«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا السينمائي (8): هل تخرج هيفاء المنصور بجائزة مساء اليوم؟

احتمالات مفتوحة على مصراعيها وحافلة بالمفاجآت

جوني دب ومارك ريلانس في «بانتظار البرابرة»
جوني دب ومارك ريلانس في «بانتظار البرابرة»
TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا السينمائي (8): هل تخرج هيفاء المنصور بجائزة مساء اليوم؟

جوني دب ومارك ريلانس في «بانتظار البرابرة»
جوني دب ومارك ريلانس في «بانتظار البرابرة»

هي ساعات قليلة قبل أن يدلف مهرجان فينيسيا إلى نهاية دورته السادسة والسبعين. ساعات هي ثوينة لدى فريق كبير من السينمائيين آخرين، كان همهم التقاط أفلام يمكن لها أن تعيش في الذاكرة لأشهر (أو سنوات إذا أمكن) بعد مشاهدتها.‬
هذا تأمن أكثر من مرة في دورة ناجحة تطيح، بالمقارنة، مع حشده مهرجاني برلين وكان. ليس فقط أن الأسماء المشتركة كانت أحياناً كبيرة يتحلق من حولها المعجبون والإعلاميون، بل إن أفلامهم كادت تستحق اجتياز المسافات البعيدة والتكلفة المرتفعة لمشاهدتها أولاً.
وهي ساعات قليلة قبل أن تعلن لجنة التحكيم نتائج تداولاتها بخصوص أفلام هذه الدورة. ويستطيع الذي جعل من المهرجانات بيته الثاني أن يدرك سلفاً أن ما تأتي به لجان التحكيم لا يعجب عادة النقاد، وما يعجب هؤلاء قد لا يعجب الجمهور. لكن هذا نوع من التعدد المسموح والمعمول به.
أمر طبيعي إذن أن يندرج السؤال حول أفلام محددة استقطبت استحسانات غالبة، وكتب عنها النقاد بإعجاب كبير.
حسب النقاد الإيطاليين، فإن الفيلم الذي نال أعلى تقدير في إحصاء يومي منشور هو فيلم رومان بولانسكي «ضابط وجاسوس»، يليه فيلم «جوكر» لتود فيليبس. وأقل الأفلام نيلاً لإعجاب النقاد الإيطاليين أنفسهم كان «الطائر المطروش» (The Painted Bird).
لكن تبعاً لإحصاء آخر بين نقاد أميركيين وأوروبيين، فإن الفيلم الغالب هو «قصة زواج» لنوا بومباك، يليه ثانياً «ضابط وجاسوس»، بينما يحط فيلم روي أندرسن «عن اللا نهاية» في قاع ذلك الإحصاء.
- من هم البرابرة؟
نتوقع ألا تختلف بعض الجوائز التي ستمنح ليل اليوم، السابع من سبتمبر (أيلول)، عن هذه العناوين التي تتصدر القائمتين. هذا على الرغم من أن رئيسة لجنة التحكيم لوكريزيا مارتل، هاجمت مخرجه رومان بولانسكي، قبل عرض الفيلم ما يعني أنها إذا ما طار فيلم «ضابط وجاسوس» من دون جائزة أولى، بات عليها أن تكشف، لأفراد لجنة التحكيم أو للمهرجان أو للعموم أو للثلاثة معاً، إذا ما كان لها دور في ذلك.
لكن الغالب أنها سوف لن تعمد للعبة طفولية كهذه، علماً بأن فيلم بولانسكي بقدر ما هو جيد الصنعة، ليس أفضل أعماله والناقد الحقيقي قد يفضل عليه أعمالاً أخرى تم عرضها هنا مثل «جوكر» و«بانتظار البرابرة» وحتى «عن اللانهاية».
«بانتظار البرابرة» الذي عُرض أمس فيلم تاريخي الزمن تماماً كفيلم بولانسكي. لكنه ليس مشغولاً بهم من نوع إذا ما كان ألرفد دريفوس بريئاً أو مذنباً من تهمة الخيانة التي وجهت إليه، والتي بموجبها تم عزله وسجنه في «جزيرة الشيطان» محاطاً بالماء وأسماك القرش. كذلك، فإن «بانتظار البرابرة» يحمل رسالة شاسعة وإنسانية، وليس حكاية في نهاية أمرها فردية. وإذا ما كان الحكم الفني هو الفيصل فإنه مصنوع أيضاً بإجادة لا بد منها لفيل يطرق باب المهرجانات والمناسبات الدولية.
هو فيلم من إخراج شيرو غويرا، ذاك الذي شاهدنا له قبل أشهر قليلة «طيور الممر» (Birds of the Passage) حول كيف دخلت تجارة «الماريوانا» ضمن مهام بعض سكان كولمبيا الأصليين، فغيرت من سلوكياتهم، وعرّفتهم على أطماع المال عوض الاكتفاء بحياتهم السابقة كمزارعين، ثم عرضتهم لوقائع من العنف الذي عادة ما يصاحب مثل هذه التجارة حالما تتعرض للتنافس بين الفرقاء. «بانتظار البرابرة» يختلف نحو 180 درجة عن فيلم غويرا السابق. ذاك أيضاً كان فيلماً جيداً، لكن الفيلم الحالي أجود منه. اقتبسه المخرج عن رواية للإيطالي ج. كواتزي (الذي يعيش في أستراليا حالياً) وكواتزي قام بكتابة السيناريو أيضاً. البطولة المطلقة هي للممثل البريطاني مارك ريلانس، لكن الفيلم يستفيد من وجود اسمين مهمين في عالم التمثيل هما جوني دب وروبرت باتنسون.
- الصبي التائه
قسّم الفيلم الأحداث لأربعة فصول، كل منها ينطق بمرور مرحلة من مراحل تلك التجربة التي أراد فيها الإنسان المتقدم حضارياً تعليم «البرابرة» درساً لدرء خطرهم عن حدود الإمبراطورية. لكن الفيلم يكشف عمن هم البرابرة بالفعل. يصوّر الكولونيل وضابطه وعساكره بالبربرية، بسبب طريقة تعذيبهم وقتلهم لأناس عزل يختلفون في لون البشرة، وفي الثقافة عن الإنسان الغربي. هذه الرسالة ليست حكراً على مكان مبهم في هذا الفيلم (وهو مبهم لغاية التعميم)، بل على كل مكان سعت فيه بعض الدول الأوروبية لبسط سيطرتها على بلدان تقع بعيداً عنها. هو عن الإمبراطورية البريطانية وعن الاستعمار الفرنسي والهولندي والبلجيكي والبرتغالي وسواها من دون تسمية أحدها.
وكما هو معهود في الأفلام ذات الحقب التاريخية، فإن ما يلعب الدور المهم هو التصاميم الفنية والإنتاجية وتصميم الملابس والتفاصيل الأخرى. لكن بالإضافة إلى ذلك هنا، نجد ذلك الاستشفاف الأدبي الذي يحمله هذا الاقتباس. غويرا لم يطلق يده بعيداً عن الرواية أو السيناريو، بل التزم بهما، لذلك فإن نتيجته هنا تختلف عن نتيجة فيلمه السابق الذي كان حققه عن سيناريو أصلي غير مقتبس. بمقارنة هذا الفيلم بفيلم رومان بولانسكي «ضابط وجاسوس»، نجد العناية ذاتها في التصميم، ولو بميزانية أقل لدى غويرا من تلك التي تمتع بها بولانسكي، نظراً لشهرته، ولوقع الفيلم الذي حققه حول قضية ما زالت تثير الاهتمام (أو تتعرض لإثارة الاهتمام بالأحرى) بين كل حين وآخر.
فيلم ثالث غاص في التاريخ، وخرج منه بإفادات هو «الطير المطروش» للتشيكي المقل (ثلاثة أفلام في سبعة عشرة سنة) فاسلاف مارهول. هو اقتباس عن رواية نشرت في منتصف الستينيات، بطلها صبي (بلا اسم ويقوم بدوره بتر كوتلار)، يتعرض لشرور الفترة النازية، ليس فقط في موطنه التشيكي، بل كذلك من قِبل الروس الذي لجأ الصبي إليهم بعدما فقد والديه، وتشرد طويلاً هرباً من الاعتقال. كان خسر والديه عندما اختفيا (غالباً، كما يعمم الفيلم الاعتقاد، قتلاً أو سيقاً إلى الاعتقال تمهيداً للمحرقة) وتركاه، من دون قصد، وحيداً في هذا العالم. تأويه امرأة عجوز لديها حقل صغير مقابل العمل بلا هوادة في الحقل. هذه ليست سوى المرحلة الأولى من مراحل تعرّف الصبي (ونحن) على شخصيات قاسية وعنيفة يمتلئ بها الفيلم الذي لا يجد أي بارقة أمل ولا لديه أي شخصية إيجابية يوفرها حتى ولو على سبيل التنويع العابر.
- احتمال سعودي؟
الساعات الفاصلة عن إعلان الجوائز مفتوحة على التوقعات، ومن بينها فوز أحد هذين الفيلمين («بانتظار البرابرة» و«الطير المطروش») لجانب احتمال فوز فيلم بولانسكي «ضابط وجاسوس». إذ أقول ذلك، فإن هناك، وفي نطاق تلك التوقعات المفتوحة، احتمالات أخرى قد تلعب أدواراً محدودة.
مثلاً، قد تصر لجنة التحكيم على منح فيلم نسائي جائزة ما (بعدما انتقدت الرئيسة غياب عدد كاف من الأفلام النسائية).
في هذا الصدد، هناك فيلمان في المسابقة الأولى من إخراج إناث. الأول، حسب عروضه، فيلم هيفاء المنصور «المرشحة المثالية» (الذي هو أول فيلم سعودي يعرض في مسابقة مهرجان فينيسيا) والثاني هو «بايبيتوث» للأميركية شانون مورفي. وكلاهما آت من خلفية بعيدة جداً عن الآخر. ففيلم «المرشحة المثالية» يتحدث عن تحدي امرأة في سبيل احتلال مكانتها في المجتمع، وفيلم «بايبيتوث» (Babytooth) هو عن امرأة ليس عليها أن تتحدى شيئاً سوى رغبتها في ممارسة حريتها التي ورثتها طبيعياً. بكلمات أخرى، هناك رسالة اجتماعية مهمّة في الفيلم السعودي ورسالة شخصية غير مهمّة في الفيلم الأميركي.
مثله في الاستبعاد المحتمل الفيلم الإيطالي «غلوريا موندي»، والفيلم الأميركي «AD Astra»، والفيلم الفرنسي «WASP Network»، أو الفيلم الأميركي (أيضاً) «الملك». هذه الأفلام حظت بإعجاب متوسط أو معتدل.
إذا ما اتجهت لجنة التحكيم لتبني فيلم نسائي لدعم المرأة، فإن الغالب حصول فيلم هيفاء المنصور على جائزة أفضل سيناريو أو لجنة التحكيم.
فيلم روي أندرسن «عن اللانهاية» يبدو لي بعيداً جداً عن رحى الجوائز هذه المرّة، كان فاز، قبل بضع سنوات، بـ«الأسد الذهبي» عن فيلمه الرائع «حمامة جلست على غصن تفكر في الوجودية». الفيلم الجديد هذا العام ليس بقوّة ذلك الفيلم، ولو أنه ما زال ينتج مشاهد لوحاتية مثيرة لجمالها ولغرابتها.
«جوكر» قد يقترب من الجوائز لجودته، لكن هل ستكتفي اللجنة بمنح بطله يواكين فينكس جائزة أفضل ممثل؟


مقالات ذات صلة

عُدي رشيد لـ«الشرق الأوسط»: لم أقرأ نصاً لغيري يستفزني مخرجاً

يوميات الشرق المخرج عدي رشيد مع بطل فيلمه عزام أحمد علي (الشرق الأوسط)

عُدي رشيد لـ«الشرق الأوسط»: لم أقرأ نصاً لغيري يستفزني مخرجاً

قال المخرج العراقي عُدي رشيد المتوج فيلمه «أناشيد آدم» بجائزة «اليسر» لأفضل سيناريو من مهرجان «البحر الأحمر» إن الأفلام تعكس كثيراً من ذواتنا.

انتصار دردير (جدة)
يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)