إندونيسيا تبني عاصمة جديدة في جزيرة «بورنيو» بـ33 مليار دولار

لأن حركة المرور المزدحم في جاكرتا تفوق الخيال... وجودة الهواء الأسوأ في العالم

تأسست جاكرتا في القرن الرابع فوق المستنقعات
تأسست جاكرتا في القرن الرابع فوق المستنقعات
TT

إندونيسيا تبني عاصمة جديدة في جزيرة «بورنيو» بـ33 مليار دولار

تأسست جاكرتا في القرن الرابع فوق المستنقعات
تأسست جاكرتا في القرن الرابع فوق المستنقعات

يبلغ عدد سكان جاكرتا نحو 10 ملايين نسمة، لكنها تغرق بشكل مستمر، وحركة المرور المزدحم فيها تفوق الخيال، وتعد جودة الهواء فيها من بين الأسوأ في العالم. تحتضن المدينة عدداً قليلاً من الحدائق والمعالم الثقافية، وحتى المشي على الأرصفة يعتبر ممارسة خطرة.
أعلن الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو الاثنين الماضي عن خطة لإصلاح العاصمة تبدأ من الصفر، واقترح تجريد جاكرتا من مكانتها كعاصمة للبلاد وبناء عاصمة جديدة في جزيرة «بورنيو». وبموجب خطته، فإن الشخصيات السياسية والعاملين بالحكومة سيغادرون المدينة الغارقة في مياه جزيرة جاوة وسينتقلون إلى واحدة من الجزر الأقل ازدحاماً في البلاد، وهي جزيرة «بورنيو» التي تشتهر بتاريخ من البحث عن الكفاءات، وبامتلائها بقردة «أورانجوتان» المهددة بالانقراض وبغاباتها الكثيفة المليئة بالنخيل الذي تستخرج منه الزيوت، حسب ما ذكرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية.
الاثنين الماضي، أعلن الرئيس الإندونيسي عن بناء العاصمة الجديدة في مقاطعة «كاليمانتان» الشرقية بالقرب من مدن «باليكبابان» و«ساماريندا» الساحلية حيث تملك الحكومة بالفعل نحو 440 ألف فدان.
وفي هذا الصدد، قال الرئيس للصحافيين: «أجرت الحكومة دراسات متعمقة وكثفنا الدراسات في السنوات الثلاث الماضية. تُظهر نتيجة هذه الدراسات أن المكان المثالي للعاصمة الجديدة هو استقطاع جزء مقاطعة «بانجام باسار الشمالية» وجزء من مقاطعة «كوتاي كارتانجيرا ريجنسي» بشرق كاليمنتان.
تقدر تكلفة المشروع بنحو 33 مليار دولار أميركي. وذكر الرئيس الإندونيسي أنه سيتم سداد 19 في المائة من هذا المبلغ والباقي من شراكات بين القطاعين العام والخاص والاستثمارات الخاصة.
وكان الرئيس الإندونيسي قد أعيد انتخابه رئيساً للبلاد هذا العام بعد أن تولى الرئاسة للمرة الأولى عام 2014. ويرجع ذلك إلى سجله في بناء مشاريع البنية التحتية الكبرى.
وقال إن أحد أسباب اختيار «كاليمانتان الشرقية»، هو أنها ليس لديها تاريخ من الكوارث الطبيعية، على عكس جزر أخرى مثل «جاوة» و«سولاويزي» و«بالي» و«لومبوك» التي ضربتها موجات المد والزلازل والانفجارات البركانية على مدار العشرين شهراً الماضية. وقال أيضاً إن الموقع قريب من المركز الجغرافي للبلد ولديه بالفعل بنية تحتية كبيرة.
يتطلب بناء عاصمة جديدة بناء مقر رئاسي جديد ومباني الوزارات وسكن لموظفي الحكومة وبناء شبكة طرق سريعة، ومن المقرر أن يبدأ البناء في بداية عام 2021.
من المقرر البدء في الانتقال إلى العاصمة الجديدة عام 2024 وهو العام الذي ستنتهي فيه ولاية الرئيس جوكو الثانية والأخيرة. تأسست جاكرتا في القرن الرابع فوق المستنقعات على الساحل الشمالي الغربي لجزيرة «جاوة» واستمرت لعدة قرون عاصمة للملوك والسلاطين.
ومع الاستعمار الهولندي في أوائل القرن السابع عشر، أصبحت جاكرتا عاصمة لجزر الهند الشرقية الهولندية، ونمت في نهاية المطاف لتصبح مدينة ساحلية رئيسية ابتليت بالملاريا في السنوات الأولى.
واليوم عندما يجري دمجها مع مدن «بيكاسي» و«تانجيرانج» و«بوغور» المجاورة، ستشكل مدينة ضخمة تعج بأكثر من 30 مليون شخص.
على طول الساحل الشمالي، تتعرض أجزاء من جاكرتا للغرق بأكثر من بوصتين في السنة، مما يجعلها واحدة من أكثر مدن العالم تعرضاً لارتفاع منسوب مياه البحر بسبب تغير المناخ.
حققت الجدران البحرية نجاحاً محدوداً في كبح بحر جافا، لكن في ظل عدم وجود خطة حاسمة لحماية الساحل، فإنه من المحتمل أن تضيع أجزاء من المدينة في العقود المقبلة.
سعت المدينة في السنوات الأخيرة إلى معالجة ازدحام المرور من خلال بناء مترو أنفاق وخط سكة حديد المطار، وفرضت الدولة نظاماً فريداً بتحديد أيام لقيادة السيارات ذات الأرقام الزوجية وأيام للأرقام الفردية في بعض أجزاء المدينة.
في يوليو (تموز) الماضي، رفع مجموعة من المواطنين والناشطين دعوى قضائية ضد الرئيس وحاكم جاكرتا ومختلف الوكالات الحكومية مطالبين بأنظمة صارمة لضمان جودة الهواء وإنفاذ القانون لحماية الصحة العامة. لكن من غير المتوقع اتخاذ إجراء سريع بشأن تلوث الهواء.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)