موسكو على خط المواجهة الإسرائيلية ـ اللبنانية

العلاقة مع تل أبيب «زواج مصلحة سرّي» مريح للطرفين

موسكو على خط المواجهة الإسرائيلية ـ اللبنانية
TT

موسكو على خط المواجهة الإسرائيلية ـ اللبنانية

موسكو على خط المواجهة الإسرائيلية ـ اللبنانية

تلاحقت في الفترة الأخيرة، تطورات مرتبطة بإسرائيل، وتحركاتها على الصعيد الإقليمي، وبدت كلها وثيقة الصلة، بشكل أو بآخر، بمسار تعزيز الحضور الروسي في الشرق الأوسط. إذ اتضح بعد المواجهة المحدودة بين إسرائيل و«حزب الله» في المناطق الحدودية أخيراً، أن الطرفين اللبناني والإسرائيلي اتجها إلى موسكو لمحاصرة احتمالات اتساع نطاق المواجهة. وأعقب ذلك إعلان تل أبيب بدء ترتيبات لعقد لقاء جديد على مستوى رؤساء مجالس الأمن القومي في روسيا والولايات المتحدة وإسرائيل لمناقشة الوضع في المنطقة، ومحاولة تقريب وجهات النظر حول آليات التعامل مع إيران في سوريا ولبنان، والمنطقة عموماً. ولم تلبث موسكو وتل أبيب أن أعلنتا، في وقت متزامن، بعد ذلك مباشرة، عن إعداد زيارة بشكل عاجل، لرئيس الوزراء الإسرائيلي إلى منتجع سوتشي الروسي للقاء الرئيس فلاديمير بوتين، وينتظر أن يكون موعدها قبل الانتخابات الإسرائيلية في 17 من الشهر الحالي. وهي تهدف، كما بات معلوماً، فضلاً عن دعم فرص نتنياهو الانتخابية، إلى وضع رؤية مشتركة للتحرّكات الجارية في سوريا ولبنان.
«كل الطرق تقود إلى موسكو»... هكذا يفاخر بعض المحللين الروس، وهم يتحدثون في هذه الأيام عن اتساع حجم الحضور الروسي في الملفات الشرق أوسطية. وحقاً، تتطلع موسكو إلى لعب أدوار أكبر في مسائل لم يكن لها حضور بارز فيها في السابق، مثل موضوع الاشتباك الإسرائيلي مع «حزب الله». إذ كان لافتاً بعد المواجهة المحدودة أخيراً، أن موسكو نشطت اتصالاتها مع الأطراف المعنية، وسعت إلى محاصرة احتمالات التصعيد.
ولم تُخفِ أوساط دبلوماسية روسية مخاوف من أن «لبنان وإسرائيل يقفان الآن على بعد خطوة واحدة من حرب جديدة». وأنه على الرغم من استبعاد أوساط روسية أن يقع تغير كبير في موازين القوى القائمة حالياً في حال نشبت هذه الحرب، فإنها ترى أنها ستكون مكلفة بالنسبة لموسكو، التي ترى في أي مواجهة كبيرة في المنطقة حالياً تهديداً لخططها في سوريا. لذا سارعت موسكو إلى التقاط فرصة الاتصالات التي جرت من الطرفين اللبناني والإسرائيلي معها، لبذل جهود لتقليص فرص وقوع مواجهة كبرى، وهي نجحت في هذا الاتجاه.
تشير مصادر إعلامية عربية وروسية متطابقة إلى أن موسكو نقلت رسائل عدة بين إسرائيل و«حزب الله»، وأن الطرفين أعلنا خلالها «أنهما لا يريدان توسيع المواجهة». ووفقاً للمعطيات، فقد أكدت موسكو للجانب الإسرائيلي أنه «لا يوجد أي تغيير على قواعد المواجهة القائمة، بمعنى أن استهداف (حزب الله) الآلية هدف إلى حفظ ماء الوجه لا غير، وأن الحزب لا يسعى لتوسيع مساحة المواجهة». ونقل الدبلوماسيون الروس رغبات مماثلة من جانب إسرائيل إلى الأطراف اللبنانية. وبرأي خبراء روس، فإن التحرك الروسي العاجل، الذي استند إلى قناعة روسية بعدم ميل الطرفين إلى التصعيد، أظهر وفقاً لتعليق صحيفة روسية أنه «بات بإمكاننا أن نتحدث بثقة عن وصول بلدنا إلى مستوى جديد. والآن أصبحت كلمته مهمة في حل حتى أكثر الصراعات الإقليمية حدة. إنه لأمر مؤسف أن هذا لم ينجح حتى الآن مع أوكرانيا».
جهود روسيا المتوسعة
أشارت مصادر عسكرية روسية، أخيراً، إلى أن روسيا بدأت بالفعل تنخرط في جهد أوسع لتخفيف التوتر اللبناني الإسرائيلي، وفي إشارة ذات مغزى، أكدت أن إيران «تساعد بشكل كبير في هذا الأمر». والواقع أن مساعي موسكو تنطلق من أن وجود علاقات جيدة مع إسرائيل، والمحافظة على قنوات اتصال مع كل الأطراف اللبنانية، يساعدان في إنجاح هذا الدور. إلا أن هذا لا يعني، وفقاً لخبراء روس، أن الأمور قد لا تتفاقم بعد انتهاء الاستحقاق الانتخابي في إسرائيل، لأن ثمة «لاعبين آخرين هنا»، في إشارة إلى الولايات المتحدة. ثم إن ملف المواجهة اللبنانية الإسرائيلية مرتبط بمسارات عدة، بينها الوضع في سوريا والمواقف المتباينة حيال سياسات إيران الإقليمية، وأخيراً، بسبب طموحات واشنطن لتكريس واقع إقليمي جديد يسهل تمرير «صفقة القرن».
رغم ذلك، تنطلق موسكو في جهودها للمحافظة على هدوء نسبي يوفّر آلية لمنع وقوع مواجهات واسعة من قناعة بأن «الولايات المتحدة لن تذهب نحو المساعدة على زعزعة استقرار لبنان، لأنها تتطلع إلى تعاون مع السلطات الموالية جزئياً في البلاد في مشروعات مستقبلية للاندماج في الشرق الأوسط ضمن إطار خططها لرسم ملامح جديدة للنظام الإقليمي».
اللقاء الأمني الثلاثي
في هذه الأثناء، جاء إعلان رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو، مساعي لعقد قمة أمنية ثلاثية ثانية، بين إسرائيل وروسيا والولايات المتحدة، في الفترة المقبلة، ليضيف بعداً جديداً للنقاشات الدائرة حول هذا الموضوع، ونقلت مصادر أن «المفاوضات تجري لعقد اللقاء الجديد في القدس خلال الأسابيع المقبلة». غير أن مصدراً مطلعاً على الملف في موسكو أبلغ «الشرق الأوسط» أن «موسكو لم تحسم قرارها بالمشاركة بعد»، وترى أوساط روسية أن المشكلة لا تكمن في عقد اللقاء من حيث المبدأ، بل في الأهداف المتوخاة من هذا اللقاء.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن رؤساء مجالس الأمن القومي في روسيا وإسرائيل والولايات المتحدة كانوا قد عقدوا اجتماعاً في يونيو (حزيران) الماضي في القدس، كرس لمناقشة الوضع في سوريا، خصوصاً على صعيد الوجود الإيراني في هذا البلد. وفشلت الأطراف يومذاك في تقريب وجهات النظر حول الملف الخلافي الأكبر. وقال سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف، في حينه، أن «موسكو تعير اهتماماً كبيراً لضمان أمن إسرائيل»، لكنه شدد على أن «تحقيق هذا الهدف يتطلب استتباب الأمن في سوريا أولاً».
وبالتالي، بدا واضحاً خلال ذلك اللقاء أن الخلاف الرئيس لا يكمن في وضع ملف الوجود الإيراني في سوريا على طاولة المفاوضات، وبحث السياسات الإقليمية لإيران، بل في رفض موسكو الخضوع لإملاءات مسبقة. وفي هذا السياق، قال دبلوماسي اطلع على سير المفاوضات لـ«الشرق الأوسط»، إن موسكو أبلغت الجانبين الإسرائيلي والأميركي أنها لا تمانع مناقشة الملف (الوجود الإيراني)، لكن «لا يمكن القبول بالذهاب إلى مفاوضات يرى الطرفان الإسرائيلي والأميركي أن نتائجها يجب أن توضع سلفاً». وبهذا المعنى، فإن موسكو تبدي مرونة في مناقشة ملف خروج إيران والقوات التابعة لها من سوريا، أو تقليص وجودها الظاهر على الأقل، لكنها ترى أن هذا الأمر يجب أن يتحقق في سياق تفاوضي يلبي حاجات دفع التسوية واستقرار الوضع في سوريا (لمصلحة الأسد)، ويضمن لإيران وللأطراف الأخرى متطلباتها وحاجاتها الأمنية.
هذا الجانب ذكره باتروشيف بوضوح خلال اللقاء السابق في القدس، عندما قال: «ترى موسكو أنه من الأكثر فاعلية التحدث مع إيران، بدلاً من ممارسة الضغط عليها»، و«نحن نتفهم المخاوف التي لدى إسرائيل، ونريد القضاء على التهديدات الموجودة، ولكن في الوقت نفسه علينا تذكر المصالح الوطنية للدول الإقليمية الأخرى».
تفاهم كامل بين موسكو وطهران
هذه هي النقطة الخلافية الأساسية التي عرقلت التقدم في مسار المفاوضات الأمنية الثلاثية، وما زالت عالقة حتى الآن. ومعها، فإن موسكو، التي تدرك حجم التباين في المواقف، كانت تتطلع إلى نتيجة أخرى للقاء القدس هي تحويل هذه الصيغة - اللقاء على مستوى مجالس الأمن القومي - إلى قناة حوار ثابتة ودائمة لمناقشة، ليس فقط الملف المتعلق بإيران، بل كل الملفات الإقليمية التي تهم الأطراف الثلاثة. وانطلاقاً من هذا الهدف، قد تذهب موسكو نحو الموافقة على عقد لقاء جديد، وإن كانت تثق بأن نتائجه أيضاً ستكون محدودة.
محللِّون روس يرون أن موسكو تتبع سياسة «منفتحة على الحوار»، لكنها ليست متسرعة في تقديم تنازلات عن مواقفها. ووفقاً لأحد الخبراء، فإنها قدمت للولايات المتحدة وإسرائيل نوعاً من «الإنذار الناعم». أما مطلب روسيا الرئيس من الولايات المتحدة وإسرائيل هو أن على الأميركيين والإسرائيليين في سوريا «تجنب استفزاز إيران». ووفقاً لهذا التحليل - الذي نشر في مادة مطولة أخيراً في إحدى الوكالات الروسية - فإن «موقف موسكو هو نتيجة العمل المشترك لروسيا وسوريا وإيران والعراق في إطار مركز بغداد للمعلومات العسكرية رباعي الأطراف، الذي أنشئ في عام 2015 فقط من أجل الحرب المنسّقة ضد الإرهاب الدولي. ووجهة النظر الروسية متفق عليها تماماً مع إيران وسوريا والعراق. وتشترك الصين منذ مايو (أيار) الماضي في التنسيق مع هذه المجموعة».
في السياق نفسه، كانت مصادر إعلامية قد أشارت، بالفعل، إلى أنه في 30 مايو الماضي، ناقش ممثلو الأجهزة الخاصة للعراق وروسيا وإيران وسوريا في اجتماعاتهم في بغداد الوضع الحالي، وتم خلال اللقاء وضع رؤية مشتركة للتحركات اللاحقة، وفي هذا الاجتماع برز حضور الصين للمرة الأولى. وفي حينه، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية عباس موسوي، «إن الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، التي كانت واحدة من التحديات الدولية الرئيسية خلال الأشهر الأخيرة، تنطوي على جوانب ونتائج قد تتجاوز مستوى العلاقات الثنائية بين البلدين». وأعلن أن إيران تدين هذه السياسة الأميركية كمثال على «الإرهاب الاقتصادي». وبعد ذلك، مباشرة، أعلن مصدر عراقي أن الصين أعربت عن رغبتها في الانضمام إلى مركز بغداد للمعلومات العسكرية، ورأت فيه «خطوة مهمة نحو تعزيز الأمن الإقليمي».
على هذه الخلفية، يظهر أن موسكو نجحت حتى الآن، مستفيدة من سياسات واشنطن، في تعزيز محوّر ترى أوساط المحللين أنه سيكون له كلمة مسموعة في الوضع في الشرق الأوسط، وكذلك في القوقاز، وحتى في آسيا الوسطى وأفغانستان. وهو محور يعزّز مواقع موسكو التفاوضية أيضاً في النقاشات الجارية حول الوضع في سوريا وفي لبنان، وفي موضوع العلاقة مع إسرائيل.
«مواطنون روس» في إسرائيل
جاء الإعلان المتزامن في موسكو وتل أبيب عن زيارة سيقوم بها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى منتجع سوتشي بجنوب روسيا، في غضون أيام، ليربط مباشرة عدة ملفات في سلة واحدة... ستكون مطروحة للنقاش خلال اللقاء مع الرئيس فلاديمير بوتين.
إذ يأمل نتنياهو، الذي يقوم تقليدياً بزيارة موسكو قبل كل استحقاق انتخابي، أن تمنحه المنصة الروسية أوراقاً لتعزيز فرصه التنافسية. وهذا لا يقتصر على فكرة حشد تأييد في أوساط الناطقين بالروسية في إسرائيل. وهؤلاء، بالمناسبة، يشكلون قاعدة انتخابية تزيد على مليون نسمة، ويرتبطون بعلاقات وثيقة مع موسكو لدرجة أن بوتين في أكثر من موقع كرّر التأكيد على أهمية العلاقة مع «مواطنينا في إسرائيل».
أما الأكثر أهمية من ذلك، فهو أن نتنياهو يأتي إلى روسيا حاملاً ملفات الوضع مع لبنان على خلفية الدور الروسي الأخير في احتواء المواجهة، مع ملف توسيع الهجمات الإسرائيلية على مواقع متهمة بالولاء لإيران، لتصل إلى أبعد من سوريا، في العراق. وكانت وسائل إعلام روسية حذرت أخيراً من أن إسرائيل لم تعد تهتم في الآونة الأخيرة، بإبلاغ الروس بإحداثيات ضرباتها، قبل موعد كافٍ، في مخالفة لتفاهمات سابقة في هذا الشأن.

تنسيق مواقف ومصالح مشتركة رغم الضربات الإسرائيلية
> مع أن أوساطاً في العاصمة الروسية موسكو رأت أن تحذيرات وسائل الإعلام الروسية الأخيرة لتل أبيب هدفها الرئيسي إظهار أن موسكو ليست راضية تماماً عن الضربات الإسرائيلية، أو على الأقل «ليست متواطئة» مع تل أبيب فيها، يركز محللون على أن أحد أهم أهداف زيارة بنيامين نتنياهو المقبلة لروسيا هو «تنسيق المواقف» في هذا الاتجاه.
وللتذكير، فإن نتنياهو كان في أعقاب كل زيارة سابقة لموسكو، يؤكد أنه أبلغ الجانب الروسي بأن الضربات الإسرائيلية على مواقع إيرانية ستتواصل، وقال في بعض الأحيان إنه حصل على ضوء أخضر من جانب روسيا لمواصلة هذه التحركات، في المقابل لم تعلق موسكو أبداً على هذه التصريحات.
تقارب اقتصادي وسياحي
الجديد قد يكون في أن هذه الزيارة تأتي على خلفية تقارب واسع على المستويات الاقتصادية ومجالات الاستثمارات تم تحقيقه بين موسكو وتل أبيب خلال الفترة الأخيرة. فتقليدياً، كانت إسرائيل تعد شريكاً مهماً لموسكو في المنطقة بحجم تبادل تجاري يزيد على 10 مليارات دولار أميركي، وهو رقم مهم جداً بالمقارنة مع حجم التعاون الروسي في المجال التجاري مع منطقة الشرق الأوسط. وفي الفترة الأخيرة تم توقيع عدة اتفاقات وصفت في موسكو بأن لها أهمية كبرى، بينها اتفاقات لتوسيع النشاط السياحي بين الطرفين، وزيادة حجم السياحة الروسية إلى إسرائيل التي تصل حالياً إلى نحو 400 ألف سائح.
ووفقاً لتقارير وسائل إعلام متخصصة في المجال السياحي، فإن الفترة الأخيرة شهدت تسارعاً في وتائر سيطرة الشركات الإسرائيلية على قطاع السياحة بين الطرفين، وسط حديث عن توظيف رساميل كبيرة لدعم هذا التوجه. لكن الأهم من ذلك أن مؤسسات إعلامية حكومية تابعة للكرملين، مثل وكالة أنباء «نوفوستي»، أفردت مساحات واسعة في الآونة الأخيرة للترويج السياحي في إسرائيل، بما في ذلك في القدس، بصفتها عاصمة لإسرائيل. ولقد تزامن ذلك، مع تزايد الإشارات حول توسيع التعاون في المجالات الصناعية والتقنية. كذلك، تغطيات إعلامية موسعة جرت على خلفية معرض «ماكس» لصناعات الطيران قبل أيام، عن «القفزة التكنولوجية التي حققتها روسيا في مجال الطائرات المسيرة بفضل إسرائيل». كان نائب رئيس الوزراء الروسي، يوري بوريسوف، أعلن خلال أعمال المعرض عن إطلاق الإنتاج المتسلسل للطائرات المسيرة الضاربة «الصياد»، من عام 2025. وذكرت المصادر الروسية أن ظهور خطط صناعة الطائرات المسيّرة في روسيا بدأ في عام 2010، بعدما أبرمت صناعة الطيران الإسرائيلية عقداً مع وزارة الدفاع الروسية (قيمته 400 مليون دولار أميركي) «لنقل بعض أهم تقنيات الطائرات المسيرة إلى روسيا». وترددت معطيات في ذلك الوقت أفادت بأن الصفقة تمت مقابل إعلان موسكو نيتها التراجع عن بيع منظومة «إس - 300» لإيران وسوريا. ومع أن موسكو سلمت لاحقاً النظام الصاروخي الروسي إلى كل من إيران وسوريا، فإن الأوساط الروسية قالت إن هذا لا يعني التخلي عن الالتزام بعدم إلحاق الأذى بمقاتلات الجيش الإسرائيلي.
«زواج مصلحة سرّي»
أيضاً، ذهبت موسكو وتل أبيب عام 2015 إلى إبرام صفقة عسكرية أخرى، في مجال صناعة الطيران، تلاها إعلان تل أبيب التراجع عن بيع مجموعة من طائراتها العسكرية المسيرة المتقدمة إلى أوكرانيا. وهكذا تبدو درجة ارتباط العقود والصفقات الكبرى التي تجريها موسكو مع تل أبيب بالمتغيرات السياسية حول الطرفين، وبشكل يقوم على تفاهم أساسي غير معلن، بأن كل طرف لن يعمل على تهديد مصالح وأمن الطرف الآخر، بل على العكس من ذلك، سيعمل على تعزيز جهود الطرف الآخر في الملفات الأمنية الأساسية. ووفقاً لتحليل كاتب روسي «استفادت إسرائيل إلى أقصى حد من الحرب الأهلية في سوريا لتوطيد سيادتها على مرتفعات الجولان، التي يبدو أن سوريا خسرتها إلى الأبد. ومن ناحية أخرى، ساهمت روسيا، في ذلك، بتجاهلها حرب إسرائيل الجوية ضد إيران و(حزب الله)». ووفقاً للباحث في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أولريك فرانك، الخبير في مجال الطائرات العسكرية المسيّرة، فإن روسيا وإسرائيل عقدتا «زواج مصلحة سرياً»، وأنهما تتصرفان بحزم وفقاً للقاعدة الأساسية التي تضع المصالح المشتركة فوق كل اعتبارات تحالفية أخرى.



الفرص والتحديات وتوقّعات المستقبل من منظورَي الرياض وبكين

نيوم... مدينة المستقبل (الشرق الأوسط)
نيوم... مدينة المستقبل (الشرق الأوسط)
TT

الفرص والتحديات وتوقّعات المستقبل من منظورَي الرياض وبكين

نيوم... مدينة المستقبل (الشرق الأوسط)
نيوم... مدينة المستقبل (الشرق الأوسط)

تُعَدُّ الشراكة بين السعودية والصين فرصة كبيرة لتعزيز التعاون في مجالات حيوية عدة. إذ يوفر التعاون في الطاقة النظيفة والابتكار التكنولوجي فرصاً لدعم أهداف السعودية في تحقيق «رؤية 2030» وزيادة استخدام الطاقة المستدامة، كما أن الاستثمار في مشاريع كبرى مثل «نيوم» يفتح آفاقاً واسعة للتنمية المستدامة ويعزز من النمو المشترك.

في مجالات التكنولوجيا والابتكار، يعزّز التعاون في قطاعي الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الرقمية من قدرة السعودية على تحقيق أهدافها التكنولوجية، ويقوّي الروابط الاقتصادية بين البلدين، ومن جهة أخرى، يعزز التبادل الثقافي والتعليم من العلاقات الإنسانية ويزيد من التعاون بين الشعبين.

مع هذا، تواجه الشراكة تحدياتٍ قد تؤثر على العلاقات الثنائية، وتشمل هذه التحديات التوترات الجيوسياسية الدولية التي تتطلب مزيداً من الحكمة والروية من أجل درء تعارض المصالح، والتقلبات الاقتصادية العالمية التي قد تؤثر على حجم التبادل التجاري والاستثمارات. ولا شك أن الاختلافات الثقافية والسياسية تستوجب تعزيز الحوار والتفاهم، كما يتطلب تحقيق التنمية المستدامة التنسيق بين المشاريع المشتركة وضمان توافقها مع معايير البيئة.

مستقبلاً، يتوقع أن يزداد التعاون في الطاقة النظيفة - وتقف مشاريع مثل «نيوم» حافزاً كبيراً لتعزيز الاستثمارات الصينية في المملكة -، كذلك عبر تكثيف الفعاليات الثقافية والتبادلات التعليمية، يؤمل تمتين الروابط بين الشعبين، ويمكن أن يشمل التعاون المستقبلي المجالات الأمنية مثل مكافحة الإرهاب والأمن السيبراني لتعزيز الاستقرار الإقليمي والدولي. وحقاً، من شأن دعم السعودية مبادرة «الحزام والطريق»، الإسهام في تعزيز البنية التحتية والنقل بين الصين والشرق الأوسط، مع الأخذ في الحسبان تكيّف الشراكة مع التحديات الاقتصادية والجيوسياسية العالمية باعتماد استراتيجيات مرنة.

إن العلاقات السعودية الصينية اليوم نموذج للشراكة الاستراتيجية المتكاملة التي تستند إلى المصالح المشتركة والرؤية المستقبلية، ومع مواصلة تطوير هذه الشراكة يتوقع أن تشهد العلاقات بين البلدين مزيداً من النمو في مختلف المجالات؛ ما يخدم مكانتيهما على الساحة الدولية. وأخيراً، إن الشراكة بين السعودية والصين لا تقتصر على تعزيز العلاقات الثنائية فحسب، بل تمتد لتسهم في استقرار الاقتصاد العالمي وتنميته بشكل عام. إذ تجسّد هذه الشراكة نموذجاً ناجحاً للتعاون الدولي القائم على تحقيق مصالح مشتركة؛ مما يساهم في تعزيز السلم والاستقرار العالميين. وهنا تبرز خصوصاً الرؤية الاستراتيجية عند البلدين والتزامهما بالابتكار والتعاون ليفتحا أبواباً جديدة للتنمية والتفاهم والتعاون بين مختلف الشعوب والثقافات.