آذار) 2017... وأدرجت الخارجية الأميركية في سبتمبر (أيلول) عام 2018 جماعة (نصرة الإسلام والمسلمين) على قائمة التنظيمات الإرهابية».
وقال العميد السيد عبد المحسن، الخبير الأمني، إن «تنظيم القاعدة ينظر باهتمام للشمال الأفريقي ودول الصحراء، وله وجود في عدد من هذه البلدان»، مؤكداً لـ«الشرق الأوسط» أن «(القاعدة) توسع في اليمن والصومال وإريتريا، وفي آسيا والصين، وفرنسا وألمانيا»، مضيفاً أن «(القاعدة) يتعامل مع الفترة الراهنة كفرصة للعودة إلى الواجهة من جديد، لكنه لن يتمكن من العودة إلى سابق عهده في عام 2001، بل سوف يشهد تحسناً نسبياً، خصوصاً مع خفوت نجم (داعش) وفرار عناصره، وقد يواجه انقسامات مستقبلية جديدة».


مقالات ذات صلة

باكستان: جهود لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين

آسيا جندي باكستاني يقف حارساً على الحدود الباكستانية الأفغانية التي تم تسييجها مؤخراً (وسائل الإعلام الباكستانية)

باكستان: جهود لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين

الجيش الباكستاني يبذل جهوداً كبرى لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين.

عمر فاروق (إسلام آباد)
أفريقيا وحدة من جيش بوركينا فاسو خلال عملية عسكرية (صحافة محلية)

دول الساحل تكثف عملياتها ضد معاقل الإرهاب

كثفت جيوش دول الساحل الثلاث؛ النيجر وبوركينا فاسو ومالي، خلال اليومين الماضيين من عملياتها العسكرية ضد معاقل الجماعات الإرهابية.

الشيخ محمد (نواكشوط)
أفريقيا سيدة في إحدى قرى بوركينا فاسو تراقب آلية عسكرية تابعة للجيش (غيتي)

تنظيم «القاعدة» يقترب من عاصمة بوركينا فاسو

أعلنت «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، الموالية لتنظيم «القاعدة»، أنها سيطرت على موقع عسكري متقدم تابع لجيش بوركينا فاسو.

الشيخ محمد ( نواكشوط)
أفريقيا رئيس تشاد يتحدث مع السكان المحليين (رئاسة تشاد)

الرئيس التشادي: سنلاحق إرهابيي «بوكو حرام» أينما ذهبوا

قال الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي، في مقطع فيديو نشرته الرئاسة التشادية، إنه سيلاحق مقاتلي «بوكو حرام» «أينما ذهبوا، واحداً تلو الآخر، وحتى آخر معاقلهم».

الشيخ محمد (نواكشوط)
أفريقيا آثار هجوم إرهابي شنَّته «بوكو حرام» ضد الجيش التشادي (إعلام محلي)

«الإرهاب» يصعّد هجماته في دول الساحل الأفريقي

تصاعدت وتيرة الهجمات الإرهابية في منطقة الساحل الأفريقي، خصوصاً بعد أن أعلنت تشاد أن أربعين جندياً قُتلوا في هجوم إرهابي.

الشيخ محمد (نواكشوط)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟