ما لقمة «السبعة الكبار»... وما عليها

تشتهر مدينة بياريتز الساحلية الصغيرة في أقصى جنوب غربي فرنسا، بأنها قبلة أنظار هواة ركوب الأمواج في القارة الأوروبية. وهي تستضيف كل عام بطولة ركوب الأمواج العالمية التي يحضرها أبطال تلك الرياضة من مختلف بلدان العالم لركوب أعلى وأخطر موجات المحيط الأطلسي على سواحلها. وهؤلاء يمارسون تلك الرياضة بأسلوب «المحاكاة»، حيث يبدو وأنهم يلمسون قمم الموجات بألواح الركوب الملساء في وثبات رشيقة. في الأسبوع الماضي، استعان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالأسلوب لاستضافة الدورة الـ45 من «قمة مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى» (السبعة الكبار) التي تضم قادة الدول الصناعية الكبرى: الولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا، وكندا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، خلال يومين من المباحثات والمناقشات وتبادل الآراء والأفكار حول عدد من القضايا ذات الاهتمام العالمي المشترك. وبالمقارنة، مع قمة العام الماضي، التي عقدت في كندا وانتهت بفوضى واضحة وجملة من الاتهامات المتبادلة، يبدو أن قمة بياريتز الفرنسية مرت في سلاسة وهدوء. حتى أن بعض المحللين رأوا أن نجاح القمة يمكن إضافته إلى قائمة الإنجازات الدبلوماسية للرئيس الفرنسي الشاب.
فإذا كان هذا هو الحال، فما هو السر الكامن وراء نجاح هذه القمة؟

لعل السبب الرئيس في قيادة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قمة «السبعة الكبار» إلى النجاح هو أنه رتب ونظم الفعالية بأكملها بأسلوب يسمح للزعماء المشاركين بتصفح واستعراض القضايا العالمية ذات الأهمية، لكن من دون الاستغراق فيها فعلياً. وفي القضايا التي استشعر فيها احتمال نشوب الصدام، كما هو الحال دوماً مع قضية التغييرات المناخية الشائكة، فإنه جعل حضور المداولات اختيارياً بين القادة؛ الأمر الذي أتاح للرئيس الأميركي دونالد ترمب، المعارض الكبير لقضية التغييرات المناخية منذ فترة ليست بالقصيرة، النأي بنفسه والبقاء بعيداً عن تلك السجالات.
مع هذا، وإقراراً بالحقيقة، فإن قمم «السبعة الكبار» تفتقر فعلاً لأي آلية معنية بتنفيذ القرارات والتوصيات ووضعها حيز التنفيذ. وهنا أيضاً، قرر الرئيس الفرنسي أيضاً ألا يصدر عن قمة العام الحالي أي بيانات ختامية تستعرض القرارات التي اتخذها القادة في بياريتز. وكان هذا على النقيض مما اعتادت عليه قمم المجموعة خلال السنوات السابقة التي تمخضت عنها بيانات ختامية رصينة و«سميكة»، لكنها لم تتجاوز مجال القول إلى محيط الفعل.
أيضاً قفز الرئيس ماكرون برشاقته المعهودة فوق تقليد المؤتمرات الصحافية الجماعية، المقصود منها التقاط الصور الجماعية لقادة دول القمة تأكيداً على التناغم والوئام السياسي العالمي. أما المؤتمر الصحافي الذي نظمه ماكرون في ختام أعمال القمة فكان يتألف من شخصيتين اثنتين فقط، هما إيمانويل ماكرون ودونالد ترمب ليس إلا. لكن الأهم من ذلك، ربما، أن الأسئلة التي طُرحت خلال المؤتمر الصحافي الختامي الثنائي كانت مصممة بأسلوب يسهل على الرئيسين الفرنسي والأميركي المراوغة وتفادي نقاط الحرج بكل سلاسة.

ظريف... الحركات الشعبوية
كان ماكرون قد وجّه الدعوة إلى قادة عدد من الدول النامية لحضور فعاليات القمة الكبرى؛ في محاولة منه لإضفاء نوع من التجديد على مجريات القمة الرصينة. وفي لمحة جانبية واضحة، دعا الرئيس الفرنسي وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف إلى تناول كأس من عصير البرتقال وفنجان قهوة.
ويبدو أن قمة بياريتز الأخيرة قد أماطت اللثام عن بعض توقعات المحللين المعلن عنها منذ فترة طويلة، وفي مقدمها نهاية التقاليد التي بدأت عقب فترة وجيزة من نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي، وفقاً لها، لاحظت البلدان الديمقراطية الغربية، بالإضافة إلى اليابان، وجود قدر من التوافق في التعاطي مع القضايا العالمية الرئيسية. ولعل لهذا التوافق جذوره الآيديولوجية ضمن القيم الليبرالية العريضة في سياق الصراع العالمي المشترك ضد الشيوعية، كما في صيغها المتنوعة الأخرى على صعيد المنافسة... وليس الخصومة أو العداء.

اهتزاز التوافق... في ظل المعوقات
لقد بيّنت قمة بياريتز الفرنسية أن حالة التوافق الطويلة الأمد التي استمرت قرابة ستة عقود منذ نهاية الحرب الكبرى، وتمخّضت عن احترام القيم المشتركة واعتماد المقاربات المتماثلة إلى درجة ما حيال السياسات، ما عادت من قبيل المُسلّمات داخل المعسكر الغربي الكبير. وفي حين أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وربما الرئيس ماكرون نفسه بصورة من الصور، ما زالا يمثلان القيم والتقاليد الليبرالية القديمة مع أنماط العمل وتناول المشاكل المتشابهة، فهذا لا ينطبق بالضرورة على الآخرين. إذ كان دونالد ترمب، جنباً إلى جنب مع رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي - الذي يفضل وصفه بلقب «عدو النخبة» - فضلاً عن بوريس جونسون، يدافعون أيما دفاع عن صبغات الحركات الشعبوية الجديدة المتلونة التي وصلت إلى سدة الحكم في الهند والبرازيل والمجر وبولندا.
كذلك، بين «المعوّقات» التي ظهرت خلال القمة كان التراجع الملحوظ لدور الاتحاد الأوروبي بصفته لاعباً دولياً ذا ثقل معتبر، وخوض بريطانيا حرباً لا عنفية بشأن خروجها من أسرة الاتحاد الأوروبي. وبصرف النظر عن هوية الطرف المنتصر في نهاية هذه الحرب، من غير المرجح لبريطانيا أن تستعيد الوضعية نفسها التي كانت تحتلها داخل الاتحاد أو في جواره.
ثم هناك ألمانيا، التي تدخل سياسياً نفق المجهول مع إعلان أنجيلا ميركل تقاعدها الوشيك عن منصبها الرفيع، مقابل الصعود المقلق لجماعات اليمين المتطرف في البلاد... فضلاً عن التباطؤ الاقتصادي الواضح.
ولدينا، أيضاً، إيطاليا المستعصية على الحكم في أفضل فترات تاريخها المعاصر، لكنها اليوم غارقة في حالة من الفوضى السياسية العارمة بسبب طموحات زعيم اليمين المتشدد ماتيو سالفيني الجامحة.
وهكذا، أقله على السطح، يبدو إيمانويل ماكرون الزعيم الأوروبي الوحيد الذي ما زال يحظى بسلطات راسخة في إدارة بلاده، ومن ثم فهو يحمل واجب المطالبة بزعامة الاتحاد الأوروبي بأسره. لكن، مع ذلك، تعاني قاعدة ماكرون الانتخابية من اهتزازات شديدة في حين تتصاعد فيها شعبية الحركات الشعبوية من تياري اليمين واليسار على السواء في الداخل الفرنسي.

ترمب وجونسون
على نهاية الطرف الآخر من الطيف السياسي، قد يبدو كل من دونالد ترمب وبوريس جونسون يعانيان من الضعف لأسباب مختلفة. فعلى الرغم من حقيقة أن الصراع داخل الحزب الديمقراطي الأميركي من الفوضى الشديدة بفعل الصراع السياسي القائم بين الليبراليين المعتدلين التقليديين ومنافسيهم الشعبويين الجدد من تيار اليسار، ليس محسوماً بعد أن يتمكن ترمب من تحقيق الفوز بولاية رئاسية ثانية. ذلك أنه من شأن أي تراجع اقتصادي كبير حرمان ترمب من بطاقة الفوز الذهبية.
أما بالنسبة لجونسون، فإنه قد يخسر تصويتاً بحجب الثقة في البرلمان البريطاني مطلع الشهر المقبل، وبالتالي يغدو رئيس الوزراء الأقصر حكماً في تاريخ الحكومات البريطانية.
ولكن ماذا عن جاستن ترودو، رئيس وزراء كندا، وسجله من الزلات السياسية المتعددة التي تجعله بنظر كثيرين مفتقراً إلى المقومات اللازمة ليصبح زعيماً عالمياً. وهذا ما يترك رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي «الزعيم» الأقوى بين القادة «السبعة الكبار»، والأرسخ أقداماً، والمرشح للاستمرار خلال السنوات القليلة المقبلة. لكن هنا، أيضاً، يجب القول إن اليابان تفتقر إلى خبرات اللعب السياسي على الصعيد العالمي، وربما إلى قدر معتبر من الطموح كذلك، يدفعها إلى السعي لبناء الزعامة العالمية استناداً إلى قوتها الاقتصادية الهائلة.

قضيتا الإنترنت والبيئة
كانت مجموعة «السبع الكبرى» في بدايتها مثل الجداول الصغيرة التي تصب لاحقاً في نهر كبير يعرفه الجميع باسم «النظام العالمي». غير أن قمة بياريتز الأخيرة عكست صورة تفيد بأن تلك الجداول – أو الروافد – باتت تتدفق بعيدة عن ذلك النهر القديم. ومع ذلك، خاض القادة في القمة الأخيرة بكثير من المقترحات الخاصة باستعراض الكثير من القضايا. ووافقوا على اتخاذ تدابير تتعلق بإمبراطوريات الإنترنت العالمية، ربما عن طريق إخضاعها للرقابة والتنظيم وفرض الضرائب عليها. والمجال مفتوح لتخمينات الجميع بشأن كيفية تنفيذ ذلك؛ إذ يتوجب على كل الأطراف المشاركة طرح مخططات العمل للحكومات المعنية والهيئات التشريعية المتفرعة عنها.
أيضاً، أكدت الجلسة الخاصة بقضايا البيئة، التي تغيّب عنها الرئيس الأميركي مختاراً، الرغبة الراسخة في تأييد «اتفاقيات باريس» المناخية، مع أنه يصادَق عليها من خلال برلمانات الدول المعنية. والآمال الراهنة في أن تغير الولايات المتحدة رأيها بشأن الاتفاقيات؛ ما قد يدفع ترمب أو أي إدارة أميركية مقبلة للموافقة عليها، ليست إلا آمالاً معقودة في الخيال.
في سياق متصل، يمكن وصف محاولة القمة الأخيرة فعل شيء بشأن الحرائق الرهيبة التي عصفت بغابات الآمازون في البرازيل، بأنها مجرد خطوة شكلية. وكان الرئيس البرازيلي جاير بولسونارو قد أعرب عن «سخط شعبه» رافضاً مبلغ 10 ملايين دولار قدمته قمة بياريتز ضمن حزمة المساعدات المقدرة بنحو 20 مليون دولار لصالح البلدان المتاخمة لغابات الآمازون.
وحسب البعض، يرى أكثر من 100 مليون شخص ممن يعيشون داخل غابات الآمازون المطيرة وحولها أن تطوير الموارد الطبيعية، المحفوف بالكثير من المخاطر البيئية، هو السبيل الوحيد للهرب من حياة الفقر المدقع التي يعيشونها. هؤلاء يتحدث الرئيس البرازيلي اليميني المتشدد بالنيابة عنهم، ولا سيما عندما يتهم البلدان الغنية بإطلاقها القسط الأكبر من الانبعاثات الكربونية في العالم... في حين يطالبون أميركا الجنوبية بالتزام الفقر والعوز من أجل حماية ما يطلق عليه الأوروبيون «رئة العالم» في غابات الآمازون.

الصين... الحاضر الغائب!

> كانت الصين حقاً «الحاضر الغائب» في قمة بياريتز. ولعل الأمر كان يهدف لتهدئة المخاوف الأوروبية من حرب الرسوم الجمركية العالمية التي لمح الرئيس دونالد ترمب إلى تخفيف حدتها مع الصين بشأن العجز التجاري، وتخفيض قيمة العملة، وتكتيكات الإغراق التام. ولن ينطلق صوب التراجع والإذعان الآن، لكنه سيعيد تقييم الاستراتيجية بشأن القتال المتعدد الجوانب مع الصين بدلاً من محاولة خوض جولة واحدة من القتال بالضربة القاضية.
لا شك أن كلاً من الولايات المتحدة والصين في حاجة ماسة إلى بعضهما بعضاً. لكن السؤال هو: من يحتاج إلى الآخر أكثر؟
إن من شأن حالة الشك المستمرة منع الجانبين من الاندفاع في الصراع إلى ما وراء خطوط معينة. وجاء ذلك الموقف مطمئناً للزعماء المشاركين في القمة الأخيرة.