«الدرون» قادرة على الوصول إلى هدفها من أرخص وأقصر نقطة

انتقلت من يد الدول إلى المنظمات والميليشيات... واستخدام الحوثيين لها هو المثال الأبرز

«درون» أطلقها الحوثيون باتجاه السعودية وعرضتها وزارة الدفاع السعودية في قاعدة الخرج (رويترز)
«درون» أطلقها الحوثيون باتجاه السعودية وعرضتها وزارة الدفاع السعودية في قاعدة الخرج (رويترز)
TT

«الدرون» قادرة على الوصول إلى هدفها من أرخص وأقصر نقطة

«درون» أطلقها الحوثيون باتجاه السعودية وعرضتها وزارة الدفاع السعودية في قاعدة الخرج (رويترز)
«درون» أطلقها الحوثيون باتجاه السعودية وعرضتها وزارة الدفاع السعودية في قاعدة الخرج (رويترز)

صارت طائرة «الدرون» علامة فارقة في الحروب الحديثة. وفي منطقتنا تبرز هذه الطائرات في مختلف المواجهات قادرة على اختراق الأجواء والوصول إلى الهدف وتنفيذ الاغتيالات بتقنية عالية بعيداً عن عيون أجهزة الرادار. العملية الأخيرة التي نفذتها إسرائيل بطائرتين مسيرتين أصابتا هدفهما في الضاحية الجنوبية من بيروت كادت تشعل حرباً واسعة بين لبنان وإسرائيل. لكن امتلاك «الدرون» الصغيرة وقليلة التكلفة لم يعد مقتصراً على الإسرائيليين، مع أنهم أكثر من توسع في إنتاجها وتصديرها. لقد صارت في أيدي دول كثيرة وميليشيات مختلفة، والصواريخ الموجهة التي يطلقها الحوثيون باتجاه الأراضي السعودية هي دليل على خطر امتلاك ميليشيات وتنظيمات إرهابية لهذا النوع من السلاح. إنها مرحلة أخرى من النزاعات، بواسطة سلاح خطر، لم يعد مقتصراً على الدول، بل صار قادراً على الوصول إلى أيدٍ عاجزة عن امتلاك السلاح التقليدي الذي كان عنوان الحروب السابقة. وفي هذه الصفحة من «قضايا» عرض من 3 خبراء عسكريين لمخاطر «الدرون» وتوسع انتشارها.
خلال ثلاثة أشهر مضت، وهي فترة زمنية قصيرة للغاية، في حال اعتبارها نموذجاً للتدقيق والبحث، نجد أن «الطائرات المسيّرة» أو (Drones) وفق التسمية المختصرة الأكثر شيوعاً، قد احتلت مساحة تأثير وتداول عريضة، على مختلف الأصعدة وساحات الصراع في المنطقة العربية، في صور بها قدر عالٍ من التنوع، بين دول تقوم باستخدامها في مهام نوعية ضد دول أخرى، مثل حالة الطائرة الأميركية «مهمة استطلاع وتجسس» التي أسقطتها المضادات الإيرانية، إلى أخرى تستخدمها في «مهام تأمين» لمصالحها، كحالة بريطانيا عندما أعلنت منذ أيام عن دفعها لسرب من تلك الطائرات إلى الخليج، في ظل حالة التوتر وتهديد الناقلات مع إيران. قبلهما عشرات الوقائع في ذات الفترة الزمنية، احتلت فيها «الدرونز» الموقع المركزي للأحداث، بل ربما المحرك لها وفق تعبير أدق، المثال في ذلك قصف الجيش الليبي مؤخراً لمطار «زوارة» المدني، على خلفية استخدامه كمركز لتشغيل وتخزين سرب من «الدرونز»، قادم من تركيا ويُستخدم لحساب حكومة الوفاق في طرابلس وفق الرواية الرسمية للجيش. وهي واقعة سبقتها مئات الأحداث المتشابهة، وإن ظلت الأخيرة تتميز بتمدد تأثيرها لمستوى أسهم في إحداث تغيير ملموس في مواقف الأطراف الدولية من الأزمة الليبية برمّتها، وفي أروقة الأمم المتحدة، التي تابعت باهتمام إفادة مبعوثها حول الأمر منذ أيام.
هذا ربما على مستوى استخدامات وأحداث لها علاقة بالدول، لكن تبقى المساحة الأخطر هي الحضور الواسع الأخير لـ«الطائرات المسيّرة»، في حلبة استخدامات «الميليشيات» المسلحة غير النظامية و«التنظيمات» الإرهابية. وهي بطبيعة نشاطاتها تخوض «حروباً غير متماثلة - Asymmetric Wars»، وتخطط وتشكل «تهديداً مبرمجاً - Programmed threat»، ضد دول وكيانات وفي بعض من أشكال الصراعات الداخلية. النموذج الأبرز في هذا المضمار يتمثل في ميليشيا الحوثي باليمن الذي استحدثت إيران عبر استخدامها بالوكالة، متغيرات عديدة في نمط التهديد الذي يشكله هذا السلاح المنخفض الكلفة، والقادر على إحداث قدر لا يستهان به من المخاطر للجوار الإقليمي، لدول مثل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، أو استخدامها في معادلات داخلية في الصراع على السلطة وهدم أركان الدولة الشرعية. فضلاً عن قدرة «الدرونز» المرنة، التي مكّنت تلك الميليشيا من التلويح باستثمار الميزة الجغرافية، من أجل تهديد ممرات ملاحية استراتيجية (باب المندب) أو حركة التجارة العالمية عبر استهداف «سفن الحاويات». هذا التنوع العريض لأنماط التهديد والاستخدامات القادرة عليها تلك التقنية الجديدة «الطائرة المسيّرة»، تدعو إلى الوقوف أمام النقاط التي ربما تستجلي المتغيرات التكتيكية المهمة التي تمكنت من استحداثها في مضمار الصراعات العسكرية، والاستخدامات المدنية على حد سواء.
شهدت الطائرات المعروفة اليوم بـ«الدرونز» على مدى عمرها، وتطورها التقني السريع الذي بدأ في عام 1946 داخل شركة «نورث روب» الأميركية، توسعاً مماثلاً في مهامها المتنوعة، فبدايتها كطائرة لجمع المعلومات الاستخبارية «استطلاع»، سرعان ما انتقلت بها للدخول إلى مجال الطائرات المقاتلة «من دون طيار»، لتزوَّد بالأسلحة بهدف القيام بالمهام الهجومية من خلال ما سُمي (UCAV)، حيث بدأت تضع بصمتها في مجال القتال التقليدي. في الوقت نفسه الذي لم يتوقف فيه تطوير ونمو الطرازات التي تُستخدم كمنصات للاستطلاع الجوي تقوم بمهام متنوعة ومعقدة. فالأنظمة الحديثة منها تمثل «منظومة قيادة، وتوجيه عملياتي»، يُسمح لها بتغطية معلوماتية على مساحة كبيرة من الأرض، ومن ثم تقوم بتوزيع المعلومات على شكل تقارير وصور للقوات الأرضية ووحدات القيادة والسيطرة، حيث تبدأ الأخيرة عملها عبر تحليل تلك الذخيرة المعلوماتية، التي تمكّنها من ترشيد إنجاز المهام الأرضية، وتطويرها عبر التصوير والبث المباشر لحظياً، الذي أصبحت أجيال «الدرونز» قادرة على أدائه بكفاءة. هذا النسق استطاع أن يحقق تغيرات تكتيكية هائلة، فقد حقق ضمانة وجود نظام متكامل للقيادة والسيطرة المعلوماتية، لم يكن متحققاً من قِبل «الدرونز»، وحقق قدرات عالية للمناورة بالنظر إلى أنها لا تحتاج إلى مطارات، فالكلفة الاقتصادية المحدودة في الإنتاج والتشغيل والصيانة انسحبت أيضاً على البنية العسكرية التحتية، فضلاً عن عوامل الأمان والحفاظ على حياة الطيارين، في اتجاه عكسي ومكافئ لتطور منظومات الدفاع الجوي والردارات الإلكترونية وأساليب الكشف الجوي.
«يمكنك أن ترى هذه الأرقام الصغيرة تتدحرج، وانفجاراً كبيراً يقع. وعندما ينقشع الدخان، هناك فقط الركام والأشياء المتفحمة»، هذه مقولة لأحد ضباط الاستخبارات المركزية الأميركية السابقين، وهو هنا يتحدث عن الجانب الآخر من الصورة التي ما لبثت هي الأخرى في التنامي، قاصداً التعبير عن قدر المخاوف من التوسع الحالي والمتسارع في استخدام «الطائرات المسيّرة» القتالية. ولعل أشهر مَن دقّ ناقوس الخطر المبكر -إلى حد ما- التقرير البريطاني الصادر في عام 2010 بعنوان «القتل المريح - الطائرات المسلحة من دون طيار وعقلية (البلاي ستيشن)»، عبر التقرير عن حقيقة الهواجس من سيطرة عقلية «ألعاب البلاي ستيشن»، على نمط استخدام وتشغيل تلك الطائرات، وأنها في العادة تُستخدم من مسافات تقدّر بآلاف الأميال، وهي بذلك تخفّض حواجز المسافة الجغرافية والنفسية ما بين مشغّل الدرونز، وبين الهدف الذي يُشن عليه الهجوم. مما يحول الأمر بدلاً من الرؤية الطبيعية للإنسان ككائن حي، إلى مجرد شفرات على شاشة التحكم، وهذا لا يُسقط كوابح الأمان فقط إنما يؤدي بالضرورة إلى ثقافة القتل المريح، الذي يدعو بالفعل إلى مراجعة هذا النوع الجديد من التكنولوجيا الفتاكة. فالقلق ينتج عن استخدام الدرونز في «القتل المستهدف» الدقيق خارج القانون، خصوصاً في مناطق النزاعات التي تزدحم بأطراف غير حكومية، مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا.
ولهذا تظل عملية التصدي لطائرات الدرونز هي التحدي الذي يؤرّق فعلياً القائمين على نشاطات التقنية والتصنيع العسكري حتى اليوم. فهي تنطوي على حزمة من المعضلات؛ إذ يصعب رؤيتها وتحديدها بالعين المجردة، وغير قابلة للكشف بواسطة «رادار» الدفاع الجوي التقليدي المخصص للكشف عن الطائرات الكبيرة، وأجيال أنظمة الدفاع الجوي العالية التقنية الفعالة –جزئياً- حتى الآن، ما زالت عالية التكلفة بالمقارنة بتكلفة الدرونز التي لا تتعدى 500 دولار في طرازات قادرة على أداء مهامها. وقد قدم أرثر ميشيل المدير المشارك لمركز دراسات الطائرات من دون طيار في «كلية بارد»، تقديراً بأن حجم عمليات الاستحواذ على التكنولوجيا المضادة للدرونز، والاستثمار في تطويرها، هي الفئة الأسرع نمواً من مجمل إنفاق وزارة الدفاع الأميركية (بنتاغون) خلال هذا العقد. وهي تعكس ليس فقط حماية الوحدات والقواعد والأساطيل العسكرية، إنما الاهتمام المتزايد له علاقة بالأنظمة المحمولة والمتنقلة، التي يمكن استخدامها لحماية الوحدات البرية المتحركة، وتمتد لتؤمّن الاستخدامات المدنية الحالية الآخذة في النمو، مثل حماية أجواء الموانئ والمطارات وتأمين الفاعليات الضخمة والشخصيات المهمة، فضلاً عن مكافحة نشاطات التهريب المتنوعة عبر الحدود البرية والأماكن التي ينشط حولها. لهذا تعكف معامل التقنية التكنولوجية على التوسع والتطوير، لإحكام السيطرة والمراقبة لهذا التنوع في المهام، باستحداث تقنيات جديدة من الترددات اللاسلكية وأجهزة الاستشعار العاملة بالأشعة تحت الحمراء، ونظيرتها المعتمدة على النبضات الصوتية. حتى يكون هناك ما يمكن تسميته بالحد شبه الآمن من قدرات الاختراق، التي صار يملكها، بتوسع «محدودية الكلفة» وبسهولة «ارتفاع التقنية»، هذا السلاح الجديد «الدرونز».
- عضو المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب والتطرف ومدير «المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية»


مقالات ذات صلة

مخاوف ألمانية بعد رصد مسيّرات مجهولة فوق منشآت صناعية وعسكرية

أوروبا قاعدة رامشتاين الجوية الأميركية (أرشيفية-رويترز)

مخاوف ألمانية بعد رصد مسيّرات مجهولة فوق منشآت صناعية وعسكرية

أعلنت السلطات الألمانية أنها رصدت تحليق طائرات مسيّرة مجهولة فوق منشآت صناعية ومواقع عسكرية حساسة؛ بينها قاعدة رامشتاين الجوية الأميركية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
أوروبا مسيّرة أوكرانية (رويترز)

مسيّرة أوكرانية تضرب منشأة للشرطة في الشيشان وتصيب أربعة

قال رمضان قديروف رئيس الشيشان إن طائرة مسيرة أوكرانية استهدفت سطح منشأة تابعة للشرطة في منطقة الشيشان في وقت مبكر من اليوم الخميس، وهي الحادثة الثانية من نوعها.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
المشرق العربي رجلان مسلحان يراقبان طريقًا من جسر في دمشق 11 ديسمبر 2024 (إ.ب.أ)

تقرير: أعضاء بالمخابرات الأوكرانية دعموا المعارضة السورية بمُسيرات

 ذكرت صحيفة «واشنطن بوست»، اليوم (الأربعاء)، أن مقاتلين سوريين تسلموا نحو 150 طائرة مسيرة، فضلا عن دعم سري آخر من أعضاء في المخابرات الأوكرانية الشهر الماضي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
أوروبا صورة لانفجار طائرة مسيّرة روسية في سماء مدينة كييف وسط هجوم روسيا على أوكرانيا في 5 ديسمبر 2024 (رويترز)

روسيا وأوكرانيا تعلنان إسقاط عشرات المسيّرات في المواجهات بينهما الليلة الماضية

أعلنت روسيا تدمير 33 طائرة مسيَّرة أوكرانية، بينما أعلنت كييف إسقاط 32 مسيَّرة أطلقتها موسكو، وذلك خلال المواجهات المستمرة بين الطرفين الليلة الماضية.

«الشرق الأوسط» (موسكو - كييف )
شمال افريقيا عناصر من الجيش السوداني خلال عرض عسكري (أرشيفية - أ.ف.ب)

السودان: المسيّرات تتساقط على عطبرة... فمَن يقف وراءها؟

استهدفت طائرات مسيّرة، فجر الأربعاء، أبنية سكنية تابعة للمعسكر الشرقي لسلاح المدفعية بعطبرة، وهو من أعرق الأسلحة للجيش السوداني.

محمد أمين ياسين (نيروبي)

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.