بنين تستيقظ على خطر الإرهاب

رحلة سفاري في غرب أفريقيا تنتهي بكابوس

تدريب الجنود في حديقة بندجاري الوطنية في شمال بنين لتأمين حدودها  مع بوركينا فاسو بعد تصاعد العمليات الإرهابية (نيويورك تايمز)
تدريب الجنود في حديقة بندجاري الوطنية في شمال بنين لتأمين حدودها مع بوركينا فاسو بعد تصاعد العمليات الإرهابية (نيويورك تايمز)
TT

بنين تستيقظ على خطر الإرهاب

تدريب الجنود في حديقة بندجاري الوطنية في شمال بنين لتأمين حدودها  مع بوركينا فاسو بعد تصاعد العمليات الإرهابية (نيويورك تايمز)
تدريب الجنود في حديقة بندجاري الوطنية في شمال بنين لتأمين حدودها مع بوركينا فاسو بعد تصاعد العمليات الإرهابية (نيويورك تايمز)

كان مرشد رحلات السفاري يعلم كل نبع ماء في متنزه بندجاري الوطني في بنين، لكنه لم يكن يعلم أن الإرهابيين قادرون على الوصول إليه في عقر داره عبر الحدود. لم يكن هناك أي اختلاف واضح بين فياكر غبيدجي، مرشد رحلات السفاري في محمية برية مترامية الأطراف في غرب أفريقيا، وبين السائحين اللذين كان يرشدهما، حيث كان يشهق عندما يرى أي أسد، ويشعر بالإثارة لدى رؤية كل ظبي يقفز بين الشجيرات.
مع ذلك، عندما دخل غبيدجي، هو وسائحان فرنسيان، في قلب المتنزه، قام إرهابيون باختطافهم. وقام الجيش الفرنسي بإنقاذ السائحين بعد 10 أيام، وتم تنظيم مراسم في قلب باريس لتأبين 2 من أفراد القوات الخاصة الفرنسية كان قد تم قتلهما في أثناء تنفيذ المهمة. وفي خضم الاهتمام الدولي بعملية الاختطاف، اختفى غبيدجي، بل لم يأتِ ذكره تقريباً على لسان أحد، فما هو في النهاية سوى «مرشد». لقد قتله المختطفون، وأكلت الحيوانات جثته، على حد قول مسؤولين.
ورغم ذلك، أصبح اسم غبيدجي نذير شؤم في بنين، الدولة الصغيرة الواقعة في غرب أفريقيا بين توغو ونيجيريا، التي بدأت تصبح من وجهات رحلات السفاري، وبات متنزه بندجاري جوهرة البلد تحت مظلة الإدارة الجديدة. ومع ذلك، عرقلت عملية الاختطاف ذلك التقدم، وجذبت الانتباه إلى خطر الإرهاب الذي يقترب من البلاد، بعدما ضرب بوركينا فاسو ودول جوارها. وقد اتجه كل من تنظيم القاعدة وجماعات على صلة بتنظيم داعش إلى بنين، في ظل هروبهم من الهجمات العسكرية على معاقلهم السابقة في مالي والنيجر، بحسب خبراء أمنيين. وقد تمكنوا من تجنيد عناصر، والعثور على ملجأ آمن على أرض المتنزه ذات الأشجار الكثيفة.
وتزايدت اليوم أعداد المرشدين السياحيين الذين يتجولون بين الفنادق الخالية، بعد إلغاء سائحين لرحلاتهم. وتراقب الدوريات العسكرية في بنين اليوم، التي تتجول بين التماسيح وأفراس النهر في بندجاري، الحدود مع بوركينا فاسو. ويبدو أن موت غبيدجي دليل على أن عدم اتخاذ إجراءات فورية ربما يجعل بنين، الدولة الديمقراطية الآمنة إلى حد كبير، عرضة لخطر الإرهاب.
بدأ ذلك اليوم مثل أي يوم آخر في حياة غبيدجي، البالغ من العمر 33 عاماً، بحسب ما قالت أسرته. فبعدما أزاح في الفجر الشبكة الحامية من الناموس المعلقة أعلى سريره الذي يتقاسمه مع زوجته فيرونيكا فارا، البالغة من العمر 29 عاماً، التي تحمل في بطنها طفله الثاني، توجه إلى منزل أمه في الباحة ليلقي التحية عليها، حيث حول منزله الصغير المصنوع من الطين إلى مسكن متطور لعائلته، فقد ساهم تزايد الاهتمام بالمتنزه في زيادة دخل أسرته. وقد منح رئيس البلاد، باتريس تالون، الذي تولى منصبه عام 2016، الأولوية لدعم السياحة. ويعد المتنزه واحداً من 3 متنزهات تمثل مجمعاً يضم 1700 فيل، ويمتد بين بوركينا فاسو والنيجر وبنين.
وقد خصص الرئيس تالون، الذي شبّه أراضي المتنزه غير المستغلة بالنفط غير المستغل، 6 ملايين دولار للمتنزه الذي تبلغ مساحته 1800 ميل مربع. وفي عام 2017، سمح لمؤسسة «أفريكان باركس» في جنوب أفريقيا بإدارة العمل به. وساعد تدفق السائحين غبيدجي في إعالة أطفاله الستة وأمهاتهم الست. وتقول أم غبيدجي، جاستين كوليكبا، البالغة من العمر 63 عاماً: «محبة النساء له هبة من الله». وكان ذلك بعد مرور 3 أسابيع على مقتل ابنها، بينما يجلس حفيدها، بيرا إسيلي، ذو العامين متململاً بين ذراعيها. وقد راودت السيدة كوليكبا أفكار انتحارية منذ وفاة ابنها، لكن ما منعها من تنفيذها، كما تقول، رعاية أحفادها، مضيفة: «لقد أخبرني أنه سيعود قريباً». وكان من المفترض أن يلتقي غبيدجي عملاء له في ذلك اليوم، وهما لوران لاسيمويلا (46 عاماً) وباتريك بيكي (51 عاماً)، معلما الموسيقى الفرنسيان. لم يطلب غبيدجي في ذلك اليوم من أمه تحضير غدائه المفضل، وهو عجينة السبانخ بالذرة، لذا قالت: «لقد مات ومعدته خاوية وجائعاً».
وكان غبيدجي مرشداً معتمداً، إلى جانب تمتعه بخبرة كبيرة في المكان، حيث كان يعرف كل نبع ماء وعرين أسد. كذلك كان يعلم جيداً الأماكن التي لا ينبغي الذهاب إليها، وهي نهر بندجاري في الشمال الذي يفصل بين بنين وبوركينا فاسو. وكان ذلك النهر يمثل خطاً أحمر على الخرائط الرسمية التي وضعتها الحكومتين الفرنسية والأميركية قبل وفاته. وينشط مسلحون أصوليون على الطرف الشمالي، لذا «لا يُنصح» بالقيام بأنشطة سياحية في تلك المنطقة، بحسب وزارة الخارجية الفرنسية. بدأ على ذلك الشاطئ تدفق متمردين هاربين من عمليات الجيش الفرنسي في مالي والنيجر، وهم ينجحون في تجنيد عناصر من خلال استغلال التوترات التي تسود العلاقة بين الرعاة والمزارعين، والصراع على الموارد التي باتت نادرة بسبب التغير المناخي، والإحباط الناتج عن سوء استغلال القوات الحكومية للسلطة.
تجدر الإشارة إلى أن بوركينا فاسو شهدت خلال العام الماضي 137 هجوماً من جانب جماعات إرهابية، بعدما كان عدد الهجمات 12 فقط خلال عام 2016ن بحسب بيانات المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية. وقالت كورين دوفكا، مديرة غرب أفريقيا في منظمة «هيومان رايتس ووتش»: «التحدي الذي تواجهه الحكومات هو تمكن المتطرفين في كثير من المناطق من تلبية احتياجات الناس الأساسية قريبة المدى، ومنها الاستقرار وسيادة القانون». وكثيراً ما يفرض المسلحون النظام المطلوب، قبل تصعيد وتيرة العنف مع فرض آيديولوجيتهم. وتواجه بنين تحديات مماثلة، حيث لا تتوافر كثير من الخدمات الأساسية، كما يتزايد عدم الاستقرار، فقد أصبح رئيس الدولة، التي مثلت نموذجاً للديمقراطية عام 1991، حين تحولت إلى الحكم الديمقراطي بعد النظام الاشتراكي، أكثر ميلاً للاستبداد. وتحتاج بنين إلى معالجة الأمور التي جعلت الجماعات المتطرفة تكتسب نفوذاً وسطوة في بلدان أخرى، على حد قول دوفكا التي تحذر من زيادة توغل تلك الجماعات في قلب غرب أفريقيا، مما يجعل بنين آخر ملجأ محتمل. وقد توجه المتطرفون نحو الجنوب، إلى المجمع المكون من 3 متنزهات، حيث يوجد طعام ومأوى يحميهم من الرقابة الجوية، على حد قول لوري آن ثيروكس بينوني، مديرة مكتب معهد الدراسات الأمنية في غرب أفريقيا. وقد هاجم الإرهابيون في بوركينا فاسو والنيجر مرشدي غابات، وأجبروا كثيرين على الهروب من ذلك الجزء.
وفي الجزء الموجود في بنين، أعادت إدارة «أفريكان باركس» إحياء متنزه «بندجاري»، لكن أثارت تلك العملية الشعور بالاستياء في بعض الأحيان، خصوصاً عند حظر اصطياد لحم الحيوانات البرية، وهو تقليد محلي، رغم إصدار تصريحات مدفوعة الأجر لصائدي الحيوانات.
وأوضحت ثيروكس أن الإرهابيين «يدركون نقاط الضعف في المجتمع المحلي ويستغلونها». وكان غبيدجي يعمل بعيداً عن نهر بندجاري، ويشعر بالأمان، على حد قول مرشدين سياحيين آخرين. لكن منذ عملية الاختطاف، أصبحت منطقة بندجاري بالكامل منطقة خطر، وملونة بالأحمر على الخرائط الفرنسية والأميركية.
ويقول نويل نابوغو، المرشد الذي يبلغ من العمر 30 عاماً، والذي ينتظر في فندق تاتورا في مدينة ناتيتينغو، حيث ألغى كثير من السائحين رحلاتهم: «نحن ضحايا». وردد قول حكومة بنين التي ذكرت أن ضمّ بندجاري إلى منطقة الخطر أمر غير مبرر، وأوضح قائلاً: «إذا تخلينا عن المتنزه اليوم بسبب انعدام الأمن، لن يتم فتحه مرة أخرى، وسيستقر المتطرفون به؛ سوف يعدون ذلك المتنزه أرضاً مشاعاً لا صاحب لها، ويستخدمونها كقاعدة لهم».
وقد تمكنت القوات الخاصة الفرنسية من إقامة كمين للمختطفين في بوركينا فاسو تحت جنح الليل، وتمكن أفراد القوات الخاصة من قتل 4 من العناصر الإرهابية المسلحة، في حين تمكن 2 من الهرب. ولكن راح ضحية تلك العملية من جانب القوات الفرنسية سيدريك دي بيربونت (32 عاماً) وألين بيرتونسيلو (27 عاماً). وتم إنقاذ السائحين الفرنسيين ورهينتين آخرين. وكان المختطفون يقتادون رهائن إلى خلايا إرهابية في مالي، بحسب الجيش الفرنسي.
وكان قد تم قتل غبيدجي قبل أيام من مهمة الإنقاذ مايو الماضي، وتم العثور على جثته في بوركينا فاسو، بحسب ما ذكر مارسيل باغلو، المدير العام لجهاز الأمن الداخلي في بنين. ولم يتبقِ من جثمان غبيدجي سوى جمجمته، وبعض قطع من عظامه وملابسه. وتم التعرف عليه من بنطاله على حد قول باغلو. وتم دفن غبيدجي تحت كومة من الحجارة على شكل صليب داخل المتنزه.
مع ذلك، لا يزال الغموض يلفّ عملية الاختطاف، حيث لم تعلن أي من الجماعات الإرهابية مسؤوليتها عن الحادث، ورفض السائحان الفرنسيان إجراء أي مقابلة، كذلك لم تسمح الحكومة الفرنسية لمسؤولي بنين بإجراء مقابلة معهما، كما أوضح باغلو.
وعلى الجانب الآخر، أشار خبراء إلى أن الهجوم لا يعني بالضرورة تسلل المسلحين إلى بندجاري واختراقهم لها، بل محاولتهم القيام بذلك. وأوضحت ثيروكس قائلة: «لا نعرف حتى الآن مستوى توغلهم، لكن من الواضح أن تلك المنطقة قد باتت هدفاً استراتيجياً لهم». واتخذت سلطات بنين خطوات أخرى، من بينها خطوات تتعلق بأفراد قبيلة الفولاني، وهم من البدو الرحل الذين جنّدهم المتطرفون في بلاد أخرى. وقد شيدت بنين على مدى 7 سنوات أسواراً ومدارس ومراكز شرطة، حيث تقيم القبيلة «حتى يشعروا أنهم من مواطني بنين»، كما يشير باغلو الذي أضاف: «لا توجد دولة في أفريقيا قادرة على حماية حدودها وحدها». ومع ذلك، يخشى البعض في ناتيتينغو من أن تكون الإجراءات التي تتخذها الحكومة غير كافية ومتأخرة.
وقالت بريسكا، شقيقة غبيدجي، إنه عندما تم قتل شقيقها، كانت تلك هي المرة الأولى التي يخطر ببالها أن خطر الإرهاب يمكن أن يصل إلى بنين. وهي تعتقد حالياً أن ذلك الخطر قد ضرب بجذوره في البلاد، وأضافت قائلة: «لا يوجد دخان بلا نار». كذلك قالت إنها تتمنى زيارة قبر شقيقها، لكنها لن تتمكن من ذلك أبداً، وتخشى مما يمكن أن يحدث في متنزه بندجاري.

*خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

بهشلي جدد دعوة أوجلان للبرلمان وأكد عدم وجود خلاف مع إردوغان

شؤون إقليمية يسود جدل واسع في تركيا حول خلافات غير معلنة بين إردوغان وحليفه دولت بهشلي (الرئاسة التركية)

بهشلي جدد دعوة أوجلان للبرلمان وأكد عدم وجود خلاف مع إردوغان

جدد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي تمسكه بدعوته لحضور زعيم حزب العمال الكردستاني السجين للحديث أمام البرلمان مشدداً على عدم وجود خلاف مع إردوغان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا استنفار أمني ألماني في شوارع برلين (أرشيفية - د.ب.أ)

توقيف فتى بألمانيا بتهمة التخطيط لتنفيذ هجوم في فترة الأعياد

تفيد السلطات الألمانية بأنها أحبطت هجمات عدة، لكن 3 أشخاص قُتلوا، وجُرح 8 في عملية طعن أثناء مهرجان في أحد شوارع مدينة زولينغن في أغسطس (آب) الماضي.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية مواجهات بين الشرطة ومحتجّين على عزل رؤساء بلديات جنوب شرقي تركيا (إعلام تركي)

إردوغان: لن نسمح باستغلال إرادة الأمة وموارد السلطة المحلية لدعم الإرهاب

أكّد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، أنه لن يتم السماح بالسياسة المدعومة بالإرهاب، بينما اعتقل العشرات في احتجاجات على عزل رؤساء بلديات بجنوب شرقي البلاد.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية قوات الشرطة تمنع نائب حزب الشعب الجمهوري المعارض دنيز ياووز يلماظ من دخول مبنى بلدية إسنيورت في إسطنبول الجمعة (إعلام تركي)

حرب شوارع في جنوب شرقي تركيا احتجاجاً على عزل رؤساء بلديات

اندلعت أعمال عنف وشغب تخللتها أعمال حرق ونهب لمحال تجارية في جنوب شرقي تركيا احتجاجاً على عزل 3 رؤساء بلديات منتخبين.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أفريقيا اجتماع مجلس الأمن القومي يبحث ملفات التهريب والجريمة المنظمة والمهاجرين غير النظاميين (موقع الرئاسة التونسية)

تونس: «عملية بيضاء» ضد الهجمات الإرهابية والتهريب على حدود ليبيا

كشفت المواقع الرسمية للداخلية التونسية أن وزير الدولة للأمن وعدداً من كبار المسؤولين أشرفوا في المنطقة الحدودية التونسية - الليبية على «عملية أمنية».

كمال بن يونس (تونس)

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».