مصطفى النحاس... يوميات النفي بخط يده

حققها عماد أبو غازي وزير الثقافة المصري الأسبق

مصطفى النحاس
مصطفى النحاس
TT

مصطفى النحاس... يوميات النفي بخط يده

مصطفى النحاس
مصطفى النحاس

يصدر قريباً عن «دار الشروق» بالقاهرة كتاب «صفحات من مذكرات مصطفى النحاس»، التي بدأ مشروع تحقيقها الدكتور عماد أبو غازي، وزير الثقافة المصري الأسبق، منذ نحو خمس سنوات، وعنونها النحاس بـ«مذكرات النفي»، وبدأ كتابتها في جزيرة سيشيل، مكان منفاه وزملائه، وغطت الفترة من 19 ديسمبر (كانون الأول) 1921 حتى 12 مارس (آذار) 1923. وكان أبو غازي يطمح في أن يتم نشرها لتواكب ذكرى مرور 50 عاماً على رحيل النحاس، لكنه تأخر قليلاً فلم ينته من التحقيق إلا في الذكرى الرابعة والخمسين، فقرر بعد ذلك أن ترى النور مصاحبة للذكرى المئوية الأولى لثورة 1919 التي اندلعت في 9 مارس، وكان النحاس واحداً من رجالها.
وقد لعب مصطفى النحاس (15 يونيو / حزيران 1879 - 23 أغسطس / آب 1965) دورًا مهمًا في السياسة المصرية على مدى نصف قرن، بداية من انتمائه لتيار الحزب الوطني في مطلع القرن العشرين، ثم انضمامه إلى الوفد المصري. فهو ينتمي إلى الرعيل الأول من مؤسسي الوفد المصري الذين انضموا إلى سعد زغلول، ثم أصبح من أقرب المقربين إليه، ونفي معه في المنفى الثاني إلى سيشيل، وصار سكرتيرًا عامًا للوفد المصري، وتولى رئاسة الحزب بعد وفاة زغلول في أغسطس سنة 1927. وانتهى هذا الدور في الحياة السياسية المصرية بعد ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 بأشهر قليلة، مع حل الأحزاب السياسية، وظل معزولًا سياسياً حتى وفاته في 23 أغسطس (آب) 1965.
وقال أبو غازي، في مقدمته، إن المذكرات تتضمن ثلاث كراسات تشكل 407 ورقات، ينطبق عليها مفهوم اليوميات، وقد دونها مصطفى النحاس بشكل يومي، ويبدو بوضوح أنه بدأ تدوين الكراسة الأولى بعد بداية الأزمة التي انتهت بنفي سعد ورفاقه، لكن باقي المذكرات، كما يتضح من أسلوبها، بدت كيوميات كتبها الرجل في حينها، باستثناءات قليلة. لكن هناك تفاوتاً واضحاً فيما كان يكتبه في كل يوم، وفقًا للأحداث. فبعض الأيام يشغل عدة صفحات، وبعضها أسطر قليلة، وبعضها لا يدون فيه أحداث إطلاقًا.
وتبدأ مذكرات النحاس قبل اعتقاله ورفاقه بأربعة أيام، ولا تغطي فترة النفي كاملة، وهناك فجوات طويلة لم تصل، أو ربما لم يدون فيها مصطفى النحاس شيئاً؛ لكنها رغم ذلك تقدم صورة واضحة مفصلة عن فترة نفيه ورفاقه، ومنها نتعرف على رؤيتهم لما مر بمصر من وقائع، فضلاً عن تحليلهم لبعض التطورات على الساحة السياسية في بريطانيا، وكذلك بعض الأحداث الدولية، ونتعرف على ردود أفعالهم عليها، ومدى تفاعلهم مع ما يجري على أرض الوطن وهم بعيدون في المنافي، كتغيير الحكومات وإعداد الدستور والاغتيالات السياسية والاعتقالات، بالإضافة لأحداث عامة أخرى بعيدة عن السياسة، كاكتشاف مقبرة توت عنخ آمون.
إنها تقدم صورة تفصيلية لحياة النحاس ورفاقه في المنفى، وأسلوبهم في اتخاذ القرارات، والمشكلات التي واجهوها، وتذبذب حالاتهم المعنوية، والعلاقات فيما بينهم، وتمسكهم بالاحتفال بالأعياد والمناسبات الدينية الإسلامية والمسيحية، وبالمناسبات الوطنية أيضًا، وتمسكهم بالعادات والتقاليد في الأفراح والأحزان، والعلاقة بينهم وبين سلطات الجزيرة، والاختلافات بين رجال الإدارة في التعامل معهم، والقيود الرقابية، والمخاوف المتكررة لدى سلطات الجزيرة من احتمالات هروبهم، والعلاقة بينهم وبين الأهالي هناك، كما تكشف اختلاف المواقف بين المنفيين، وصلابة موقف النحاس وسينوت حنا ومكرم عبيد، مقابل ميل فتح الله وعاطف بركات للتهدئة، وموقف سعد زغلول المتذبذب بين الفريقين، مع انحيازه لرأي الأخوين بركات في عدة مواقف، الأمر الذي تؤكده مذكرات سعد كذلك.
ونتعرف من خلال ما دونه النحاس على أسلوب التواصل بين سعد زغلول ومجموعة سيشيل، بعد انتقال سعد إلى جبل طارق، وعلى اتفاقهم على شفرات سرية للتراسل فيما بينهم، كما يتضح من الجزء الأخير في المذكرات الفارق بين أسلوب التعامل مع سعد من جانب سلطات جبل طارق، والتعامل مع المنفيين من جانب سلطات سيشيل.
كما نكتشف من المذكرات سيل البرقيات والرسائل التي كانت ترد إليهم بشكل شبه يومي، ليس فقط من أفراد عائلاتهم أو من قادة الوفد المصري، بل من نقابات عمالية وتجمعات نسائية ونوادٍ ومجموعات من الطلاب، وكانت تحمل لهم بعض أخبار الوطن في حدود ما تسمح به الرقابة، كما تنقل لهم تلك البرقيات عبارات التضامن والمؤازرة، والطلب المتكرر بالاطمئنان على صحتهم. وكثير من تلك الرسائل والبرقيات كانت تتأخر لفترات طويلة بسبب إرسال الخطابات مباشرة إليهم، وليس عن طريق الوكالة البريطانية في القاهرة، أو بسبب كتابة البرقيات باللغة العربية بحروف لاتينية؛ الأمر الذي كان يترتب عليه إعادتها مرة أخرى لتراقب، مما يستغرق عدة أسابيع.
ولاحظ أبو غازي أن النحاس أظهر حرصًا على الكتابة، وعدم الإفصاح عن أسماء بعض الأشخاص الذين عرضوا مساعدتهم، خشية أن تقع الأوراق في أيدي السلطات، فيتعرض هؤلاء الأشخاص للضرر.
وقد وضع مصطفى النحاس عنوانًا لهذه المذكرات على صفحة غلاف الكراسة الأولى؛ كان «مذكرات النفي»، وبدأها بمقدمة بعنوان «عهد العنف والشدة والإرهاب»، تناول فيها أجواء ما قبل قرار النفي، الأيام القليلة السابقة على القرار، وفشل مفاوضات الوفد الرسمي المصري في لندن، برئاسة عدلي يكن، وضغوط اللورد اللنبي لقبول مشروع كرزون، ثم استقالة الحكومة العدلية.
وينتقل النحاس من المقدمة إلى تفاصيل ما وقع من أحداث، منذ وصول مكرم عبيد من لندن يوم 19 ديسمبر (كانون الأول) 1921، واستقباله استقبالاً جماهيرياً حافلاً، ودعوة سعد لاجتماع عام يعقد في نادي سيرو مساء الجمعة 23 ديسمبر (كانون الأول)، ومنعه من عقد الاجتماع، ثم قرار المعتمد البريطاني منع أعضاء الوفد من الاشتغال بالسياسة، وإلزامهم العيش في قراهم أو مواطنهم الأصلية، ورفض غالبية قادة الوفد، وعلى رأسهم سعد، ما جاء في القرار، حتى يصل إلى يوم 23 ديسمبر (كانون الأول)، يوم القبض على سعد وترحيله إلى السويس، ثم يبدأ تسجيل الأحداث في شكل اليوميات بحوادث يوم السبت 24 ديسمبر (كانون الأول) صباحاً، والنحاس ورفاقه رهن الاعتقال في معسكر قصر النيل.
ويشير أبو غازي إلى أن الكراسة الأولى تقف عند نهاية حوادث يوم 25 ديسمبر (كانون الأول) 1921، يوم اللقاء بين سعد وباقي المنفيين في المعسكر الهندي بالسويس، أي أنها تغطي الفترة من 19 إلى 25 ديسمبر (كانون الأول) 1921؛ وفيها يوثق النحاس ما حدث بالضبط، حتى وصوله ورفاقه للسويس، ومن الواضح أنها كُتبت في مرحلة لاحقة بعد الأحداث في أثناء وجودهم في المنفى في سيشيل.
وذكر أبو غازي أن الكراسة الثانية مرقمة، وتبدأ بأحداث يوم 30 يونيو (حزيران) سنة 1922، أي أن هناك فجوة تمتد من يوم 26 ديسمبر (كانون الأول) 1921 إلى يوم 29 يونيو (حزيران) 1922؛ وهي الفترة التي شهدت ترحيلهم من السويس إلى سيشيل، مروراً بعدن؛ وهو ما يعني أن هذه الكراسة لم تفقد منها أي صفحات، لكن من المؤكد كذلك أنه كانت هناك كراسة واحدة على الأقل بين الكراسة الأولى والكراسة الثانية تغطي تلك الفترة، وأنها مفقودة، فبداية الكراسة الثانية وأسلوب الكتابة فيها يؤكد أن هناك كراسة على الأقل مفقودة؛ كما يتضح من سياق الحديث أن مصطفى النحاس كان يدون مذكرات عن تلك الفترة، وتتوقف الكراسة الثانية من مذكرات النفي عند أحداث يوم السبت 30 سبتمبر (أيلول) 1922.
وتبدأ الكراسة الثالثة بحوادث يوم الجمعة الأول من شهر ديسمبر (كانون الأول) سنة 1922، أي أن الفجوة بين الكراسة الثانية والكراسة الثالثة تبلغ شهرين، ويبدو أنه لم يدون الأحداث خلال شهري أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني)، فهو يشير في أكثر من موضع إلى وقائع في تلك الفترة بصيغة يبدو منها أنه لم يكتب مذكراته خلالها؛ وتحمل الصفحة الأولى من الكراسة الثالثة عنواناً رئيسياً «تابع مذكرات النفي»، ثم اسم مصطفى النحاس، وفي سطر ثالث «ديسمبر (كانون الأول) 1922»، وتبدأ اليوميات في الصفحة الثانية، وتنتهي هذه الكراسة بحوادث يوم الاثنين 12 مارس 1923؛ أي أنها لا تقتصر على شهر ديسمبر (كانون الأول) 1922 فقط، كما يبدو من العنوان.
ولفت أبو غازي إلى أنه حصل على المذكرات من القطب الوفدي فؤاد بدراوي، وكانت «ضمن الأوراق التي انتقلت إلى حيازة فؤاد باشا سراج الدين بعد وفاة السيدة زينب الوكيل، وتسليم منزل النحاس باشا في جاردن سيتي إلى المالك. وقد عثر عليها بدراوي منذ أربع سنوات، ودفع بها إليّ لتحقيقها؛ وكان تقديره أن تصدر في الذكرى الخمسين لرحيل مصطفى النحاس في أغسطس (آب) عام 2015، لكن العمل فيها امتد لأكثر مما توقع».
يشار في هذا السياق إلى أن الباحث أحمد عز الدين نشر مذكرات منسوبة للنحاس، تحت عنوان «مذكرات مصطفى النحاس - ربع قرن من السياسة في مصر 1927 - 1952»، جاءت في جزأين، وكتب مقدمتها محمد كامل البنا الذي كان سكرتيراً لمصطفى النحاس. لكن الأوساط الثقافية والسياسية تترقب صدور هذه المذكرات لأنها توثيق يومي للأحداث بخط يد النحاس نفسه، وتعد هذه هي المرة الأولى التي تنشر فيها مذكراته على هذا النحو من التوثيق.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.