تونس: معركة قرطاج الجديدة

بعد رحيل آخر زعماء حزب بورقيبة وبن علي وتشرذم معارضيه

تونس: معركة قرطاج الجديدة
TT

تونس: معركة قرطاج الجديدة

تونس: معركة قرطاج الجديدة

اشتد التنافس في اليومين الأخيرين بالحملة الانتخابية بين المرشحين الـ26 للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها التي تُنظَّم غداً (الأحد) 15 مارس (آذار) لاختيار خليفة للرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، آخر الزعماء التاريخيين للحزب، الذي حكم البلاد في عهد الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.
على هذا، مَن سيكون ساكن قصر قرطاج الجديد في ظل الفسيفساء السياسية والجهوية الجديدة والسباق الانتخابي الذي أفرز صراعاً قوياً بين السياسيين القادمين من محافظات الساحل، موطن بورقيبة وبن علي وغالبية السياسيين ما بين 1955، ومنافسيهم صنّاع القرار في العاصمة تونس الذين تضخّم دورهم في عهد قائد السبسي؟
وما حظوظ منافسي الطرفين من المرشحين الذين يراهنون على أصوات ملايين الناخبين من أبناء «تونس الأعماق» و«المستضعفين»؟
وهل تحدث المفاجأة... فتنتصر في هذه الانتخابات شخصية من خارج الأحزاب التي تشارك في الحكم منذ 9 سنوات، التي يحمّلها قطاع عريض من الشباب والمهمّشين مسؤولية ارتفاع الأسعار ونسب الفقر والبطالة وتدهور أوضاع الطبقتين الوسطى والفقيرة في محافظات الجنوب والوسط وأحزمة الفقر غرب البلاد وحول بعض المدن الكبرى؟

تكشف تصريحات معظم المرشحين للانتخابات الرئاسية التونسية وزعماء الأحزاب التي تدعمهم أن انتخابات 2019 ستختلف عن سابقتيها عامي 2011 و2014 عندما حضرت بقوة الصراعات الآيديولوجية بين الإسلاميين والعلمانيين الليبيراليين واليساريين.
ولقد اعتبر المرشحون البارزون، من يوسف الشاهد رئيس الحكومة، إلى منافسيه الكبار وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي، ورئيس البرلمان بالنيابة عبد الفتاح مورو، ورئيس الحكومة الأسبق المهدي جمعة أن التنافس في انتخابات 2019 يجري أساساً بين «مجموعات ضغط» (لوبيات) اقتصادية وجهوية تعمّقت تناقضات المصالح بينها. لذا استخدمت كل الأسلحة في الحملات، بما في ذلك تبادل تهم الفساد المالي والسياسي والتسبب في مفاقمة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية للبلاد التي كانت مبرّر الانتفاضات الاجتماعية والشبابية المفضية إلى إسقاط حكم زين العابدين بن علي وتفجّر الثورات الشبابية العربية مطلع 2011.

صعود «نجوم جدد»
استطلاعات الرّأي المختلفة تكشف أن بين مفاجآت الحملة الانتخابية الرئاسية التونسية صعود نجوم سياسيين جدد من بين المتمرّدين على كامل المنظومة الحاكمة منذ استقلال تونس عن فرنسا في مارس 1956. ومن أبرز هؤلاء نخبة من المثقفين المستقلين مثل الخبير الدولي في القانون الدستوري والعلوم السياسية قيس سعيد، والخبير الاقتصادي الدولي محمد الصغير النوري، والكاتب الصحافي القومي العربي الصافي سعيد.
كذلك كان بين مفاجآت الحملة الحالية بروز بعض زعماء الأحزاب الصغرى مثل وزير المالية الأسبق إلياس الفخفاخ القيادي في حزب التكتل الديمقراطي الاجتماعي، والطبيب والفنان لطفي المرايحي زعيم حزب الاتحاد الشعبي الجمهوري، والمحامي الحقوقي محمد عبو زعيم حزب التيار الديمقراطي، وكان الأخير قد أحدث مفاجأة عندما حلّ ثالثاً في الانتخابات البلدية العامة التي نُظمت في مايو (أيار) 2018.

بين السجن... والمنفى
يُضاف إلى هؤلاء مرشحون آخرون يوجّهون انتقادات حادة لكامل المنظومة السياسية، خصوصاً إلى رئيس الحكومة يوسف الشاهد زعيم حزب «تحيا تونس» والمُرشح بدوره للرئاسة وأنصاره. ويراهن هؤلاء المرشحون على كسب أصوات الغاضبين من أداء الحكومات المتعاقبة منذ 9 أعوام والمتمردين على الطبقة السياسية كلها، ويرفعون شعارات التغيير الشامل. ويتصدر هذه المجموعة رجل الأعمال والإعلام نبيل القروي زعيم حزب «قلب تونس»، وسليم الرياحي زعيم حزب «حركة الوطن الجديد»، وكلاهما مُطارَد من قبل القضاء التونسي بتهم الضلوع في الفساد المالي.
وكان القروي قد أودع السجن خلال الشهر الماضي بقرار من محكمة العاصمة، إلا أن قناته التلفزيونية وزوجته وأنصاره يتابعون حملته الانتخابية بقوة في كل محافظات البلاد وفي الدوائر الانتخابية في أوروبا. كذلك يدير الرياحي حملته الانتخابية من منفاه في فرنسا، معتمداً على أنصاره في الداخل، بسبب صدور بطاقة جلب ضده من قبل محاكم عسكرية ومدنية تونسية منذ العام الماضي.
وللعلم، صدرت ضد الرياحي والقروي قرارات قضائية بتجميد أموالهما، ورفض القضاء السماح لهما بالمشاركة في المناظرات التلفزيونية رغم موافقة رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات نبيل بافون على ذلك كتابياً.

تهم... ومناطق نفوذ
ورغم التهم الخطيرة التي وجَّهها القضاء للقروي والرياحي، ومنها تبييض الأموال والتهرّب الضريبي، فإن معظم استطلاعات الرأي تضع القروي بين مرشحي المقدمة الأربعة الأوفر حظاً بالمرور إلى الدور الثاني من السباق... وذلك بفضل شعبية بعض مشاريعه الخيرية وقناته التلفزيونية.
القروي ينافس في العاصمة تونس وفي موطنه بنزرت وبقية المدن الكبرى، مثل سوسة وصفاقس والمهدية والمنستير وقابس على المراتب الأولى مع وزير الدفاع والسياسي المخضرم الزبيدي، ورئيس الحكومة الشاهد، ونائب رئيس حزب «حركة النهضة» مورو، بجانب رئيس الجمهورية السابق المنصف المرزوقي، ورئيس الحكومة الأسبق جمعة، وزعيمة الحزب الدستوري المحامية عبير موسي... التي تحاول أن تستقطب كل خصوم «النهضة»، خاصة، في محافظات العاصمة والساحل.
ولا تستبعد الاستطلاعات ذاتها فوز الرياحي بنسبة عالية من الأصوات لأسباب كثيرة، من بينها شعبيته النسبية بين جماهير كرة القدم، خصوصاً أنصار النادي الأفريقي الذي سبق له أن تولّى رئاسته.
هذا، ووجّه النوري اللجمي، رئيس الهيئة العليا للإعلام السمعي البصري، ونائبه هشام السنوسي، مجدداً اتهامات للقروي وقناته التلفزيونية «نسمة» بانتهاك القوانين. وفرضت الهيئة على قناتي «نسمة» و«الحوار التونسي» خطايا مالية بتهم الانحياز للمرشحين القروي والرياحي وانتهاك قوانين الحملات الانتخابية. وتمسكت قيادة منظمة «أنا يقظ» غير الحكومية في بلاغات وتصريحات جديدة بتهم الفساد المالي التي سبق أن وجهتها إلى القروي منذ 2016، وتسببت في إيقافه. لكن بعض خبراء الاتصال والانتخابات، مثل إبراهيم الوسلاتي وخليفة بن سالم وزهير مخلوف ومنذر ثابت ومنذر بالضيافي، يعتبرون أن الإيقاف زاد من شعبية القروي عند غالبية العائلات الفقيرة، إذ نجحت جمعيته الخيرية في تقديم مساعدات مالية لنحو مليون من أبنائها خلال الأعوام الثلاثة الماضية.

«سيناريو» القروي - مورو
من ناحية أخرى، لعل أخطر سؤال يُناقش في الكواليس، وفي وسائل الإعلام الصحافية للهيئة العليا للانتخابات: ماذا لو تأهل للدور الثاني في الانتخابات السجين القروي والقيادي مورو؟
لقد اقترح الخبراء في القانون إجابات، من بينها الإفراج المؤقت عن القروي ليشارك في الدورة الثانية للانتخابات. وأعلنوا أنه في كل الحالات ستُجمّد التهم الموجهة إليه، وسيحصل على الحصانة في صورة نجاحه في السباق النهائي وإن ظل موقوفاً.
لكن من الناحيتين السياسية والأخلاقية تبدو كل الأطراف العلمانية والإسلامية في مأزق، وفي وضعية شبيهة بمناخ القطيعة والصدام الذي عاشته تونس عام 2013، قبل «اجتماع باريس»، بين الزعيمين الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي. ويومذاك اتفق الرجلان على انسحاب الإسلاميين وحلفائهم من الصفّ الأول للسلطة... وتنظيم انتخابات جديدة تفرز شراكة جديدة في الحكم يكون فيها قادة «حركة النهضة» في الصف الثاني، وخصومهم العلمانيون في الصف الأول.
كان التخوُّف من عودة تونس إلى مثل هذا المربّع الخطير وراء معارضة قياديين بارزين في «النهضة» طوال الأشهر الماضية ترشيح شخصية من داخلها للرئاسة. وكان بين هؤلاء وزير الخارجية السابق الدكتور رفيق عبد السلام، وعضو المكتب التنفيذي رضا إدريس، غير أن شخصيات قيادية أخرى مثل الوزراء رضا السعيدي وعبد اللطيف المكي والحبيب الدبابي ورياض بن فضل يدعمون اليوم بقوة ترشّح مورو، وأدلوا مع رئيس الحركة الغنوشي بتصريحات جديدة تؤكد على كون «النهضة» سيعمل فعلاً على إيصال الشيخ مورو إلى قصر قرطاج. كذلك أوضحوا أن ترشيح النائب الأول للحركة لمنصب رئاسة الجمهورية «ليس تكتيكاً انتخابياً ظرفياً أو مناورة سياسية تمهيداً لمفاوضات سياسية في الكواليس مع أحد المرشحين البارزين لمنافسته في السباق نحو قصر قرطاج (أي رئيس الحكومة الشاهد ووزير الدفاع الزبيدي)، والقروي نفسه وإن كان موقوفاً».
بل ذهب الغنوشي أبعد من ذلك، فأدلى بتصريح لوسائل الإعلام أعلن فيه عن مشاورات تجريها قيادة «النهضة» مع رئيس الجمهورية السابق المرزوقي ورئيس الحكومة الأسبق حمادي الجبالي ومع محامي السجناء الإسلاميين سيف الدين مخلوف لإقناعهم بالانسحاب لمصلحة مورو بحجة أنه «الأوفر حظاً في الفوز بين الأوفياء لثورة 14 يناير (كانون الثاني) 2011».

«لوبيات» الجنوب والساحل
في الأثناء، حرّكت بعض «مجموعات الضغط» المالية والسياسية الورقة الجهوية، في محاولة لكسب دعم الخزان الانتخابي الكبير في المحافظات الرئيسية:
- في محافظات «الساحل» السياحي والصناعي، أي سوسة والمنستير والمهدية - حيث موطن الرئيسين الأسبقين بورقيبة وبن علي وعدد كبير من كوادر الدولة خلال السنوات الـ65 الماضية - برزت تحرّكات علنية لاختيار مرشح من أبناء الجهة بعد انتقال الرئاسة مع قائد السبسي إلى العاصمة. وفي هذا السياق يُفهم دعم عدة «لوبيات» لوزير الدفاع الزبيدي، وبدرجة أقل لمهدي جمعة وعبير موسي.
- في محافظات تونس الداخلية بالجنوب الغربي و«الحوض المنجمي» والجهات الزراعية الفقيرة مثل قفصة وسيدي بوزيد وسليانة والقصرين والقيروان والكاف وجندوبة، تنشط «لوبيات» لدعم مرشحين محليين كالكاتب الصحافي الصافي سعيد، ومحمد الهاشمي الحامدي زعيم حزب «تيار المحبة»، وحمّة الهمامي زعيم الحزب العمال الشيوعي والجبهة الشعبية اليسارية، والمنجي الرحوي زعيم حزب الوطنيين الديمقراطيين، بجانب الجامعي الاقتصادي محمد الصغير النوري. وكان الحامدي قد فاز بالمرتبة الأولى في سيدي بوزيد، والهمامي في محافظة سليانة في انتخابات 2014 لأنهما يتحدران منهما.
- في محافظات «العاصمة» الأربع، وهي من أهم الخزانات الانتخابية وطنياً، تدعم «لوبيات» قوية رئيس الحكومة يوسف الشاهد، «الابن الروحي» السابق للرئيس قائد السبسي، ولعدد من كبار أعيان العاصمة في عهد الرئيس بورقيبة تحت تأثير زوجته وسيلة بن عمار، ورائدة الحركة النسوية راضية الحداد، والوزير الحقوقي حسيب بن عمار... وهؤلاء جميعاً من أقرباء الشاهد وعائلته. وفي المقابل، تدعم «لوبيات» أخرى من تونس الكبرى، مورو، «أصيل» الجهة وأحد رموز التيار المحافظ، الذي اختلف منذ عشرات السنين مع المدارس الإسلامية المتشددة الشرقية، ودعا إلى الانفتاح والاعتدال والتمسك بالخصوصيات التونسية الوطنية ثقافياً وسياسياً، إلا أن الشاهد ومورو يتعرّضان اليوم «للقصف الإعلامي» من قبل خصومهما بسبب انتمائهما إلى الحزبين الكبيرين اللذين يحكمان البلاد منذ 5 سنوات، أي «نداء تونس» و«حركة النهضة». ثم هناك قوى أيضاً في محافظات العاصمة، تسعى إلى استغلال هذه الثغرة لدعم موسى، المرشحة المعادية لهما بقوة زعيمة «الحزب الدستوري» أو مرشح «حزب التيار الديمقراطي» محمد عبو أو الجامعي قيس سعيد.
- في مدينة صفاقس، ثاني كبرى المدن التونسية وفي بقية محافظات الجنوب والوسط، يبدو السباق على أشده بين مرشحي «التيار المدني» بزعامة الشاهد والزبيدي، بجانب مورو، ومنافسيهم المعارضين لكل المرشحين القريبين من الائتلاف الحاكم، وبينهم وزير المالية الأسبق إلياس فخفاخ، ابن الجهة، والمرزوقي وعبو وقيس سعيد والحامدي. ولقد نظمت أكبر الاجتماعات الانتخابية لمعظم المرشحين في صفاقس، خصوصاً بالنسبة لحزبي الشاهد و«النهضة» وأنصار الزبيدي. واليوم، التنافس محتدم على أصوات أكثر من مليوني ناخب من محافظات صفاقس والجنوب، لأن معظم هؤلاء صوتوا في انتخابات 2014 البرلمانية لقوائم «النهضة»، وفي الانتخابات الرئاسية للمرزوقي... ضد قائد السبسي وحزبه.

ورقة الخارج...؟
مع هذا، فإن أوراقاً مهمة كثيرة في التنافس الانتخابي الحالي ليست محلية. ولا تخفي الحملات الانتخابية اقتناعاً بكون العواصم الغربية والعربية تدعم مباشرة، أو غير مباشرة، بعض المرشحين وتعارض فوز آخرين. أيضاً يراهن المتنافسون على دخول قصر قرطاج على أصوات مليون و200 ألف تونسي وتونسية في المهجر مقسّمين على 6 دوائر انتخابية؛ اثنان منها في فرنسا، والبقية في إيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة والبلدان العربية.
ورغم ضعف نسب مشاركة المهاجرين في الانتخابات بسبب بُعد المسافات التي تفصلهم عن مراكز الاقتراع في مقرات السفارات والقنصليات، فإن أنصار أبرز المرشحين نظموا اجتماعات انتخابية استعراضية في فرنسا وألمانيا وإيطاليا. ولقد وظّفت هذه الاجتماعات للدعاية كذلك للمرشحين للانتخابات البرلمانية التي تنظم في 6 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، التي ستؤدي إلى انتخاب 18 مهاجراً بالمقاعد المخصصة لهم في البرلمان.
وسواء تعلق الأمر بالدوائر الانتخابية الستة في المهجر أو الدوائر الـ27 داخل البلاد، فإن الناخبين والمراقبين لا يعرفون حقاً اسم الرئيس الذي ستفرزه الصناديق، بما يضفي مصداقية على المسار الديمقراطي التعددي التونسي رغم نقائصه.


مقالات ذات صلة

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

حصاد الأسبوع الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين…

الشيخ محمد (نواكشوط)
حصاد الأسبوع ميرتس

فريدريش ميرتس... محافظ وواقعي يقود سفينة الديمقراطيين المسيحيين الألمان في حقبة صعبة

انتظر فريدريش ميرتس 23 سنة قبل تحقيق طموحه بأن يصبح المستشار الألماني؛ إذ كان زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ الذي قاد حزبه إلى الفوز بالانتخابات

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع شولتز (رويترز)

ألمانيا: حسابات الداخل والخارج تدفع نحو تسريع التفاهم على الائتلاف الحاكم الجديد

تنتظر ألمانيا أسابيع، أو حتى أشهراً، من المفاوضات بين حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (المحافظ) بزعامة فريدريش ميرتس الذي فاز بالانتخابات الأخيرة،

«الشرق الأوسط» ( برلين)
حصاد الأسبوع زامير

إيال زامير... رئيس الأركان الإسرائيلي الجديد عسكري من خارج معارك السياسة

لم يعرف الجيش الإسرائيلي في تاريخه وضعاً أصعب من الوضع الذي يعيشه اليوم، لدى استعداده لاستقبال رئيس أركانه الجديد، إيال زامير. صعب، ليس لأنه يعاني من نقص في الذخيرة والعتاد، ولا لأنه ثبت فشله في تحقيق أي من أهداف الحرب على غزة، بل إن المشكلة الراهنة والاستثنائية هي أنه يفقد مزيداً من ثقة الناس، ويتعرّض في الوقت ذاته إلى حملة تحريض شعواء من الحكومة ورئيسها ووزرائها وجيش «النشطاء» في الشبكات الاجتماعية التابع لحزب «الليكود» الحاكم. هذه المشكلة تُدخل الجنرالات في أجواء توتر دائم وتهزّ ثقتهم بأنفسهم؛ ولذا فبعضهم يحاول إرضاء الحكومة بالنفاق، والبعض الآخر يحاول إرضاءها بتشديد القبضة ضد الفلسطينيين، وثمة فئة ثالثة أفرادها يرفضون فيستقيلون، وآخرون يرفضون ويبقون «دفاعاً عن أهم ركن من أركان الدولة العبرية» معتبرين أن الجيش يعيش موجة عابرة سيستطيع تجاوزها. ومع كل هذا، الجميع يشعرون أنهم في قلب معركة أقسى عليهم من الحرب على ست جبهات، ولا أحد سيخرج منها بلا جروح.

نظير مجلي (القدس)
حصاد الأسبوع تعزيز سلاحي الدبابات والمدرعات في مقدم المطالبات الإسرائيلية لتطوير قدرات الجيش (آ ف ب)

رسالة مفتوحة إلى زامير من أكاديمي استيطاني يميني

إحدى الإشارات التي تدل على ما هو مطلوب من رئيس الأركان الإسرائيلي الجديد إيال زامير، وردت على شكل رسالة مفتوحة وجّهها إليه الدكتور عومر أريخا؛ وهو ناشط يميني.


اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
TT

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين اتهمها بتمويل جماعات إرهابية من بينها «بوكو حرام»، التنظيم الإرهابي الذي يخوض حرباً داميةً ضد نيجيريا منذ 2009، قتل فيها عشرات آلاف النيجيريين. في نيجيريا لا صوتَ يعلو اليوم على مطالب التحقيق في مزاعم وصول أموال الوكالة الأميركية إلى «بوكو حرام»، ومحاسبة المتورطين في القضية جميعاً؛ لأن النقاش الذي يدور في الصحافة المحلية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، أخذ أبعاداً خطيرة بعد اتهام شخصيات في الوسط السياسي والمجتمع المدني بأنها متورطة في إيصال أموال الوكالة إلى التنظيم الإرهابي. واتسعت دائرة الجدل ليطرح أسئلة حول خطورة أموال المساعدات الخارجية على الأمن القومي للدول المستفيدة منها، خصوصاً إثر الكلام عن دور سياسي لعبته تمويلات «الوكالة» في خسارة الرئيس النيجيري الأسبق غودلاك جوناثان رئاسيات 2015.

منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، في يناير (كانون الثاني) الماضي، وقَّع الرئيس العائد عدداً من القرارات أو «الأوامر التنفيذية»، التي كان في مقدمها قرار بتعليق جميع المساعدات الخارجية الأميركية باستثناء تلك المخصَّصة لمصر وإسرائيل. وكانت الذريعة، انتظار التدقيق في نشاطات «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» التي ظلت لأكثر من 7 عقود تمثّل وجه الدبلوماسية الناعمة للولايات المتحدة.

ترمب يريد اليوم طيّ حقبة هذه الوكالة، وأسند مهمة تفكيكها إلى الملياردير إيلون ماسك، وزير «كفاءة العمل الحكومي» في فريقه الخاص. ولم يتأخر الأخير في وضع يده على جميع وثائق الوكالة، التي وصفها بأنها «عشٌ للأفكار اليسارية المتطرفة التي تكره أميركا».

هذا النقاشُ ظل أميركياً خالصاً، حتى جاءت تصريحات سكوت بيري، عضو الكونغرس عن ولاية بنسلفانيا، لتخرج به نحو دوائر أبعد. إذ قال الرجل إن 697 مليون دولار أميركي من التمويلات السنوية لـ«الوكالة» تنتهي بحوزة تنظيمات إرهابية، من بينها جماعة «بوكو حرام»، وجماعة «طالبان»، وتنظيم «القاعدة».

تصريحات بيري جاءت خلال جلسة استماع للجنة الفرعية لمراقبة كفاءة الحكومة، تحت عنوان «الحرب على الهدر: القضاء على ظاهرة المدفوعات غير المشروعة والاحتيال». وقال بيري أمام اللجنة: «أموالكم تذهب لتمويل الإرهاب، عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية... يجب أن يتوقف هذا فوراً».

وأضاف بيري في حديثه أمام لجنة الاستماع أن الوكالة خصَّصت 136 مليون دولار لبناء 120 مدرسة في باكستان، إلا أنه لم يُعثر على أي دليل يثبتُ تنفيذ هذه المشاريع، معتبراً أن ذلك يثير الشكوك حول مصير هذه الأموال.

علم "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (آ ف ب)

مطالب التحقيق

تصريحات عضو الكونغرس أثارت بطبيعة الحال جدلاً واسعاً في نيجيريا، وحظيت بحيّز واسع من التداول في الصحافة المحلية. وخلال برنامج تلفزيوني على قناة محلية لنقاش تصريحات سكوت بيري، قال علي ندومة، عضو مجلس الشيوخ في نيجيريا عن ولاية بورنو، إن على نيجيريا فتح «تحقيق شامل حول الادعاءات التي تفيد بأن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تموّل (بوكو حرام)».

وأردف السياسي النيجيري الذي ينحدرُ من بورنو، أكثر ولايات نيجيريا تضرراً من هجمات «بوكو حرام» الإرهابية: «لا يمكنكم القول إنها مجرد مزاعم، الأمر يتجاوز ذلك. ولهذا السبب يتوجَّب على الحكومة النيجيرية، والبرلمان الوطني على وجه الخصوص، التحقيق في هذه الادعاءات والتحقّق من صحتها، لأنها خطيرة للغاية».

ثم تابع ندومة: «هذا التطوّر مقلق للغاية، خصوصاً أن إحدى الجماعات الإرهابية التي ذكرها سكوت بيري هي (بوكو حرام)، التي لم تدمّر شمال شرقي نيجيريا فحسب، بل امتد تأثيرها أيضاً إلى مناطق أخرى من البلاد. تتذكرون أن (بوكو حرام) فجَّرت مقر الشرطة، ومكتب الأمم المتحدة في أبوجا، وكانت الخسائر البشرية هائلة. لذا، يجب أن تكون الحكومة النيجيرية مهتمةً بهذا الأمر».

ومن ثم، أعرب ندومة عن قلقه الكبير حيال هذه المزاعم، لافتاً إلى أن «أجهزة الأمن النيجيرية سبق أن أثارت هذه القضية بشكل غير مباشر مرات عدة»، في إشارة إلى تصريحات أدلى بها قائد أركان الجيش النيجيري أخيراً ذكرت أن «دولاً ومنظمات أجنبية» متورطة في تمويل «بوكو حرام». وخلص عضو مجلس الشيوخ النيجيري إلى التأكيد على ضرورة التحقيق في هذه المزاعم، وأن الجميع «كان يتساءل منذ سنوات طويلة عن مصدر تمويل هؤلاء الأشخاص».

قرويون نيجيرون إثر تعرّض قريتهم لإحدى هجمات "بوكو حرام" (آ ب)

المسلمون... و«بوكو حرام»

في الواقع، لأكثر من 15 سنة، دأبت جماعة «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا، وكان السؤال الذي يُطرَحُ بإلحاح من قِبَل الجميع هو: مَن يقف خلف هذا التنظيم الإرهابي؟ ومَن يوفر له التمويل والسلاح... ويمكِّنه من تجنيد آلاف الشباب المحبطين وفاقدي الأمل؟.

طيلة تلك الفترة، كانت أصابع الاتهام توجَّه إلى زمر من المسلمين الذين يشكلون غالبية سكان شمال نيجيريا، حيث تنشط الجماعة الإرهابية. ولكن مع إثارة الجدل حول مزاعم تمويل «بوكو حرام» عبر «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» أصدرَ «مركز الشؤون العامة للمسلمين» في نيجيريا بياناً يستحضر فيه اتهامات سابقة للمسلمين بتمويل الجماعة.

ولقد طلب «المركز» من البرلمان النيجيري التحقيق في تلك المزاعم، وأعرب رئيسه ديسو كامور، عن «قلقه العميق إزاء هذه الادعاءات»، قبل أن يستحضر «حملة التدقيق والاتهامات الظالمة التي واجهها المسلمون النيجيريون، ومنها التعاطف مع (بوكو حرام)».

وقال كامور: «إذا كانت هذه المزاعم صحيحة، فإنها ستكشف نفاق أولئك الذين ألقوا باللوم على المجتمعات المسلمة المحلية، بينما كانت جهات خارجية تدعم الإرهابيين». وطالب، بالتالي، السلطات النيجيرية بالتحقيق في المزاعم لأن «النيجيريين يستحقون الشفافية والمساءلة بشأن أي تورّط أجنبي في تمويل الإرهاب على أراضينا».

شكوك كبيرة

من جانبه، ذهب آدامو غاربا، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية في نيجيريا، والقيادي في حزب «المؤتمر التقدمي الشامل»، إلى أن «شكوكاً كبيرة» تحوم حول تمويلات الوكالة في نيجيريا، وأعلن تصديقه للادعاءات بأن بعض التمويلات قد تكون بالفعل أسهمت في تسليح «بوكو حرام» و«داعش في غرب أفريقيا».

وادعى غاربا، في مقطع فيديو نشره عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «إكس»، أن «الوكالة» أنفقت مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا العام الماضي، وتساءل عن طريقة صرف هذا المبلغ الكبير.

ثم أضاف: «ذكرتُ سابقاً أن (بوكو حرام) و(داعش)، ومختلف التنظيمات الإرهابية في المنطقة، تتلقى أسلحتها عبر جهات أجنبية سرّية تموّلها وتزوّدها بالسلاح. وبعد الكشف عن دور (الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، يكفي أن نعرف أنه في العام الماضي وحده، أنفقت الوكالة مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا، فأين ذهب هذا المال؟ هل تعلم ماذا يعني 824 مليون دولار؟ عند تحويله إلى النيرة (العملة النيجيرية)، يساوي 1.3 تريليون نيرة».

واستطرد قائلاً: «هذا يعني أن كل ولاية يمكن أن تحصل على 36 مليار نيرة، ومع ذلك، يزعمون أنهم أنفقوا هذه الأموال على الحدّ من وفيات الأطفال والتعليم، لكن ماذا رأينا؟ لا شيء. متى دخل هذا المال؟ وأين ذهب؟ هذه الأموال تذهب لتمويل (بوكو حرام)، والخاطفين الذين يستخدمونها للقتل وتدمير بلادنا، هذه هي الحقيقة».

قضية باينانس

في سياق موازٍ، بينما يحتدم النقاش في نيجيريا حول اتهام «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» بتمويل أنشطة «بوكو حرام»، اتهم فيمي فاني-كايودي، وزير الطيران السابق في نيجيريا، أخيراً، مسؤولاً تنفيذياً في شركة باينانس، أكبر منصة عالمية لتداول العملات الرقمية، بالتورط في إيصال التمويلات إلى الجماعة الإرهابية.

وزعم الوزير السابق إن تيغران غامباريان، المسؤول التنفيذي في شركة «باينانس» كان «أداة» استخدمتها الوكالة لتمويل الجماعة، قبل أن يصف غامباريان بأنه كان «عامل تمكين للإرهاب وأسهم في تخريب اقتصاد نيجيريا».

وللعلم، اعتُقل غامباريان في نيجيريا العام الماضي بعد اتهام السلطات النيجيرية شركة «باينانس» بالتهرب الضريبي، والتورّط في عمليات غسل أموال، بالإضافة إلى المساهمة في إضعاف العملة المحلية «النيرة». إلا أنه أُفرِج عن الرجل؛ بسبب تدهور وضعه الصحي، بينما تشير بعض المصادر إلى أن السلطات النيجيرية تعرَّضت لضغط دبلوماسي أميركي كبير.

وفي آخر تطور للقضية، رفعت نيجيريا دعوى قضائية في الأسبوع قبل الماضي ضد منصة «باينانس»، تطالبها بدفع 79.5 مليار دولار، تعويضاً عن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن عملياتها في البلاد، بالإضافة إلى مليارَي دولار ضرائب متأخرة عن العامين الماضيين.

تمويل دون قصد!

في أي حال، لا يخلو النقاش الدائر في نيجيريا حول العلاقة بين «الوكالة» و«بوكو حرام» من حسابات سياسية ضيقة. ومن الأصوات التي بدت أكثر رصانةً، السفير والخبير الأمني نورين أبايومي موموني، عضو «حزب المؤتمر التقدمي» الحاكم، الذي نشر مقالاً تطرَّق فيه إلى طريقة عمل المنظمات الدولية، مشيراً إلى أنها تحتاج إلى المراجعة، لأنها قد تُموِّل أنشطة إرهابية «دون قصد».

وتابع: «أنا قلق للغاية بشأن الاتهامات الأخيرة» التي تفيد بأن الوكالة قد تكون دعمت الإرهاب دون قصد في نيجيريا ومناطق أخرى من العالم... «هذه الادعاءات تثير تساؤلات جوهرية ليس فقط حول نزاهة المساعدات الإنسانية، ولكن أيضاً حول تداعياتها الأوسع على الأمن العالمي، والعلاقات الدبلوماسية».

وأضاف أبايومي موموني أن «على الوكالات الدولية العاملة تقديم الدعم الإنساني من دون الإضرار بأمن المجتمعات المستضيفة». ورأى أن الاتهامات الأخيرة تؤكد «الحاجة الملحة إلى تعزيز الرقابة والمساءلة في برامج المساعدات الدولية. ومن الضروري أن تعزز وكالات مثل الوكالة الأميركية آليات المتابعة والتقييم والتدقيق؛ لضمان أن تصل المساعدات إلى مستحقيها ولا يتم تحويلها لدعم التطرف العنيف».

وأوضح أنه «إذا ثبتت صحة هذه الادعاءات، فقد تؤدي إلى زيادة التدقيق في سياسات المساعدات الخارجية الأميركية، ما يستدعي عملية إصلاح جذرية... لأن اتباع نهج شفاف في تمويل المساعدات والالتزام بالمعايير الأخلاقية في تقديم الدعم الإنساني أمران أساسيان. وبالتالي، على الحكومة الأميركية أن تعزز التزامها بمنع تمويل الإرهاب، واتخاذ التدابير اللازمة لضمان أن تكون المساعدات وسيلةً لتحقيق السلام والاستقرار، لا العنف».

المال السياسي

غير أن الاتهامات الموجَّهة إلى «الوكالة» لم تقتصر على تمويل الإرهاب في نيجيريا، بل وصلت إلى أن بعض تمويلاتها أسهمت في التأثير على الانتخابات الرئاسية في البلد الذي يملك الاقتصاد الأكبر في غرب أفريقيا، والذي يبلغ تعداد سكانه نحو ربع مليار نسمة.

إذ كتبت الصحافة المحلية، ونشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، عن «علاقة» ربطت «الوكالة» مع قيادة حملة «أعيدوا فتياتنا» التي أطلقها ناشطون في المجتمع المدني عام 2014 إثر اختطاف «بوكو حرام» مئات الفتيات من بلدة شيبوك في قضية هزَّت الرأي العام العالمي آنذاك. ولقد ادعى ناشطون سياسيون أن الحملة كانت مدعومة سراً من «الوكالة» بهدف الإطاحة بالرئيس النيجيري آنذاك، غودلاك جوناثان، بعد حملة واسعة لتشويه سمعته، ربطه بالفشل، وحمَّلته مسؤولية اختطاف الفتيات والعجز عن تحريرهن، ما فتح الباب واسعاً أمام فوز محمدو بخاري بانتخابات 2015 الرئاسية.

كذلك تعرَّضت الناشطة النيجيرية عائشة يسوفو، التي كانت من أبرز وجوه الحملة، لهجوم حاد على منصة «إكس»، حين طالبها البعض بتقديم تفسير أو اعتذار، لكن الناشطة النيجيرية في ردِّها على هذه الاتهامات، نفت أي علاقة لها أو للحملة بـ«الوكالة» أو أي منظمة دولية أخرى. وقالت في تغريدة مقتضبة: «أنا أعمل مع نيجيريين ملتزمين ببناء أمة عظيمة، بعيداً عن نظريات المؤامرة والتشكيك». لأكثر من 15 سنة دأب تنظيم «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا... وكان السؤال المطروح بإلحاح:

مَن يقف خلفه؟