ربما يكون أكثر مخارج خطوط الأنفاق روعةً وبهاءً على مستوى العالم هو مَخرج «قصر الأوبرا» في العاصمة الفرنسية باريس. إذ تأخذك درجاته الأخيرة إلى ما يشبه البطاقة البريدية الكلاسيكية الحية الرائعة لقصر «غارنييه» العتيق ومسرحه السالب للعقول من روعة تصاميم الباروك، وعصر النهضة، مع الزخارف المبهجة التي تخطف الأبصار متى حلت أو ذهبت.
يرجع القصر المنيف بتصميمه إلى أعمال تشارلز غارنييه –يمكن العثور على نصبه التذكاري الخاص قائماً في مدخل القصر الكبير– وبتشييده إلى ما بين عامي 1861 و1875. وكان قصر غارنييه حتى عام 1989 يضم كلاً من «أوبرا باريس»، و«باليه أوبرا باريس»، وذلك قبل انتقال أعمال الأوبرا كافة إلى خصم غارنييه اللدود، وهو مسرح «أوبرا باستيل» الجديد، والحديث، وواسع النطاق من الطراز المعاصر.
بيد أن قصر غارنييه المنيف كان على الدوام أكثر من مجرد كونه بيتاً للأوبرا الفرنسية. بل كان أحد المعالم الرئيسية التي صاغت الهوية المدنية للعاصمة الفرنسية باريس، على غرار كاتدرائية نوتردام التي لا تخطئها العين، أو قوس النصر الذي يتوسط جادة الشانزليزيه الشهيرة. إذ انتقل القصر في رحلته الفنية الطويلة من الأعمال الكلاسيكية العريقة إلى ثقافة البوب الحديثة، مما ألهم الصحافي والروائي الفرنسي غاستون ألفريد ليرو تأليف رائعته الأدبية المعروفة برواية «شبح الأوبرا» في عام 1910 التي أعقبتها المقطوعة الموسيقية الشهيرة التي تحمل الاسم نفسه من تأليف الملحن الإنجليزي البارز أندرو لويد ويبر في عام 1986، مما أضفى روحاً من الإثارة التي لا مثيل لها ولا تضاهيها في روعتها إلا دار الأوبرا نفسها.
وبالدخول إلى القصر يتبدى لك شعور باللمحة الساحرة التي خلّفها تشارلز غارنييه على المكان بأسره. مهما تجولت بناظريك فلن تجد بقعة لا تحمل قدرها المعتبر من الزخرفة والزينة. وترى السلالم الكبيرة كأنها مسروقة لتوّها من أحد كتب الحكايات الخيالية الشيقة. ثم ترفع رأسك إلى السماء لتجد ثريات «صالون دو لا لون» و«صالون دو سوليّ» وانعكاساتها في المرايا في سرمدية لا تنتهي. كما البهو الرئيسي ومفروشاته وتحفه التي تذكّرك بفنون الباروك القديمة، حيث الأعمدة المزخرفة، والثريات متعددة المستويات، والأسقف المرسومة بعناية فائقة، التي تمنحك شعوراً خاصاً بالبهاء والفخامة والسمو كما لو كنت نجم قصة من قصص الحكايات الخيالية لليلة واحدة لا تفارقها الذاكرة.
ومنذ ما يقرب من قرن ونصف القرن على افتتاح قصر غارنييه، جرى تحديث المبنى بصفة متكررة، بما في ذلك نظم الإضاءة الكهربائية التي تم تركيبها في ثمانينات القرن التاسع عشر. كما أضافت المصابيح التي وُزعت بين مختلف غرف الملابس لمسة عصرية حديثة على المكون الأثري العتيق، رغم أن غرف الكواليس الخلفية مخصصة في الآونة الراهنة لخدمة أعمال البروفات الخاصة بعروض الباليه مثل نسخة «بحيرة البجع» الخاصة للغاية من أعمال راقص الباليه الروسي العالمي رودولف خاميتوفيتش نورييف. ومن أبرز مكونات مسرح القصر العتيق شهرة هي الثريّات والأسقف المزخرفة التي تحيط بك أينما حللت من جنباته. وهي في الأصل من أعمال الفنان الفرنسي جول يوجين لينيفيو، والتي استُبدلت في عام 1964 بأعمال الفنان الفرنسي الروسي مارك شاغال التي تصف مشاهد من أوبرا موتسارت وفاغنر وغيرهما.
والمسرح كبير وفخم للغاية غير أنه قريب جداً للنفس في ذات الوقت، مع عدد المقاعد فيه أدنى من ألفي مقعد، وهو ما يقرب من نصف مساحة أوبرا متروبوليتان في نيويورك. وتبلغ المقاعد الفاخرة ذات اللون الخمري الداكن ذروة إشغالها في اللحظات الأخيرة قبل بداية أي عرض على المسرح الكبير، وذلك مع إغلاق الممرات الوسطى التي تتناثر عليها الكراسي المطوية حتى لا تكون هناك مساحة فارغة قط في صالة المشاهدة الواسعة.
شهدت الباليه التي ألّفها الروسي البارع تشايكوفسكي امتزاجاً عجيباً في قصر غارنييه. ففي عام 2016، أعاد المخرج المسرحي الروسي دميتري تشيرنياكوف توحيد باليه «كسارة البندق» مع شقيقتها باليه «لولانتا»، وكلتاهما من تأليف تشايكوفسكي، في أمسية من حبكة مسرحية طافت بين دهاليز العملين الكبيرين اللذين يتلمسان شتى جوانب الحياة السوفياتية في منتصف القرن العشرين.
وللوهلة الأولى، كان أداء رودولف نورييف لباليه «بحيرة البجع»، والتي عُرضت للمرة الأولى في عام 1984، أداءً مفعماً بالتقليدية والرصانة، مع سمات مميزة لكلاسيكيات القرن التاسع عشر في كل تفاصيلها من التنورات القصيرة البيضاء وأغطية الرأس من الريش. غير أن نورييف قرر إضافة بُعداً فرويدياً نفسياً شديد الظلمة والحداثة على واحدة من أشهر المآسي المعروضة على مسارح الباليه العالمية.
وبمناسبة حلول الذكرى الـ350 لأوبرا باريس خلال العام الجاري –مع الذكرى الثلاثين لنسختها الحديثة المعروفة بقصر الباستيل– قررت الشركة إطلاق سلسلة من الأعمال الفنية «الاحتفاليات» من أعمال الفنان الفرنسي المعاصر كلود ليفيك. وأحد هذه الأعمال، التي خرجت عن ورشة أوبرا باريس الفنية، عبارة عن زوج من الإطارات المذهّبة التي امتزجت بكل سلاسة، مع إضفاء قدر معتبر من الإيقاع والتناغم، إلى درجات سلم قصر غارنييه الكبير.
- خدمة «نيويورك تايمز»
نظرة خلف الستائر في أوبرا باريس العريقة
ألهمت الروائي غاستون ألفريد ليرو كتابة «شبح الأوبرا»
نظرة خلف الستائر في أوبرا باريس العريقة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة