«القاعدة» بعد 18 عاماً من هجمات سبتمبر

تحديات تواجه تكتيكات التمدد بحثاً عن صدارة

طائرات الإرهابيين تصطدم ببرجي مركز التجارة العالمي بنيويورك في سبتمبر 2001  وسقوط مئات الضحايا نتيجة لهذه الهجمات (غيتي)
طائرات الإرهابيين تصطدم ببرجي مركز التجارة العالمي بنيويورك في سبتمبر 2001 وسقوط مئات الضحايا نتيجة لهذه الهجمات (غيتي)
TT

«القاعدة» بعد 18 عاماً من هجمات سبتمبر

طائرات الإرهابيين تصطدم ببرجي مركز التجارة العالمي بنيويورك في سبتمبر 2001  وسقوط مئات الضحايا نتيجة لهذه الهجمات (غيتي)
طائرات الإرهابيين تصطدم ببرجي مركز التجارة العالمي بنيويورك في سبتمبر 2001 وسقوط مئات الضحايا نتيجة لهذه الهجمات (غيتي)

اتفق مختصون في الحركات الأصولية بمصر على أن «تنظيم القاعدة الإرهابي الذي نفذ عملية هزت أميركا في 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001، حيث كان التنظيم في أوج قوته، وقاد حركة (الجهاد) العالمي، تعرض لمرحلة خفوت، عززها ظهور تنظيم داعش؛ إلا أن الأخير خسر نفوذه في سوريا والعراق، مما دفع (القاعدة) لأن يحاول تجديد شبابه لاستعادة زخم الماضي؛ زخم هجمات سبتمبر (أيلول)».

اتفق مختصون في الحركات الأصولية بمصر على أن «تنظيم القاعدة الإرهابي الذي نفذ عملية هزت أميركا في 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001، حيث كان التنظيم في أوج قوته، وقاد حركة (الجهاد) العالمي، تعرض لمرحلة خفوت، عززها ظهور تنظيم داعش؛ إلا أن الأخير خسر نفوذه في سوريا والعراق، مما دفع (القاعدة) لأن يحاول تجديد شبابه لاستعادة زخم الماضي؛ زخم هجمات سبتمبر (أيلول)-
يؤكد المختصون أن «تنظيم القاعدة استند أخيراً إلى استراتيجية تكثيف الوجود الإعلامي والتحريضي، محاولاً استقطاب عناصر (داعش) الفارة عقب الهزائم». وكشفوا عن تحديات تواجه «القاعدة»، من بينها تقدم سن زعيمها أيمن الظواهري، وجهود مكافحة الإرهاب.
ويقول خبراء أمنيون إن «(القاعدة) يتعامل مع الفترة الراهنة كفرصة للعودة إلى الواجهة من جديد، لكنه لن يتمكن من العودة إلى سابق عهده، بل سوف يشهد تحسناً»، وأوضحوا أنه «بعد هجمات سبتمبر (أيلول)، طرح (القاعدة) نفسه بوصفه لا يسعى لإقامة (الدولة)، عكس (داعش)، لذلك تبنى عدة أساليب هدف من خلالها للبقاء متماسكاً قدر الإمكان».
مراقبون أكدوا أن «القاعدة» عمل على تغيير خطابه منذ عام 2011، حيث حاول طرح واستخدام مصطلحات جديدة لم تكن تستخدم في خطابته من قبل (كالأمة)، وتخلى عن خطاب الاستعلاء الذي كان يتحدث به التنظيم عبر إصداراته المرئية أو المكتوبة.

حضور باهت
أحداث 11 سبتمبر (أيلول) هي مجموعة من الهجمات شهدتها الولايات المتحدة الأميركية، وفيها توجهت 4 طائرات لتصطدم ببرجي مركز التجارة الدولية بمنهاتن، وسقط نتيجة لهذه الهجمات عشرات الضحايا.
ومن جهته، يقول عمرو عبد المنعم الباحث في شؤون الحركات الأصولية: «بات تنظيم القاعدة في الذكرى الـ18 لأحداث سبتمبر (أيلول) باهتاً، يبحث عن ماضٍ، ويحاول أن يُمجد بكل طاقته أحداث سبتمبر (أيلول)، وليس له جديد من الأعمال أو الأحداث يستطيع عبرها أن يستقطب الشباب، ويبحث عن مستويات عدة قيادية جديدة، كما يبحث عن ماضٍ يجدد له شباب التنظيم، فلا يجد ميراثاً كبيراً يستطيع أن يلحق به بعض الأحداث الحالية لينال قصب السبق، عكس الماضي الذي أحدثته هجمات سبتمبر (أيلول)».
وأكد عبد المنعم لـ«الشرق الأوسط» أن «(القاعدة) لديه بعض التحديات، منها تقدم الظواهري في العمر، وجهود الولايات المتحدة الأميركية وباكستان لمكافحة الإرهاب، واحتمالية قتل الظواهري، سواء من قبل أعدائه من داخل التنظيم أو عبر عناصر (داعش)، أو من قبل الولايات المتحدة أو حلفائها، وأنه في حالة وفاة الظواهري بشكل طبيعي، فمن المرجح أن تكون هناك فوضى كبيرة تواجه الزعيم القادم للتنظيم، ومن المتوقع أن يتشتت (القاعدة) إلى قواعد، لأن طبيعة الظواهري ديناميكية، اعتمد على إنشائها عبر أطروحات وقواعد وانطلاقات الزعيم السابق أسامة بن لادن بشكل أساسي».
وقال عبد الله محمد، الباحث في شؤون الحركات المتطرفة، إنه «مع إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش في سوريا والعراق، اتجه (القاعدة) لمرحلة جديدة، عبر تصدير خطاب تحريضي ضد المؤسسات الوطنية في العالم الإسلامي، واستغلال بعض المشكلات الاقتصادية والاجتماعية لتحريض الشعوب ضد تلك المؤسسات، كما سعى إلى استغلال قضية القدس في خطابه للتحريض على الحكومات العربية»، موضحاً لـ«الشرق الأوسط» أن «(القاعدة) استند أخيراً إلى استراتيجية تقوم على تكثيف الوجود الإعلامي والتحريضي، محاولاً تجنيد واستقطاب عناصر (داعش) الفارة، أو شباب تنظيم (الإخوان)، وهو ما نراه في أعداد مجلة (أمة واحدة) التي تصدر عن التنظيم، ومحاولة تجنيدهم فيما سمته المجلة (الجهاد الإلكتروني)».

وهم التماسك
التغيرات التي مر بها «القاعدة» منذ أحداث سبتمبر (أيلول) وضحتها دراسة حديثة لدار الإفتاء المصرية، أكدت أن «التنظيم نجح في التعامل مع متغيرات المرحلة بالشكل الذي جعله يتمكن من البقاء حتى الآن، من دون أن يتم القضاء عليه. فبعد هجمات سبتمبر (أيلول)، ظل يطرح نفسه على أنه في طليعة التنظيمات المتطرفة، ولا يسعى لإقامة (الدولة) على المدى القصير، لذلك تبنى عدة أساليب هدف من خلالها للبقاء متماسكاً قدر الإمكان، عبر توفير القدرات واستقطاب مقاتلين جدد»، موضحة أن «(القاعدة) عمل على تقسيم الأساليب لعدة مراحل تتوافق مع متطلبات كل مرحلة. فبعد هجمات سبتمبر، وجد التنظيم صعوبة في انضمام مقاتلين له، مما جعله يعتمد على شبكة العلاقات في المناطق التي ينتشر فيها، بالإضافة إلى الاعتماد على مؤيديه في الخارج لتنفيذ عمليات إرهابية، كحادثتي مدريد ولندن أعوام 2004 و2005، كما عمل على وضع خطة تقوم على أساس أن كل مجموعة تابعة له تكون مسؤولة عن منطقة بعينها، وفق نمط لامركزي، وهو ما يشير إلى أن التنظيم عمل على ترك هذه المجموعات تعمل بشكل فردي، مع الحفاظ على فكرة (توحيد المجتمع) عبر تدمير المجتمعات الحالية، وإقامة أخرى بديلة». وبدا خلال الأشهر الماضية أن «القاعدة» استغل اهتمام القوى الدولية بمحاربة «داعش» في العمل على إعادة بناء قدراته العسكرية والتنظيمية، حيث حاول توسيع نطاق انتشاره من جديد، وهو ما كشف عنه منسق مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأميركية، ناثان سيلز، مطلع أغسطس (آب) الماضي، حينما أشار إلى أن «التنظيم ما يزال يشكل تهديداً للولايات المتحدة، كما كان في السابق، بعد أن انخرط في عملية إعادة بناء خلال الأعوام الماضية، معتمداً في هذا السياق على تبني آليات كثيرة، ترتبط بتكوين شبكة تحالفات، وما يسمى (الكمون التنظيمي)، فضلاً عن تنويع مصادر التمويل».
وقال عبد الله محمد إن «منحنيات (القاعدة) خلال السنوات الماضية شهدت مجموعة من الاستراتيجيات والتكتيكات التي ساعدت على بقاء التنظيم كخطر داهم على المجتمعات، فعمل على استغلال تركيز الجهد الدولي المنسق للقضاء على (داعش) لإعادة تنظيم صفوفه، بعد أن اعتراها الترهل والتفكك. كما عمل التنظيم على التواري عن دوائر الظهور، تجنباً للضربات التي قامت بها التحالفات العسكرية، وعمل على تطوير خطابه الإعلامي لكسب حاضنة شعبية، تمثل مخزناً لاستقطاب عناصر جديدة، فيما عمل الظواهري على إعادة دمج وتوحيد الفروع والشبكات الصغيرة، كما حدث في غرب أفريقيا».

إمداد وتمويل
وأكد عمرو عبد المنعم أنه «دائماً الجماعات المتشددة، ومن بينها (القاعدة)، تستقطب الشباب، خصوصاً خلال الفضاء الواسع، وتستخدم في ذلك عدة طرق جديدة، من ضمنها الشبكات العنكبوتية، وطرق الإمداد والتمويل عن بُعد، للتمدد في المناطق التي تستطيع أن تثبت جدارة فيها، من الناحية العسكرية والتكتيكية والجهادية».
يشار إلى أن «القاعدة» عمل على عدة مرتكزات أساسية منذ عام 2014 حتى الآن، أبرزها الانسحاب المؤقت من عدة ساحات ومناطق، خصوصاً تلك التي حظيت بزخم عسكري كبير من قبل التحالفات الدولية، مثل العراق وسوريا، وسعى في الوقت ذاته إلى لململة صفوفه، والحفاظ على فروعه وتوحيدها، وسعى نحو إعادة بناء شبكات جديدة، وتقوية روابطها في مناطق أخرى.
وأكد عبد المنعم أن «التنظيمات المنضمة لـ(القاعدة) تستخدم أكثر من مفردة تنظيمية، مثل (جيش الإسلام) و(أنصار الإسلام) و(حراس الشريعة) و(تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين) و(القاعدة في بلاد المغرب) و(القاعدة في إرتيريا) و(شباب المجاهدين)، لكن الأفكار واحدة، والتصورات واحدة، ومن يملك التنظير هو من له الحضور في المستقبل». وأكد باحثون في دار الإفتاء المصرية أن «(القاعدة) عقب هزيمة (داعش) تطلع أكثر إلى الانتقال للمرحلة الثانية، بعد الإعداد والتأسيس والدمج، وهي مرحلة التوسع على المستوى الإعلامي والدعائي، وكذلك الحركي والميداني، وهو ما يتضح في استراتيجية التنظيم في باكستان وأفغانستان والهند»، موضحين أن «منطقة كشمير باتت تشهد زخماً متزايداً من قبل تنظيمات موالية لـ(القاعدة)، ترجع جذورها إلى عام 2014، حينما أعلن الظواهري تأسيس فرع أو تنظيم تحت اسم (قاعدة الجهاد بشبه القارة الهندية)، وتولى آنذاك أحد قيادات حركة طالبان زعامة التنظيم، وسعى التنظيم لتنفيذ هجمات إرهابية خاصة في باكستان وبنغلاديش، وشهد عام 2015 العدد الأكبر من هجمات التنظيم الوليد، ثم عاد مرة أخرى للخفوت، خصوصاً العام الماضي».
وأكد المراقبون أن «(القاعدة) حرص عبر فروعه المنتشرة في عدد من المناطق على الدخول في شبكة تحالفات معقدة، سواء قبلية أو تنظيمية، مما أدى إلى ظهور أفرع وخلايا تابعة له في تونس وجنوب الجزائر وشمال مالي والنيجر وشمال نيجيريا في وقت متزامن».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحالف مع حركة (أنصار الدين) و(جبهة تحرير ماسينا) شمال مالي، و(أنصار الإسلام) في بوركينا فاسو، إضافة إلى تعاونه مع الفصيل الذي قاده أبو بكر شيكاو داخل حركة (بوكو حرام)، الذي أدى لتكوين جماعة (نصرة الإسلام والمسلمين) التي تم الإعلان عنها في مارس (آذار) 2017... وأدرجت الخارجية الأميركية في سبتمبر (أيلول) عام 2018 جماعة (نصرة الإسلام والمسلمين) على قائمة التنظيمات الإرهابية».
وقال العميد السيد عبد المحسن، الخبير الأمني، إن «تنظيم القاعدة ينظر باهتمام للشمال الأفريقي ودول الصحراء، وله وجود في عدد من هذه البلدان»، مؤكداً لـ«الشرق الأوسط» أن «(القاعدة) توسع في اليمن والصومال وإريتريا، وفي آسيا والصين، وفرنسا وألمانيا»، مضيفاً أن «(القاعدة) يتعامل مع الفترة الراهنة كفرصة للعودة إلى الواجهة من جديد، لكنه لن يتمكن من العودة إلى سابق عهده في عام 2001، بل سوف يشهد تحسناً نسبياً، خصوصاً مع خفوت نجم (داعش) وفرار عناصره، وقد يواجه انقسامات مستقبلية جديدة».


مقالات ذات صلة

باكستان: جهود لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين

آسيا جندي باكستاني يقف حارساً على الحدود الباكستانية الأفغانية التي تم تسييجها مؤخراً (وسائل الإعلام الباكستانية)

باكستان: جهود لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين

الجيش الباكستاني يبذل جهوداً كبرى لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين.

عمر فاروق (إسلام آباد)
أفريقيا وحدة من جيش بوركينا فاسو خلال عملية عسكرية (صحافة محلية)

دول الساحل تكثف عملياتها ضد معاقل الإرهاب

كثفت جيوش دول الساحل الثلاث؛ النيجر وبوركينا فاسو ومالي، خلال اليومين الماضيين من عملياتها العسكرية ضد معاقل الجماعات الإرهابية.

الشيخ محمد (نواكشوط)
أفريقيا سيدة في إحدى قرى بوركينا فاسو تراقب آلية عسكرية تابعة للجيش (غيتي)

تنظيم «القاعدة» يقترب من عاصمة بوركينا فاسو

أعلنت «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، الموالية لتنظيم «القاعدة»، أنها سيطرت على موقع عسكري متقدم تابع لجيش بوركينا فاسو.

الشيخ محمد ( نواكشوط)
أفريقيا رئيس تشاد يتحدث مع السكان المحليين (رئاسة تشاد)

الرئيس التشادي: سنلاحق إرهابيي «بوكو حرام» أينما ذهبوا

قال الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي، في مقطع فيديو نشرته الرئاسة التشادية، إنه سيلاحق مقاتلي «بوكو حرام» «أينما ذهبوا، واحداً تلو الآخر، وحتى آخر معاقلهم».

الشيخ محمد (نواكشوط)
أفريقيا آثار هجوم إرهابي شنَّته «بوكو حرام» ضد الجيش التشادي (إعلام محلي)

«الإرهاب» يصعّد هجماته في دول الساحل الأفريقي

تصاعدت وتيرة الهجمات الإرهابية في منطقة الساحل الأفريقي، خصوصاً بعد أن أعلنت تشاد أن أربعين جندياً قُتلوا في هجوم إرهابي.

الشيخ محمد (نواكشوط)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.