عبد الفتاح مورو محامٍ وبرلماني في السباق نحو رئاسة تونس

يدافع عن «الإسلام التونسي والمغاربي» وينتقد التطرف واستخدام العنف

عبد الفتاح مورو محامٍ وبرلماني في السباق نحو رئاسة تونس
TT

عبد الفتاح مورو محامٍ وبرلماني في السباق نحو رئاسة تونس

عبد الفتاح مورو محامٍ وبرلماني في السباق نحو رئاسة تونس

دخل عبد الفتاح مورو المحامي والقاضي المعزول في عهد الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة عالم السياسة منذ أكثر من 45 سنة، بعدما تعرّض إلى مضايقات بسبب محاضراته وخطبه العلمية والدينية في الجامعات والمساجد.
تلك المحاضرات والخطب جذبت بسرعة آلاف المتابعين من الشباب وموظفي الدولة والتجار نتيجة لفصاحته واستخدامه أسلوب الهزل والمزاح وانتقاد النظام التونسي بعمق عبر التلميح غالباً. ولكن، لم يتوقّع أحد وقتها أن تساهم تلك المضايقات في صنع زعيم سياسي معارض، وأحد أبرز الشخصيات العمومية في تونس وفي المنطقة، وأن يُنتخب عام 2014 نائباً أول لرئيس البرلمان، بدعم من ثلثي النواب، ثم أحد أبرز المرشحين في الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها المقررة ليوم 15 سبتمبر (أيلول) المقبل.

يُعتبر عبد الفتاح مورو، الزعيم التاريخي الثاني في حركة «الاتجاه الإسلامي» التونسية، بعد رئيسها راشد الغنوشي، وذلك منذ نشأتها في شكل «جماعة إسلامية».
لقد كانت أولويات الحركة ثقافية اجتماعية عام 1973. قبل أن تطغى عليها الصبغة السياسية أواخر السبعينات. ثم بعد تقدّمها في يونيو (حزيران) 1981 بمطلب رسمي للاعتراف بها في شكل حزب سياسي قانوني على غرار بقية الأحزاب اليسارية والليبيرالية.
مورو يعتبر أن تلك الخطوة كانت الأولى من نوعها في تاريخ الحركات الإسلامية العربية ضمن عدة مبادرات للقطع مع منهج «العمل السرّي»، والانخراط في العمل السياسي والحزبي القانوني.
إلا أن الصراعات داخل مؤسسات الحكم أواخر عهد الرئيس بورقيبة (1955 – 1987) والأعوام الأولى من عهد الرئيس بن علي (1987 – 2011) أجهضت تلك المبادرات، فأقحمت مورو ورفاقه منذ صيف 1981 في سلسلة من المحاكمات السياسية والمواجهات مع السلطات حتى اندلاع الانتفاضات الشبابية والثورات العربية مطلع 2011.

الانحياز للاحتجاجات الشبابية

كان مورو والقادة التاريخيون في حركة «الاتجاه الإسلامي» قد حوكموا لأول مرة في خريف 1981 بالسجن لمدد تراوحت بين سنتين و10 سنوات بتهم سياسية، أهمها الانتماء إلى حركة سياسية غير قانونية، وبالوقوف وراء التحركات الطلابية والاحتجاجات الشبابية في المعاهد والجامعات خلال شهري يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) 1981.
يومذاك، تطوّرت التحركات لأول مرة إلى مظاهرات ضخمة في العاصمة تونس وغالبية مدن البلاد، وشارك فيها في الوقت نفسه طلاب الجامعات والثانويات وشباب من أبناء الجهات المهمشة والأحياء العمالية والشعبية. ويعتبر مورو أن تلك المحاكمات السياسية الأولى التي استهدفته وثلة من رفاقه أكدت «هيمنة جناح (الصقور) المعارضين للانفتاح السياسي في مؤسسات الدولة والحزب الحاكم على الجناح التحرّري».

بين بورقيبة وأصدقائه العرب

إلا أن بورقيبة أفرج عن عبد الفتاح مورو بعد نحو سنتين من محاكمته تفاعلاً مع مساعٍ ووساطات قامت بها لفائدته شخصيات تونسية وعربية وعالمية. وكان من بين الوسطاء أصدقاء بورقيبة عندما كان لاجئاً سياسياً في القاهرة لمدة 5 سنوات، وعندما زار المملكة العربية السعودية والتقى قادتها وعلى رأسهم الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود مرتين ولقي دعماً سياسياً ومالياً منهم لنضال الوطنيين التونسيين وبلدان شمال أفريقيا من أجل الاستقلال عن فرنسا.
لكن بورقيبة فرض، في المقابل، على مورو الإقامة الجبرية في بيته حتى الإفراج عن كل أعضاء القيادة التاريخية للحركة في صيف 1984، مع أنه سمح بوساطات معه عبر رئيس الوزراء (يومذاك) محمد مزالي وعدد من الحقوقيين والمحاميين، بينهم محمد النوري وفتحي عبيد ومصطفى المنيف والأمين العام للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان حمودة بن سلامة.
ومن ثم، أسفرت الوساطات التي قام بها مورو، عن الإفراج عن كل مساجين القيادة التاريخية وعودة اللاجئين السياسيين من منافيهم، وهو ما أبرزه في مظهر الزعيم البراغماتي المعتدل التي يسعى لمعالجة الأزمات عبر الحوار مع السلطات والأطراف السياسية التي سبق أن اضطهدته، وليس عبر المواجهة والصدام.

يتيم من الأحياء الشعبية

وُلِد عبد الفتاح مورو في يناير 1948، ونشأ في حي شعبي بمنطقة باب سويقة في قلب مدينة تونس القديمة، غير بعيد عن جامع الزيتونة. ولكن، سرعان ما تُوفي والده، فربّته والدته مع إخوته وكانت تعمل في مهنة الخياطة في بيتها، مثلما أورد في شهادته إلى «الشرق الأوسط».
هنا شاءت الأقدار أن يكون أحد جيران العائلة الزعيم الوطني والنقابي والعلامة الكبير الشيخ محمد الفاضل بن عاشور، نجل العلاّمة والمفكّر محمد الطاهر بن عاشور. ولقد أعجب بن عاشور بالطفل عبد الفتاح مورو لما لاحظه فيه من حفظ للشعر والنصوص الأدبية وللقرآن وولع بالمطالعة، وكان يصطحبه معه أحياناً مشياً على الأقدام إلى جامع الزيتونة، وهو ما أثّر في شخصية الطفل وميوله.
وبعدما حصل مورو على شهادة الثانوية من معهد الصادقية، الذي تخرج فيه عدد من مشاهير مثقفي تونس وساستها، مثل الحبيب بورقيبة، والباجي قائد السبسي، تابع دراساته العليا في كلية الحقوق والعلوم القانونية بتونس باللغتين العربية والفرنسية وتخرّج فيها قاضياً عام 1970.
كذلك، حصل بصفة موازية على شهادة في اللغة الألمانية من المركز الثقافي الألماني وعلى شهادة أخرى في الموسيقى. وأُسنِدَت إليه شهادة في الدراسات الإسلامية من كلية الشريعة وأصول الدين التي كان الشيخ محمد الفاضل بن عاشور عميداً لها. ولعل هذه الثقافة المخضرمة أسهمت في نحت شخصية مورو وخطاباته الداعية إلى التوفيق بين الحداثة الغربية مع التأكيد على خصوصيات التيار الوطني التونسي والمغاربي.

القضاء والمحاماة والسياسة

بدأ عبد الفتاح مورو مسيرته المهنية في موفّى عام 1972 قاضياً. وكانت له طوال 5 سنوات أنشطة سياسية ونقابية في الجمعية التونسية للقضاة الشبان مع نخبة من الحقوقيين الوطنيين، بينهم عميد المحامين لاحقاً البشير الصيد. بيد أن توتر المناخ السياسي العام في تونس، وتوالي انتقادات مورو للحكومة في خطبه في الجوامع دفعا السلطات إلى الضغط عليه، فاستقال من القضاء عام 1978، وانتقل إلى ممارسة المحاماة على غرار كثير من النشطاء والمعارضين السياسيين.
شهدت تونس، خلال عقد السبعينات، إضرابات وتحرّكات احتجاجية شبابية ونقابية في الجامعة وخارجها، تطورت إلى مواجهات بين الحكومة وقيادات نقابات العمال وحركات اليسار، وإلى إضراب عام ومواجهات دامية يوم 26 يناير 1978.
وتسببت المحاكمات السياسية لقيادات النقابات العمالية وحملات القمع لقيادات الحركة الطلابية اليسارية في مراجعة مورو ورفاقه لمنهجهم السياسي وأولوياتهم. وتأكدت المراجعة بعدما انخرط شباب «الاتجاه الإسلامي في الجامعة» في الحراك الشبابي الاجتماعي السياسي، فصار مورو ورفاقه ينظّمون تجمّعات ضخمة في الجوامع والجامعات عن حقوق العمال والعدالة الاجتماعية في الإسلام وعن الاستجابة إلى مطالب السياسية للطبقات الشعبية.
كذلك، في هذه الأثناء انخرط شباب «الاتجاه الإسلامي في الحركة الطلابية» في الحراك الاجتماعي الشبابي المعارض للسلطات، وتبنى بعض شعارات اليسار الطلابي والنقابي والحركات الثورية في العالم، وأصبح الطرف الرئيسي في قيادة الحركة الطلابية والشبابية في أغلب الجامعات وجهات البلاد. ولكن رغم ذلك، حافظ مورو على دعواته للبراغماتية والخصوصية التونسية، وإلى رفض منهج العنف في التغيير واحتكار أي طرف سياسي الحديث باسم الإسلام.

التحكم في شباب الجامعة والمعاهد

أعطى تزايد شعبية الطلاب الإسلاميين في الجامعة والمعاهد الثانوية، وتحكّمهم في المظاهرات الاحتجاجية خارجها، أبعاداً وطنية جديدة لزعماء حركة «الاتجاه الإسلامي» بزعامة المحامي عبد الفتاح مورو ورفيقه أستاذ الفلسفة راشد الغنوشي وأنصارهم، إلا أن هذه الشعبية كلفت مورو ورفاقه مضايقات أدَّت إلى إيقافهم مراراً من قبل قوات الأمن، ثم إلى محاكماتهم خلال صيف 1981.
من ناحية ثانية، كان مورو الشخصية الإسلامية البارزة الوحيدة التي وقّعت مع 100 مثقف وسياسي علماني وثيقة سياسية تاريخية عام 1977 طالبت الرئيس بورقيبة باحترام المجتمع المدني والحريات والتعددية السياسية والمنظومة الدولية لحقوق الإنسان. كذلك بنى مورو علاقات مع عدد من وزراء بورقيبة السابقين ورفاقهم القدامى المطرودين من الحزب الحاكم في 1974، الذين أسّسوا عام 1978 أول حزب ليبرالي معارض سموه «حزب الديمقراطيين الاشتراكيين» وأصدروا صحفاً معارضة ناطقة باسمهم، بينها «الرأي» و«المستقبل».

بين خيارين

وتقلب مورو ورفاقه منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي بين خيارين متناقضين: الأول يناصر الحوار السياسي مع السلطات والمعارضة الليبرالية. والثاني يدعو إلى المواجهة ويتبنّى «المنهج الثوري للتغيير»، بعدما تأثر باليسار التونسي الراديكالي والنقابات.
دعم مورو دوماً الخيار الأول، وعارض بقوة «سيناريو» المظاهرات والتصعيد ضد السلطات الذي كلّف الآلاف من أنصار حركته أحكاماً قاسية في محاكمات بالجملة استهدفتهم، أبرزها في أعوام 1981 و1987 و1992. كذلك عارض مورو تصعيد حزب «حركة النهضة» ضد السلطات عام 1991. وبذل وساطات مع بعض وزراء بن علي ومستشاريه لاحتواء الأزمة. ولكن عندما فشلت تلك المساعي جمّد عضويته في «النهضة» عام 1992... ولم يتراجع عن قراره إلا أواخر عام 2012.

علاقات عربية ودولية

أكثر من هذا، استبق مورو الصراعات العنيفة التي شهدتها تونس تمهيداً لإخراج بورقيبة من قصر قرطاج عام 1987. فهاجر وأمضى في المنفى 3 سنوات، ومن هناك ربط علاقات متطوّرة بعدد من كبار الرسميين العرب والأوروبيين ومن زعماء العالم، ولم يعُد إلى تونس إلا بعدما دعاه بن علي.
تفرغ عبد الفتاح مورو طوال عهد بن علي لمهنة المحاماة وللنشاط الحقوقي السياسي العادي، وبقي محاصَراً سياسياً وإعلامياً وممنوعاً من السفر، رغم المساعي التي بذلها لفائدته عدد من السياسيين العرب والأجانب الذين أعلنوا تقديرهم لاعتداله ولبعض مواقفه الدولية، من بينها معارضته الاجتياح العراقي للكويت خلال أغسطس (آب) 1990، في حين انحازت فيه غالبية النخب التونسية والمغاربية إلى النظام العراقي.
ثم بعد «انتفاضة يناير» 2011 وسقوط بن علي، أحجم مورو عن العودة إلى «النهضة» وتزعّم قوائم مستقلة منافسة لها في انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) 2011، تحت شعار «طريق السلامة». غير أن هذه القوائم لم تفز بأي مقعد لأن رفاقه السابقين حاربوها واعتبروها محاولة لتقسيم حركتهم وأنصارها وناخبيها.
أيضاً، انتقد مورو قيادات «النهضة» بعنف، وحاول تأسيس أحزاب منافسة لها مع شخصيات ليبرالية وعلمانية وإسلامية مختلفة، لكنه عاد إلى حركته الأم بعد مؤتمرها الذي عقدته عام 2012 ودخل البرلمان مرشحاً عنها في انتخابات عام 2014، وهو ما أهّله، بعد فوزه، ليُنتخَب في رئاسة البرلمان، ثم يغدو طوال 5 سنوات من أبرز الشخصيات السياسية الرسمية الوطنية التي تستقبل كبار المسؤولين العرب والأجانب. لقد سهّل موقع مورو في رئاسة البرلمان زيارة عدد من دول العالم. وبعدما عُين عام 2016 نائباً أول لرئيس «حركة النهضة» ومسؤولاً عن العلاقات الدولية فيها، توسّعت أكثر شبكة علاقاته داخل تونس، وفي العالم أجمع، بالأحزاب والحكومات والبرلمانات والمجتمع المدني. فهل تسهم هذه الشبكة في أن يكون مورو أحد أبرز المرشحين للدور الثاني في الانتخابات الرئاسية المبكّرة... أم يكون مجرّد «ورقة» لتحسين شروط تفاوض «النهضة» مع منافسيها حول دورها في مؤسسات الدولة بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة؟


مقالات ذات صلة

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

حصاد الأسبوع من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع دوما بوكو

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ

أنيسة مخالدي (باريس)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.