(2) التحمت المدرعات الأردنية بالإسرائيلية فغاب سلاح الطيران عن معركة الكرامة

مذكرات الأمير زيد بن شاكر كما ترويها أرملته - قوات سعودية واجهت الإسرائيليين جنوب البحر الميت وقدّمت شهداء

الملك حسين والأمير زيد بن شاكر (إلى اليمين) وسط مجموعة من العسكريين
الملك حسين والأمير زيد بن شاكر (إلى اليمين) وسط مجموعة من العسكريين
TT

(2) التحمت المدرعات الأردنية بالإسرائيلية فغاب سلاح الطيران عن معركة الكرامة

الملك حسين والأمير زيد بن شاكر (إلى اليمين) وسط مجموعة من العسكريين
الملك حسين والأمير زيد بن شاكر (إلى اليمين) وسط مجموعة من العسكريين

بعد عقود هيمنت فيها رواية محددة عن مجريات معركة الكرامة ضد الإسرائيليين عام 1968، يكشف الأمير زيد بن شاكر، في مذكراته التي ترويها أرملته السيدة نوزاد الساطي والتي تصدر الشهر المقبل عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت - عمان، أن التحام المدرعات الأردنية بالمدرعات الإسرائيلية في المعركة حال دون مشاركة سلاح الطيران الإسرائيلي في القصف، وساعد في تحقيق الانتصار بعد سنة واحدة من نكسة حرب عام 1967. وتكشف المذكرات التي تصدر تحت عنوان «زيد بن شاكر... من السلاح إلى الانفتاح»، عن أن قوات سعودية (جزء من قوات عربية كانت في الأردن آنذاك) واجهت الإسرائيليين جنوب البحر الميت وقدّمت شهداء؛ الأمر الذي أتاح للأردنيين خوض المواجهة ضد القوات الاسرائيلية في قرية «الكرامة» التي كانت فصائل فدائية فلسطينية تتحصن فيها.
وفيما يأتي نص الحلقة الثانية من مذكرات زيد بن شاكر الذي كان واحداً من أشد المقربين من العاهل الأردني الراحل الملك حسين:

كان على زيد ورفاق السلاح، عقب هزيمة 1967، مهمة متعددة الأبعاد، تتصل بدرجة أولى بإعادة بناء الروح المعنوية وصناعة الإرادة والإيمان بالذات، بعد الشعور بمرارة الهزيمة، والفجوة الكبيرة مع العدو في أرض المعركة. في حين تولى الحسين بدرجة كبيرة مهمة البحث، مرة أخرى، عن إعادة تسليح القوات المسلحة، في ظل تنامي الفجوة بين الأردن والولايات المتحدة، بسبب موقف الحسين في الحرب. أما الجانب الثالث، فتمثل بعملية إعادة توزيع القوات المسلحة للقيام بواجباتها بحماية الحدود والأمن الداخلي. وهي مهمات ثقيلة على الجميع.
‪‪في تلك المرحلة، وغداة الهزيمة مباشرة، برز مفهوم «حرب الاستنزاف» عربياً. وقد ألقى الحسين خطاباً مهماً في تلك الأيام، قال فيه إن أي عربي، وفلسطيني بشكل خاص، يريد أن يقاوم الاحتلال، فأبواب الأردن مفتوحة له ليكون قاعدة للعمل ضد الاحتلال. يقول زيد عن تلك المرحلة: «فتحنا أبواب البلد، فجاءتنا أعداد كبيرة. الفكرة كانت، في نظرنا، أن تبدأ عملية مقاومة للاحتلال داخل الأرض المحتلة. وكنا نأمل أن يستخدموا (الفصائل وقادتها) الأردن مكاناً لعبور المقاومين من حركة المقاومة الفلسطينية، إلى داخل الأرض المحتلة، لإقلاق الإسرائيليين وهزهم، على أساس أنه ليس بعد احتلال الأرض ينتهي كل شيء». وجاءت فعلاً أعداد كبيرة من الناس، كانوا في معظمهم فعلاً أناساً وطنيين يريدون محاربة الإسرائيليين وتحرير بلدهم. وكانت هناك أحزاب سياسية ممنوعة في الأردن، عندما فتحت الأبواب دخل قسم من هؤلاء الناس (من أعضاء تلك الأحزاب) واستغلوا القرار الذي اتخذه الأردن بالسماح لكل فلسطيني بشكل خاص بأن يتقدم ويشارك في مقاومة الاحتلال. تمكّن الفدائيون في البداية، بالتنسيق مع الجيش العربي، من إزعاج إسرائيل، كما يروي زيد: «فصارت قرية الكرامة قاعدة رئيسية من القواعد المنتشرة في كل المملكة لإخواننا الفلسطينيين الذين يريدون مقاومة الاحتلال. فكان لهم نشاط، وكنا في القوات المسلحة ندعمهم بمدفعية أو رشاشات إلى أن يعبروا النهر، وذلك على الرغم من دفع الأردن ثمن هذا الدعم والمساندة نتيجة الغارات الإسرائيلية المتواصلة على عمّان
ويضيف عن علاقة الجيش بالفدائيين، في المراحل الأولى بعد الهزيمة: «عندما كان الفدائيون ينهون مهمتهم ويعودون، كنا أيضاً نساعدهم عبر تغطيتهم بالنار حتى يستطيعوا العبور. فاتخذ الإسرائيليون قراراً بأن يقوموا بعملية كبيرة لتدمير هذه القاعدة الكبيرة».
بين يونيو (حزيران) 1967 ومارس (آذار) 1968، وقعت اشتباكات كثيرة، كان أعنفها في 15 فبراير (شباط) 1968؛ حين زادت وتيرة المواجهات بين الفدائيين والجيش العربي من جهة، والإسرائيليين من جهة أخرى. فقصفت إسرائيل قرابة 15 قرية في إربد والغور الشمالي، واستشهد جنود أردنيون - منهم الرائد منصور كريشان، قائد كتيبة الحسين الثانية الآلية - وهم يمنعون الجيش الإسرائيلي من التقدم، في مواجهة دامت ساعات عدة.
في مساء يوم الثلاثاء 19 مارس 1968، قدّم مدير الاستخبارات العسكرية غازي عربيات، تقريراً مهماً لقيادات الجيش، يقول فيه إن الهجوم الإسرائيلي سيكون صباح يوم الخميس 12 مارس، أي خلال 48 ساعة فقط. ومن ثم، أصبحت متواصلة الجهود المبذولة للاستعداد لهذه المعركة الحاسمة؛ لأن المدة قصيرة.
أدى زيد دوراً كبيراً خلال تلك الفترة في تجهيز الجيش للمعركة، وكان يجول على الجنود عشية «الكرامة»، ويقول: «نحن الآن أمام أنفسنا وأمام إرادتنا وإيماننا بالله عز وجل، فلن ننتظر طيراناً من سوريا ومصر، ولا مساعدة من أحد. وأعتقد أن الوقت حان لنبرهن نحن الجنود كيف ندافع عن وطننا».
يوم الأربعاء، زار زيد (بصفته قائد اللواء 60 المدرع) مع قائد الفرقة الوحيدة في الجيش العربي اللواء مشهور حديثة، خطوط التماس مع الإسرائيليين، فتأكد أن المعركة باتت وشيكة.
ويتذكر زيد لاحقاً لحظات الترقب في اليوم الذي سبق المعركة بالقول: «قمنا بجولة في الوادي (يقصد وادي الأردن) كلّه، ومررنا على الكرامة، حيث شاهدنا بعض إخواننا الفدائيين الفلسطينيين يحفرون الخنادق. وفي الوقت نفسه نظرنا إلى الغرب فوجدنا حركة للقوات الإسرائيلية غرب النهر؛ إذ كانوا يحشدون دبابات ومدافع وآليات كبيرة، وكان واضحاً لنا من هذه الرؤية والمشاهدات أن الإسرائيليين قد عزموا على إجراء عملية عسكرية ضد الأردن. وكانوا لا يحاولون أن يتخذوا أي تمويه لخداع عدوهم (نحن)، ولا أي نوع من التستر؛ لم ينتظروا غياب الشمس والتحرك في الظلام».
بماذا نفسّر تلك الاستعدادات العلنية للجيش الإسرائيلي وعدم إخفاء خططهم وتحركاتهم؟ يجيب زيد: «كان واضحاً أنهم يتعاملون بشيء من العنجهية، نتيجة الانتصار الساحق قبلها بأشهر في عام 1967، كنا نحن الضباط الذين نشاهدهم بالمناظير نقول إنهم إما مجانين أو إنهم لا يعرفون مقدرة الجيش الأردني».
يضيف زيد في ملاحظاته واستنتاجاته من زيارته مع اللواء مشهور حديثة لوادي الأردن: «نظرنا وقدّرنا أن الهجوم الإسرائيلي وشيك، وهي مسألة ساعات فقط تفصلنا عنه. فقابلت قيادات الكتائب التابعة لي، وأعددنا التنسيق الأخير، وعدت إلى قيادة اللواء».
بالفعل، كما أكد تقرير الاستخبارات واستنتاجات زيد واللواء مشهور حديثة من زيارتهما يوم الأربعاء لخطوط التماس، بدأ الجيش الإسرائيلي الهجوم في تمام الساعة الخامسة فجراً من يوم الخميس.
يومها، رن جرس الهاتف في منزلنا، وكان على الطرف الآخر عامر خماش، رئيس هيئة الأركان، يخبر زيداً ببدء المعركة.
غادر زيد بسيارته، برفقة عيد الروضان، إلى مقر القيادة في النبي يوشع، على جبال السلط، حيث كانت قيادة القوات الأردنية. ويتحدث الروضان عن ذلك: «رأينا على الطريق سيارات (لوري) تحمل الذخيرة وتتعرض لقصف جوي إسرائيلي، قادمة من الزرقاء. فطلب مني أبو شاكر أن أنزل من السيارة إلى السيارة الأخرى التي كانت ترافقنا، وأوجههم إلى الطريق الصحيحة للوصول إلى القوات المسلحة، في حين توجه هو إلى مقر القيادة حيث كان هو واللواء مشهور حديثة يديران المعركة».


 (الحلقة الأولى)
زيد بن شاكر: معلومات مصرية وضغوط دفعت بالملك حسين إلى حرب 1967


كانت القوات الأردنية عبارة عن فرقة مشاة تسيطر على المعابر المؤدية إلى عمّان ومدينة السلط، مؤلفة من ثلاثة ألوية موزعة على هذه الخوانق المؤدية إلى الجبل، تسليحها هو تسليح مشاة عادي مع إسناد مدفعي وهندسي. وكان هناك أيضاً اللواء 60 المدرّع الذي يقوده زيد، وبعض التواجد للقوات الخاصة بأسلحة قنص الدروع. أما الفدائيون، فكانوا متواجدين في منطقة الكرامة نفسها، وقد نسّق معهم زيد وقادة الجيش العربي في الليلة السابقة؛ لأنه كان من الواضح أن العملية بالنسبة لنا دفاعية.
يتحدث زيد عن المسار العام للمعركة بالقول: «كانت كل القوة الإسرائيلية التي أتت عبارة عن فرقة من مدرعات وآليات مشاة، حاولوا العبور من ثلاثة محاور: طريق القدس - عمان الرئيسية، طريق القدس - عمان عن طريق الشونة الجنوبية، وطريق نابلس - عمان عن طريق داميا، وهي قرية صغيرة. ‪في المحور الأول فشلوا؛ إذ كانت هناك دبابات قاومتهم ولم يستطيعوا العبور. لكنهم نجحوا في العبور من منطقة جسر الملك حسين الذي يؤدي من أريحا إلى الشونة الجنوبية، ومعظم قواتهم عبرت من هناك. كما أن هناك قوة عبرت نهر الأردن على جسر الأمير محمد في قرية داميا، وهي طريق نابلس - عمان. في المقابل، كانت قواتنا المدرعة والمدفعية موزعة، ولدينا توقعات دقيقة حول خطتهم؛ فلم يكن هناك عنصر مفاجأة. أيضاً، قاموا بهجوم تمويه في منطقة غور الصافي جنوب البحر الميت، وكانت تتواجد هناك قوات من الجيش السعودي واجهت العدو في تلك المنطقة، وسمحت لنا بمواجهة العدو في المنطقة الرئيسية الكرامة. وقد قدم السعوديون شهداء في هذه المعركة».
الهجوم كان بداية بالدبابات بإسناد مدفعي. ثم دخلت قوات المشاة الآلية بآليات مدرعة. واستمرت المعركة من الخامسة والنصف فجراً عندما عبروا، حتى الساعة العاشرة والنصف أو الحادية عشرة ظهراً، حين طلبوا - من خلال الأمم المتحدة - وقف إطلاق النار للسماح لهم بالانسحاب. وقد رفض الملك ذلك، إلا أن ينسحبوا من أرض المعركة ويعودوا خلف النهر. فاستمرت المعركة وبدأوا الانسحاب نحو الساعة الثانية عشرة والنصف. وتابعناهم إلى أن عبروا النهر. في الثامنة مساءً، انتهى الاشتباك. وكان علينا التأكد من أنه لم يبق أحد في أرض المعركة أو كمائن. واستمر عملنا هذا حتى الساعة الحادية عشرة مساء (وهو ما يسمى «تطهير الأرض»)، ولم نجد أحداً. لكنها كانت عملية دقيقة وضرورية للتأكد من أنه لم يبق أحد من أفراد العدو أو مجموعة داخل الأراضي الأردنية.
يروي الروضان، وكان رفيقاً لزيد في هذه المعركة أيضاً، مشهد المعالم الأولى للنصر: «بعد ساعات من بدء القتال، بدأت معالم الانتصار واضحة. ولم يكن أبو شاكر يطيق الانتظار أكثر في مقر القيادة، فتوجهنا بالسيارة إلى وادي شعيب، حيث كان يقود القوات الزعيم كاسب صفوق قائد قوات محور وادي شعيب في الكرامة».
على الرغم من الدور المحدود الذي قامت به المنظمات الفلسطينية في معركة الكرامة، فإن زيد لم يكن متحاملاً عليهم في تقييم ذلك (حتى بعد 23 عاماً، أي خلال مقابلته مع عماد الدين أديب)؛ إذ يقول: «كي أكون منصفاً، لم يكن لهم - أي الفدائيين - مجال للحركة، إلا أنهم عبارة عن أفراد مشاة بأسلحة خفيفة ولم يكونوا متخندقين... فكان من الصعب على الفدائيين أن يقاوموا هذه القوة إلا بأسلحة الدروع مثل (آر بي جيه) التي لا بد أنهم كانوا يمتلكون شيئاً منها».
أما نتائج المعركة فكانت، كما يلخصها زيد: «خسائرهم (أي الإسرائيليين) كانت كبيرة. تركوا لأول مرة في تاريخهم آليات وجثثا لجنودهم في أرض المعركة (دبابات وآليات ثقيلة وسيارات جيب).
أما عن خسائر الجانب الأردني فهي 85 شهيداً من القوات المسلحة الأردنية. كان قتالاً شرساً جداً، والمعركة استمرت 15 ساعة».
ما هو أهم من الخسائر المادية والبشرية في الجيش الإسرائيلي، كانت النتائج المعنوية للنصر. فكما يقول زيد: أسطورة الجيش الذي لا يقهر تحطمت في الكرامة وفي رأس العش، وكذلك استعادت قواتنا المسلحة ثقتها بنفسها وأصبحت معنوياتها عالية بعد المعركة، ونزعت عن نفسها ثوب الهزيمة المذلة في عام 1967، وأصبحت لدينا قناعة بعد «الكرامة»، بل هي أشبه باليقين، بأن علينا الاعتماد على أنفسنا بدرجة رئيسية؛ فالحروب لا تقاس بالكلام والخطابات العاطفية، بل بالخطط والاستعداد والعزيمة الصادقة.
ومن القصص المؤثرة التي تعكس حجم الفرق بين معنويات جنودنا في حرب 1967 ومعركة الكرامة، تلك التي يرويها فاضل فهيد، وكان قائداً لسرية مدرعات في الكرامة، عن بعض الأفراد والضباط «ممن شعروا بأنهم في موقع الشبهات في حرب 1967، فوجدوا في معركة الكرامة فرصة لرد الاعتبار، وأنه قد جاء اليوم ليغسلوا العار. وكان نقل إلى سريتي 24 فرداً بعد تلك الحرب، بأمر من زيد. فدخلوا معي المعركة واستشهد منم 18 فرداً». ويضيف: «مما أثر فيّ كثيراً أن زيد كان قد اصطحبني في يوم الجمعة الذي سبق معركة الكرامة (15 مارس) لزيارة جنوده في الغور؛ إذ كان يحب قيادة السيارة كنوع من الاسترخاء والراحة بعد العمل المجهد. وهناك تناولنا معهم (شاي عسكر)، كما يسميه الجنود، ويمتاز بكثرة السكّر. كما تعرفت على راتب محمد السعد البطاينة ومرشح ضابط عارف محمود الشخشير من نابلس، واللذين استشهدا في المعركة. وتعرفي بهؤلاء الشباب جعل تأثري باستشهاد عدد منهم كبيراً. وفقدانهم هو ما عكر فرحة النصر أيضاً».
عاد زيد ومعه اللواء مشهور حديثة من أرض المعركة إلى منزلنا في الساعة الواحدة والنصف فجر الجمعة 22 مارس. وطلب مني تجهيز العشاء، فأخبرته بأن ليس هناك أي وجبة جاهزة، فقال لي: «إقلي لنا بيضاً». فصنعت لهما «مفرّكة بطاطا مع بيض»، وجلست معهما بينما كانا يتحدثان عن المعركة، ويستعيدان تفاصيل ما حدث فيها بروح منتشية، ويحللان أسباب انتصارنا. وكنت لا أتوقف عن مقاطعتهما بأسئلة من لا يصدق نفسه لفرح ما يسمع؛ هل فعلاً انتصرنا على إسرائيل؟ هل فعلاً طلبوا وقف إطلاق النار؟ وهما يؤكدان ذلك لي معيدين تفاصيل ما حدث. في تلك اللحظة بدأت أبكي من شدة الفرح. لم أصدق نفسي وأنا أسمع خبر الانتصار؛ من كان يصدق ذلك؟‪!‬‬‬
أخيراً صار هناك جيش عربي يستطيع أن ينتصر على الإسرائيليين. وقفزت على الفور أمامي صور الهزيمة المذلة في 1967، وتعامل الإعلام الغربي معنا، نحن العرب، بعدها. وخرجت أمامي المرارة التي كنا نذوقها دوماً في الأردن، عبر الاتهامات الإعلامية والسياسية بالعمالة، ثم بعد ذلك يصمد الجيش الأردني وهو لم يتعافَ بعد من آثار هزيمة 1967.
وعلى الرغم من فرحة النصر، فإن زيد ومشهور كانا حزينين - في الوقت نفسه - على سقوط شهداء وجرحى من الجيش العربي. وكانت أول مرة أرى فيها دمعة زيد بعد «الكرامة»، وهو يتذكر الشهداء من رفاق السلاح! ففي اليوم التالي للمعركة لعودته، وكان يوم سبت، نظر إليّ بينما كان يرتدي زيه العسكري وقال: اليوم تنتظرني مهمة أصعب من مهمة أمس، وهي كيف سأخبر، شخصياً، أهل الشهداء بخبر استشهادهم! ثم ذرفت الدموع من عينيه‪.‬‬‬
أحد أهم أسباب الانتصار العسكري في «الكرامة»، برأي زيد، هو عجز سلاح الجو الإسرائيلي عن دخول المعركة. لكن على عكس التفكير الشائع حينها بأن الجو الغائم هو ما منع الطائرات الإسرائيلية من المشاركة بكفاءة، فإن لزيد رأياً آخر؛ إذ يقول إن الغيوم لم تمنع استخدام سلاح الجو، بل السبب الجوهري برأيه هو الالتحام السريع بين الدروع الأردنية والإسرائيلية، ما كان يعني إصابة الدروع الإسرائيلية بنيران إسرائيلية في حال استخدام سلاح الجو. وقد ظن الإسرائيليون أنهم باستخدام الدروع سيصلون إلى قاعدة للفدائيين في مزرعة الملك عبد الله المؤسس في الشونة؛ إذ تبين - خلال فترة المعركة - أنها هي هدفهم الرئيس. ولم يتوقع الإسرائيليون أن تنجح المدرعات الأردنية في صدهم بعد الدمار الذي لحق بالعتاد الأردني في حرب 1967.


«تفاهمات» جديدة لـ«إعمار غزة» أمام الوسطاء

منظر عام لمخيم للنازحين الفلسطينيين في الجامعة الإسلامية في مدينة غزة (أ.ف.ب)
منظر عام لمخيم للنازحين الفلسطينيين في الجامعة الإسلامية في مدينة غزة (أ.ف.ب)
TT

«تفاهمات» جديدة لـ«إعمار غزة» أمام الوسطاء

منظر عام لمخيم للنازحين الفلسطينيين في الجامعة الإسلامية في مدينة غزة (أ.ف.ب)
منظر عام لمخيم للنازحين الفلسطينيين في الجامعة الإسلامية في مدينة غزة (أ.ف.ب)

بدأ وسطاء اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، مناقشات دراسة أولية بشأن إعادة الإعمار في القطاع، في أعقاب تأخر عقد مؤتمر القاهرة بشأن التعافي المبكر، وتسريبات أميركية وإسرائيلية تتناول مشاريع إعمار تثير مخاوف بشأن تهجير الفلسطينيين وتقسيم القطاع.

تلك الدراسة التي ناقشها الوسطاء في اجتماع ميامي، وكشفت عنها أنقرة، يراها خبراء تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، تفتح مسار تفاهمات جديدة بين الإعمار الشامل الذي تريده مصر والعرب وتركيا، مقابل خطط الإعمار الجزئي المطروح إسرائيلياً أو برؤية واشنطن، مشيرين إلى أنه ما دامت المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار لم تدخل فهذه المناقشات «هروب للأمام، وتأجيل للحلول، وبحث عن تفاهمات لسد الفجوات وإنهاء تجميد هذا المسار الحيوي للفلسطينيين».

وغداة اجتماع الوسطاء في مدينة ميامي الأميركية، قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في تصريحات أدلى بها للصحافيين، السبت: «إن هناك تفاهمات تبعث على الأمل رغم تعنت إسرائيل»، مضيفاً: «هناك دراسة أولية بشأن إعادة إعمار غزة، تم تقديمها، ونقاشها بشكل تمهيدي»، وفق ما ذكرته وكالة «الأناضول» التركية.

ولم يقدم فيدان تفاصيل بشأن تلك الدراسة الأولية، وهل هي متفقة مع ما هو مطروح عربياً أو إسرائيلياً أو أميركياً، وتمسك بأهمية أن يدار القطاع من قبل أبنائه، مؤكداً رفض أي مخططات لتقسيم أراضي غزة.

شاحنات مساعدات مصرية في طريقها إلى قطاع غزة ضمن قوافل «التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي» (مؤسسة مصر الخير)

وسبق حديث فيدان بيوم، تقرير نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، عن خطة أعدها جاريد كوشنر صهر الرئيس دونالد ترمب ومبعوثه ستيف ويتكوف تسمى «مشروع شروق الشمس» لإعمار غزة بدأ من الجنوب في رفح على مدار 10 سنوات، مع اشتراط نزع سلاح «حماس»، دون تحديد أين سيقيم نحو مليوني فلسطيني نازح خلال فترة إعادة البناء.

وجاءت هذه التسريبات بعد نحو 8 أيام من نقل موقع صحيفة «يديعوت أحرونوت» عن مسؤول إسرائيلي قوله إن «تل أبيب وافقت مبدئياً على دفع تكاليف إزالة الأنقاض من قطاع غزة، وأن تتحمل مسؤولية العملية الهندسية الضخمة، بعد طلب من الولايات المتحدة، وستبدأ بإخلاء منطقة في رفح جنوب القطاع من أجل إعادة إعمارها».

وفي 21 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أكد كوشنر، في مؤتمر صحافي بإسرائيل، أن إعادة إعمار غزة في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش الإسرائيلي «مدروسة بعناية، وهناك اعتبارات جارية حالياً في المنطقة الخاضعة لسيطرة جيش الدفاع الإسرائيلي، إذا أمكن تأمينها لبدء البناء، بوصفها غزة جديدة، وذلك بهدف منح الفلسطينيين المقيمين في غزة مكاناً يذهبون إليه، ومكاناً للعمل، ومكاناً للعيش»، مضيفاً: «لن تُخصَّص أي أموال لإعادة الإعمار للمناطق التي لا تزال تسيطر عليها (حماس)».

ويرى مساعد وزير الخارجية الأسبق السفير حسين هريدي أن هذا الحديث عن دراسة أولية، غير معروفة تفاصيلها هل عربية أو أميركية، يأتي في ظل طرح أميركي بخطة للإعمار، وكذلك إسرائيل بحديث عن إعمار جزئي في منطقة سيطرتها بالخط الأصفر بالقطاع، مشيراً إلى أن أي حديث عن بدء الإعمار دون الدخول للمرحلة الثانية محاولة للهروب للأمام لا سيما من واشنطن، ولا يعني حالياً سوى البحث عن تفاهمات جديدة، والأقرب تنفيذ أو فرض الخطة الأميركية بضمانات.

ويعتقد المحلل السياسي الفلسطيني، الدكتور أيمن الرقب، أن مصر وقطر وتركيا لن تقبل أي خطط تهدد خطة الإعمار الشامل، والقاهرة أعلنت أكثر من مرة أهمية بدء الإعمار ومساعيها المتواصلة لعقد مؤتمر للإعمار سيكون بشراكة مع واشنطن، مشيراً إلى أن أي دراسة بشأن الإعمار يجب أن تتوافق مع يطلبه الفلسطينيون، وليس كما ترغب واشنطن في خطط شروق الشمس أو إسرائيل بالإعمار الجزئي في مناطق سيطرتها التي تصل لنحو 52 في المائة بالقطاع متذرعة بعدم نزع سلاح «حماس».

تلك الدراسة التي طُرحت في اجتماع ميامي، ولم تُكشف تفاصيلها كاملة بعد، جاءت بعد نحو 17 يوماً من إعلان وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، في مؤتمر صحافي ببرلين، مع نظيره الألماني، يوهان فاديفول: «التشاور مع الولايات المتحدة لتكوين رئاسة مشتركة لمؤتمر الإعمار»، الذي يأمل «التوافق على توقيته في أسرع وقت ممكن بالتعاون مع الشركاء».

وبعد ذلك، قال رئيس الوزراء القطري ووزير الخارجية، الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني، في جلسة بـ«منتدى الدوحة»، أخيراً: «سنواصل دعم الشعب الفلسطيني، لكننا لن نمول إعادة إعمار ما دمره الآخرون»، ووصفت وقتها تلك التصريحات القطرية، من جانب خبراء تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، بأنها «ضغط على واشنطن لدفع إسرائيل لتنفيذ انسحاب وبدء إعمار شامل وليس جزئياً».

وكان مؤتمر إعمار قطاع غزة الذي كانت القاهرة ستنظمه في نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أُجِّل دون ذكر السبب، بينما قال المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية، تميم خلاف لـ«الشرق الأوسط»، نهاية الشهر الماضي، إن القاهرة تعمل مع الشركاء الإقليميين والدوليين على تهيئة البيئة المناسبة لنجاح مؤتمر «التعافي المبكر وإعادة الإعمار في قطاع غزة». في معرض ردّه على سؤال عن سبب تأجيل المؤتمر.

ويرى هريدي أن جهود مصر ستتواصل مع الوسطاء لوضع الإعمار موضع التنفيذ، لكن سيبقى دخول المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار هو المعيار لتحديد ماذا سيحدث، وهل حدثت تفاهمات أو ستفرض خططاً معنية وتُرفض عربياً أو ماذا؟

بينما شدد الرقب أن أي حسم لأي خطة ستنفَّذ أميركية أم عربية يتوقف أولاً وقبل أي شيء على بدء المرحلة الثانية من اتفاق غزة، ونشر قوات الاستقرار، وبدء انسحاب إسرائيل، وإلا فما يحدث هو كسب للوقت وتأخر لأي مشاريع إعمار حقيقية تطرحها الخطة العربية بقيادة مصر.


الصومال يتأهب أمنياً لأول انتخابات مباشرة منذ 6 عقود

قائد قوات الشرطة الوطنية بالصومال العميد أسد عثمان عبد الله (وكالة الأنباء الصومالية)
قائد قوات الشرطة الوطنية بالصومال العميد أسد عثمان عبد الله (وكالة الأنباء الصومالية)
TT

الصومال يتأهب أمنياً لأول انتخابات مباشرة منذ 6 عقود

قائد قوات الشرطة الوطنية بالصومال العميد أسد عثمان عبد الله (وكالة الأنباء الصومالية)
قائد قوات الشرطة الوطنية بالصومال العميد أسد عثمان عبد الله (وكالة الأنباء الصومالية)

وسط إجراءات أمنية غير مسبوقة تقترب أول انتخابات مباشرة في الصومال منذ عقود، من خطوة التصويت الشعبي، الخميس المقبل، وسط خلافات سياسية بين الحكومة الفيدرالية والمعارضة، ومواجهات بين الجيش و«حركة الشباب» الإرهابية.

تلك الإجراءات شملت نشر 10 آلاف عنصر أمني وتقييد التحرك في مقديشو يوم الاقتراع، يراها خبير في الشأن الأفريقي والصومال، في حديث لـ«الشرق الأوسط» بمثابة تعزيز لمسار الانتخابات المباشرة وتأمينها ضد أي مخاطر محتملة؛ كون أن نجاح هذا الاقتراع سيسهم في تعزيز استحقاقات مهمة في 2026.

وأفاد قائد قوات الشرطة الصومالية، العميد أسد عثمان عبد الله، بأنه سيتم تقييد الحركة في مدينة مقديشو الخميس المقبل الموافق 25 ديسمبر (كانون الأول) 2025؛ لضمان تمكّن المواطنين من الإدلاء بأصواتهم بأمان في انتخابات المجالس المحلية المقرر إجراؤها في مديريات محافظة بنادر، حسب ما نقلته «وكالة الأنباء الصومالية» الرسمية، الاثنين.

ووفقاً للمصدر ذاته: «هذا، وتقوم قيادة قوات الشرطة الوطنية باستعدادات قوية لضمان أمن انتخابات المجالس المحلية المباشرة التي من المتوقع إجراؤها في مقديشو بعد انقطاع دام نحو خمسين عاماً؛ وذلك لإتاحة الفرصة للمواطنين لاختيار قادتهم».

كما أعلن وزير الأمن الصومالي، عبد الله شيخ إسماعيل، الأحد، أن بلاده ستنشر أكثر من 10 آلاف عنصر أمني في العاصمة مقديشو قبيل الانتخابات المحلية المقررة الأسبوع المقبل والتي تُعدّ أول انتخابات مباشرة منذ نحو 60 عاماً.

وتنظم الانتخابات المحلية في مقديشو، بعد تأجيلها إلى 25 ديسمبر 2025، بدلاً من الموعد المقرر سابقاً في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) بناءً على طلب رسمي من 61 جمعية سياسية، تُمثل مجتمعة أكثر من 900 ألف ناخب مسجّل في العاصمة، حيث طلبت هذه الجمعيات «وقتاً إضافياً لإعداد مرشحيها، واستكمال الترتيبات اللوجستية» قبل التصويت؛ بهدف ضمان مشاركة أكبر، وتحسين الجاهزية، وسلاسة العملية الانتخابية، وفق ما أعلنه وقتها رئيس اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات بالصومال، عبد الكريم أحمد حسن.

ويستبعد الخبير في الشؤون الأفريقية، الدكتور علي محمود كلني، إمكانية تهديد أمني خطير حالياً من الإرهابيين أو جماعات المعارضة، لافتاً إلى أن ما طرح رسمياً بشأن الانتشار الأمني سيساعد في تعزيز عدم وجود أي تهديد، لكن تقييد حركة المرور قد يعقّد العملية الانتخابية وغير معروف كيف يمكن تنفيذه وقد لا ينفذ مع الإقبال.

وأضاف: «سيأتي الناخبون في مقديشو من أماكن بعيدة ولن يتمكنوا من الوصول إلى مراكز الاقتراع من دون وسائل نقل، خاصةً وأن عملية تسجيل الناخبين كانت في الأصل تعتمد على نظام غير محلي، حيث كان كل ناخب يسجل في الدائرة التي تقيم فيها عائلته».

وعلى سبيل المثال، أوضح كلني أنه يمكن لناخب يسكن في حي أفجوي، الذي يبعد 30 كيلومتراً عن مقديشو، التسجيل في الدائرة التي ينتمي إليها، داعياً إلى النظر في هذه النقطة.

ويشارك في انتخابات 25 ديسمبر التي تقاطعها المعارضة لأسباب تتعلق باتخاذ الحكومة الفيدرالية «إجراءات انتخابية أحادية»، أكثر من 1600 مرشح يتنافسون على 390 مقعداً في منطقة بنادر في جنوب شرقي البلاد، وأحصت الهيئة الانتخابية تسجيل نحو 400 ألف ناخب للتصويت في هذه الانتخابات.

وفي أبريل (نيسان) الماضي، نظمت البلاد أول عملية تسجيل للناخبين منذ عشرات السنين؛ تمهيداً لإجراء اقتراع عام وإنهاء نظام التصويت غير المباشر المعقد القائم على العشائر والمطبق منذ عام 1969، وفقاً لما ذكرته «وكالة الصحافة الفرنسية».

وأُلغي نظام التصويت المباشر في الصومال بعد تولي الرئيس محمد سياد بري السلطة عام 1969. ومنذ سقوط حكومته عام 1991، يقوم النظام السياسي في البلاد على هيكل قبلي، والانتخابات التي ستجرى الخميس بنظام «شخص واحد صوت واحد»، تم تأجيلها ثلاث مرات هذا العام، ومن المتوقع أن تنظم البلاد أيضاً انتخابات رئاسية عام 2026، مع انتهاء ولاية الرئيس حسن شيخ محمود.

ويعتقد كلني، أن الانتخابات، التي سيشارك بها منظمات سياسية، أبرزها حزب Jsp، وتوفيق، ورماس، وكرامة، وغيرها الكثير، مثيرة للاهتمام وذات مغزى من حيث كيفية إدارتها من البداية إلى النهاية، وسيقاس على نتائجها.

ومنذ عام، يشتد الجدل داخل الصومال بشأن الانتخابات المباشرة المرتقبة عام 2026، بعد 57 عاماً من آخر اقتراع أُجري عام 1968، بديلاً عن نظيرتها غير المباشرة في عام 2000، التي تعتمد بشكل رئيسي على المحاصصة القبلية في ولايات البلاد الخمس، التي جرى العمل بها بعد «انقلابات وحروب أهلية»، وفي ظل سيطرة 4 عشائر كبرى، هي: هوية، ودارود، ورحنوين، ودِر.

وعلى مدى عام تقريباً، تصاعدت الأزمة السياسية على نحو لافت، وكانت العودة لاستكمال الدستور المؤقت الذي يعود إلى 2012 هي الشرارة الأبرز لتفاقم الخلافات بين الحكومة الفيدرالية وولايتي بونتلاند وغوبالاند من جانب، و«منتدى الإنقاذ الصومالي» من جانب آخر.

واشتدت الخلافات بين الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود والمعارضة، بعد تأسيسه حزب «العدالة والتضامن» في 13 مايو (أيار) الماضي، وتسميته مرشحاً للحزب في الانتخابات المباشرة المقبلة، وسط تحركات للمعارضة وتشكيل تحالفات.

وأوضح كلني أنه إذا جرت هذه الانتخابات بسلام، فستكون بمثابة اختبار حقيقي للانتخابات المباشرة التي دعت إليها الحكومة، والتي سيختار الشعب من خلالها قادته على جميع المستويات، مشيراً إلى أن إتمام هذا الاقتراع ستكون هذه بدايةً لانتخابات مباشرة وشاملة تعزّز فرص تكررها مع رئاسيات 2026.


تصعيد «الانتقالي الجنوبي» يضع «مجلس القيادة اليمني» أمام اختبار «وحدة القرار»

جانب من اجتماع سابق لـ«مجلس القيادة الرئاسي» اليمني (سبأ)
جانب من اجتماع سابق لـ«مجلس القيادة الرئاسي» اليمني (سبأ)
TT

تصعيد «الانتقالي الجنوبي» يضع «مجلس القيادة اليمني» أمام اختبار «وحدة القرار»

جانب من اجتماع سابق لـ«مجلس القيادة الرئاسي» اليمني (سبأ)
جانب من اجتماع سابق لـ«مجلس القيادة الرئاسي» اليمني (سبأ)

أعاد التصعيد الميداني الذي أقدم عليه «المجلس الانتقالي الجنوبي» في محافظتي حضرموت والمهرة، خلط الأوراق داخل معسكر الشرعية اليمنية، وفتح باباً واسعاً للتساؤلات حول مدى قدرة «مجلس القيادة الرئاسي» على العودة للتماسك، وفرض وحدة القرار بشقيه السياسي والعسكري، في مرحلة تُعد من أكثر المراحل اليمنية تعقيداً منذ تشكيل المجلس في أبريل (نيسان) 2022.

وفي أحدث هذه التطورات، أعلن وزراء ونواب وزراء ووكلاء ومحافظون محسوبون على «الانتقالي الجنوبي»، إضافة إلى مسؤولين حكوميين مقربين منه، تأييدهم العلني لإجراءاته في حضرموت والمهرة، واصطفافهم السياسي خلف رئيسه عيدروس الزُّبيدي، الذي يشغل في الوقت ذاته، منصب نائب رئيس «مجلس القيادة الرئاسي»، في خطوة عُدّت، «تجاوزاً غير مسبوق لمبدأ الشراكة داخل أعلى سلطة تنفيذية في البلاد».

وعلى وقع هذه الخطوات من قبل المسؤولين الحكوميين المحسوبين على «الانتقالي»، صدر بيان عن رئيس «مجلس القيادة الرئاسي»، رشاد العليمي، نُسب إلى «مصدر مسؤول» في مكتب رئاسة الجمهورية، عبّر فيه، عن قلق واضح إزاء ما وصفه بـ«خروج بعض الوزراء والمسؤولين التنفيذيين عن مهامهم الوظيفية»، وتحولهم إلى التعبير عن مواقف سياسية «لا تنسجم مع المرجعيات الدستورية والقانونية الناظمة للمرحلة الانتقالية وعمل مؤسسات الدولة».

رشاد العليمي رئيس «مجلس القيادة الرئاسي» اليمني يصافح عضو المجلس عيدروس الزبيدي (سبأ)

وشدّد البيان على «أن القيادة السياسية الشرعية، المعترف بها وطنياً وإقليمياً ودولياً، والممثلة بمجلس القيادة الرئاسي، هي الجهة الوحيدة المخولة بتحديد المواقف السياسية العليا للدولة»، محذراً من أن «استغلال المنصب الرسمي لتحقيق مكاسب سياسية، يُعد خرقاً جسيماً للدستور والقانون، وإضراراً بوحدة السلطة التنفيذية، ومساساً بالسلم الأهلي والتوافق الوطني القائم».

ووجّه العليمي الحكومة والسلطات المختصة «لاتخاذ الإجراءات القانونية والإدارية كافة بحق أي تجاوزات تمس وحدة القرار، أو تحاول فرض سياسات خارج الأطر الدستورية»، مؤكداً «ضرورة الالتزام الصارم بقرارات مجلس القيادة، والبرنامج الحكومي، ومرجعيات المرحلة الانتقالية، وفي مقدمتها إعلان نقل السلطة واتفاق الرياض».

ولم يخلُ البيان من رسالة سياسية مباشرة إلى شركاء «المجلس الانتقالي الجنوبي»، دعاهم فيها، «إلى تغليب الحكمة ولغة الحوار، وتجنيب البلاد تهديدات غير مسبوقة، تشمل الأمن الوطني والإقليمي والدولي، وعدم التفريط بالمكاسب التي تحققت خلال السنوات الماضية بدعم من تحالف دعم الشرعية بقيادة السعودية، بما في ذلك مكاسب القضية الجنوبية العادلة».

مشهد معقد

يضم «مجلس القيادة الرئاسي» إلى جانب رئيسه العليمي سبعة أعضاء، من بينهم ثلاثة ينتمون لـ«المجلس الانتقالي الجنوبي»، هم: عيدروس الزُّبيدي، وعبد الرحمن المحرمي، وفرج البحسني، وجميعهم يُعدّون مؤيدين لخطوات «الانتقالي» الأخيرة في المحافظات الشرقية، ما يضع المجلس أمام معادلة معقّدة بين الشراكة السياسية وتضارب الأجندات.

في المقابل، لم تصدر حتى الآن مواقف صريحة من عضو المجلس طارق صالح بشأن التطورات الجارية، سواء بالتأييد أو الاعتراض، باستثناء تأكيده الدائم أنه «لن يخوض أي صراع في المناطق المحررة، وأن الوجهة يجب أن تكون صنعاء الخاضعة للحوثيين». كما التزم عبد الله العليمي، عضو المجلس المنتمي إلى الجنوب، والممثل لحزب «التجمع اليمني للإصلاح»، عدم اتخاذ أي مواقف صريحة ومعلنة حيال هذه التطورات.

عثمان مجلي عضو «مجلس القيادة اليمني» مع السفيرة البريطانية عبدة شريف (سبأ)

أما عضو «مجلس القيادة الرئاسي» عثمان مجلي، فقد حاول الظهور بموقف وسطي، مؤكداً «ضرورة خفض التصعيد وحل الخلافات تحت سقف الحوار»، ومشدداً على «أن الخصم الحقيقي يتمثل في الحوثيين»، ومحذراً من «استغلالهم لهذه التوترات لإعادة ترتيب صفوفهم، وتعويض خسائرهم العسكرية».

من جهته، حذّر عضو «مجلس القيادة الرئاسي» سلطان العرادة من تداعيات الظروف الراهنة، «وانعكاساتها السلبية على الأمن والاستقرار وجهود مكافحة الإرهاب»، مشدداً على «ضرورة الالتزام بالمرجعيات الثلاث وإعلان نقل السلطة، وعدم خلق فراغات قد يستفيد منها الحوثيون»، وذلك خلال اتصال سابق له مع السفير الأميركي.

وفي حين يراقب الحوثيون هذه التطورات بصمت، معوّلين على أن يفضي أي صدام بين فرقاء الشرعية، إلى منحهم مزيداً من المكاسب سواء العسكرية أو السياسية، يرفض«الانتقالي الجنوبي» حتى الآن، دعوات رئيس «مجلس القيادة الرئاسي»، والوساطات الإقليمية والدولية، لسحب القوات التي دفع بها بشكل أحادي إلى حضرموت والمهرة، في خطوة عدّها مراقبون «تجاوزاً واضحاً لصلاحيات رئيس مجلس القيادة، وتهديداً مباشراً لاتفاقات الشراكة والتوافق القائمة».

موالون لـ«المجلس الانتقالي» الجنوبي محتشدون في عدن تأييداً له (رويترز)

من جهته، وصف رئيس الأركان اليمني صغير بن عزيز، ما تعرضت له قوات المنطقة العسكرية الأولى في وادي حضرموت بأنه «اعتداء» من قبل قوات «الانتقالي» .

وفي السياق ذاته، يرى محافظ حضرموت سالم الخنبشي «أن الحل الأمثل للأزمة يكمن في عودة قوات المجلس الانتقالي إلى مواقعها السابقة، وملء الفراغ بقوات أمنية من أبناء المحافظة، بمساندة قوات درع الوطن».

محاولات احتواء

سياسياً، دخل مجلس النواب على خط الأزمة، حيث أعلن في بيان له رفضه «للتحركات الأحادية التي يقوم بها المجلس الانتقالي خارج أطر الشراكة الدستورية»، وهو موقف يعكس قلق المؤسسة التشريعية من انزلاق الوضع نحو تفكك السلطة التنفيذية.

وفي هذا الإطار، زار رئيس مجلس النواب سلطان البركاني العاصمة المؤقتة عدن، والتقى عيدروس الزُّبيدي، قبل أن يغادر إلى الرياض، حيث عقد بمعية نائبيه محسن باصرة ومحمد الشدادي، لقاء مع العليمي، في مسعى برلماني من أجل احتواء الأزمة.

في المقابل، لزم وزير الدفاع محسن الداعري ووزير الداخلية إبراهيم حيدان الصمت، رغم رصد ظهورهما في وقت سابق إلى جانب الزُّبيدي في عدن، دون صدور أي موقف رسمي يوضح موقف المؤسستين العسكرية والأمنية مما يجري.

اجتماع في عدن لمجلس «البنك المركزي اليمني» (سبأ)

اقتصادياً، تحاول الحكومة اليمنية إظهار قدر من التماسك، حيث أعلنت وزارة المالية في عدن إطلاق التعزيزات المالية الخاصة بمرتبات موظفي الدولة في القطاعين المدني والعسكري، بما فيها «مستحقات الشهداء والجرحى»، تنفيذاً لتوجيهات رئيس الوزراء سالم بن بريك، الذي يركز - حسب تأكيدات دبلوماسية - على ملف الخدمات والإصلاحات، على الرغم من أنه كان غادر عدن رفقة العليمي، في أعقاب تصعيد «الانتقالي».

كما أكد «البنك المركزي اليمني» - من جهته - التزامه بالحياد والاستقلالية، مشدداً على مواصلة أداء مهامه القانونية والمهنية «بعيداً عن التجاذبات السياسية»، في محاولة للحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار المالي والنقدي.

وفي حين لا يُخفي «الانتقالي الجنوبي» سعيه من أجل فصل الجنوب عن الشمال، واستعادة الدولة التي كانت قائمة قبل 1990، بالتوازي مع الدفع بأتباعه إلى الاحتشاد في الساحات لتأييد هذه المساعي، برزت رسائل دولية عدّة مناقضة، حيث أكدت فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة و«مجلس التعاون لدول الخليج العربية»، ودول أخرى، دعمها لوحدة اليمن وسلامة أراضيه ووحدة القرار الشرعي.