كيف يبدو «النصر»؟... رحلة عبر سوريا الممزقة

صحافيات زرن البلاد لمعاينة {انتصار الأسد}

كيف يبدو «النصر»؟... رحلة عبر سوريا الممزقة
TT

كيف يبدو «النصر»؟... رحلة عبر سوريا الممزقة

كيف يبدو «النصر»؟... رحلة عبر سوريا الممزقة

عندما انطلقنا في رحلتنا حول حطام ضاحية دوما في دمشق، استغرق الأمر منا وقتاً قليلاً كي ندرك ما ينقص المكان. رأينا نساء يحملن أكياس البقالة، ورجالاً كباراً في السن على ظهر دراجات بخارية وأطفالاً بأجساد نحيفة في طريق العودة إلى ديارهم حاملين أواني من المياه. ومع هذا، كان هناك القليل من الرجال الشباب.
لقد سقطوا قتلى في الحرب أو زج بهم إلى السجون أو تشتتوا فيما وراء حدود سوريا. والآن، أصبح لزاماً على الناجين أمثال أم خليل، الجدة ذات الوجه المستدير البالغة 59 عاماً، التأقلم مع غيابهم. لقي ثلاثة من أبناء أم خليل مصرعهم، بينما تعرض ابن رابع للتعذيب في سجن يتبع الجماعات المسلحة، واختفى خامس في مراكز الاحتجاز التابعة للنظام. واضطرت زوجات أبنائها إلى العمل، بينما تتولى هي رعاية أحفادها الخمسة في ظل غياب زوجها الذي قتل في غارة جوية.

قالت أم خليل أثناء جلوسها في شقة أحد معارفها، حيث يتكدس الباقون من أفراد أسرتها: «أحياناً، أجلس وأفكر كيف حدث كل هذا؟ كان لدي أبناء يعملون، وكان كل شيء طبيعياً، وفجأة فقدتهم. كان لدي زوج، وفقدته أيضاً. ليس لدي إجابات. فليسامح الله من كان مسؤولاً عن كل ذلك». وبعد ذلك، انفجرت صائحة: «يغفر لهم أو لا يغفر لهم، ما الفارق الذي سيحدثه ذلك؟ أتمنى لو كان بإمكاني العثور على من دمر هذه المدينة لأقتله بنفسي».
على مدار فترة من الوقت، أحاطت الشكوك بمسألة ما إذا كان الرئيس بشار الأسد سيخرج منتصراً في هذه الحرب. ونحن ثلاثة صحافيات لدى «نيويورك تايمز» قدمنا إلى سوريا لمعاينة كيف يبدو هذا النصر الذي حققه.
على مدار ثمانية أيام في يونيو (حزيران)، زرنا خمس مدن وقرى خاضعة لسيطرة قوات النظام، وعايننا فيها حطاماً وكرماً وأشخاصاً يعتصرهم الحزن وآخرين يعيشون يوماً بيوم. الواضح أن المعاناة توزعت على نحو متفاوت، وكان الجزء الأكبر منها من نصيب الفقراء وسكان المناطق التي كان يسيطر عليها المسلحون سابقاً. كما جرى التشارك في جهود التعافي على نحو متفاوت، أيضاً.
في دمشق، يقف مركز للتسوق التجاري جرى بناؤه أثناء الحرب بتكلفة 310 ملايين دولار في بقعة ليست بعيدة عن جبل كانت قوات الأسد تدك أماكن خاضعة لسيطرة مسلحين فيه بالمدفعية. في المقابل نجد أنه في بلدة دوما المجاورة التي خضعت لسيطرة المسلحين على مدار الجزء الأكبر من الحرب، ما تزال المياه الجارية أملاً أكثر منه حقيقية. وفي اللاذقية، المطلة على ساحل البحر المتوسط، وأحد المعاقل القوية للأسد، كانت النسوة يبكين خلف صور الأبناء القتلى. وفي مدينة حلب الشمالية التي نجح الأسد في استعادة السيطرة عليها، عادت الحياة مجدداً إلى المصانع والأسواق، لكن إمدادات الكهرباء ما تزال متقطعة.
ولم تكن البنية التحتية الشيء الوحيد الذي يحتاج إلى إعادة بناء، وإنما تؤكد مشاهداتنا أن سوريا تنقصها طبقة وسطى، بعد أن فر أفراد هذه الطبقة إلى الخارج أو هبطوا على درجات السلم الاقتصادي.
من ناحيتها، تقدر الأمم المتحدة أن أكثر من ثمانية من بين كل 10 أشخاص في سوريا، الآن، يعيشون في الفقر، ويتقاضون أقل من 3.1 دولار يومياً بالنسبة للفرد. وحتى مع بدء عودة بعض النازحين إلى ديارهم، ما يزال الشباب يجبرون على الانضمام إلى الجيش، بينما يختفي المنشقون أو من هم على صلة بهم داخل سجون مظلمة. وما يزال الناس يفرون من البلاد حتى اليوم، وإن كانت أعدادهم أقل كثيراً عما كانت عليه في فترات الذروة من قبل.
وفي ظل عدم تدفق مساعدات من الجهات الدولية المانحة، وجد السوريون الذين التقيناهم أنفسهم مضطرين لفعل كل ما بوسعهم لرأب الصدوع التي أحدثتها الذخائر في جدران منازلهم وإطعام أطفالهم وإيجاد سبيل لكسب القوت.
وفي ظل غياب عدد كبير للغاية من الشباب، وقعت هذه المهمة على عاتق الكبار في السن وشديدي الصغر، خاصة النساء، بما في ذلك نساء من أسر محافظة يعملن اليوم للمرة الأولى في حياتهن. على سبيل المثال، قالت أم عقيل (40 عاماً)، في شرق حلب: «لم يخطر ببالي قط أن يأتي يوم وأعمل فيه، لكن هذا أفضل بكثير من أن أضطر للتسول». وقالت أم عقيل إن الحكومة تحتجز زوجها، «دون ذنب اقترفه» حسب قولها. وقالت إنها ترغب في أن تعمل بناتها عندما ينجزن تعليمهن بالمدارس، كي «لا يكابدن ما كابدته أنا».

صور الأسد في كل مكان

في كل مكان زرناه، كان من المستحيل أن تنسى من يترأس هذا الدمار، ومن سيترأس ما سيليه. حملت واحدة من اللافتات الكثيرة المعلقة فوق الطرق السورية عبارة «الأسد إلى الأبد» وحملت صورة الأسد.
وانتشرت صور الأسد عند مداخل المدن التي أعادت قواته السيطرة عليها. وفي بعض الصور، أطل وجهه من بين وجهي داعميه، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من جهة وزعيم جماعة «حزب الله» اللبنانية، حسن نصر الله، من جهة أخرى. وعند إحدى نقاط التفتيش التابعة للجيش التي مررنا بها، كان هناك ما لا يقل عن 13 صورة للأسد، تحدق عيناه داخلها في اتجاهات مختلفة وكأنها مجموعة كاميرات أمنية. أما عملاؤه، فكانوا حاضرين دوماً في رحلتنا. كانت الحكومة قد حظرت عمل الكثير من زملائنا وعدداً من وسائل الإعلام الأخرى بسبب تغطية اعتبرتها شديدة النقد. وتطلب الأمر منا نحن الثلاثة ـ أنا، المراسلة المقيمة في بيروت، ومترجمة لبنانية، ومصورة أميركية تدعى ميريديث كوت، قرابة نصف عام كي نتمكن من دخول البلاد.
ومع هذ، فإن مجرد الحصول على «فيزا» لا يعني السماح بالتجول بحرية في الأرجاء، ففي كل مكان تقريباً ذهبنا إليه، كنا مرافقين برقباء، والعديد من الجنود، ورقباء في ملابس مدنية يتبعون جهاز الاستخبارات السوري القوي. ومن حين لآخر، كان هؤلاء يقدمون أنفسهم باعتبارهم «صحافيين»، وكانوا يقفون إلى جوارنا تقريباً في جميع المحادثات التي كانت تدور بيننا وبين أحد من السوريين. وكان من الصعب الحديث إلى الناس، فقد كانت تجربة مخيفة لهم.
على أفضل تقدير، تمكننا في نهاية الأمر من الحصول على رؤية ضيقة من منظور المعسكر الموالي للنظام لما آلت إليه الأوضاع في سوريا. ولم يلق أي شخص ممن تحدثنا إليهم اللوم على حكومة الأسد في الكارثة التي أنهكت سوريا. ودائماً ما رأى من تحدثنا إليهم، أن الانهيار الاقتصادي نتاج العقوبات الأميركية، وليس الحرب أو الفساد.

نفس القصص الحزينة

كان الرقباء الحكوميون حريصين على أن يظهروا لنا أن الحياة عادت إلى طبيعتها في البلاد. وكانت هذه مهمة بسيطة في دمشق التي نجحت في الجزء الأكبر منها في تجنب الضرر المادي. ومع ذلك، فإنه في غضون دقيقتين من انطلاقنا في رحلة بالسيارة من دمشق إلى دوما، تبدل فجأة المشهد خارج نافذة السيارة من مدينة تعج بالحركة إلى ميدان يعج بركام رمادي اللون. وبدا كما لو أن هذا الركام ممتد لأميال، ورأينا مباني سكنية أشبه بساحات انتظار سيارات في الهواء الطلق، ومآذن تطل برأسها من قلب الحطام مثل شموع ذابت إلى منتصفها في قلب كعكة.
اتسم الدمار والركام المحيط بتجانس مخيف ناتج عن إقدام الطائرات الحربية والمدفعية على محو كل ما على وجه الأرض تقريباً، فيما عدد منشآت إنسانية قليلة. وبذلك، كان من السهل على المرء أن ينسى أن هذا الركام كان بنايات ومنازل في يوم من الأيام.
في قلب دوما، تجتذب السوق حركة خفيفة لكنها مستمرة من متسوقين يبحثون عن فاكهة ومعدات منزلية - إلا أنه رغم مرور أكثر عن عام على نجاح الحكومة في كسر سيطرة المسلحين على المدينة من خلال حصارٍ قاسٍ دفع السكان لأكل العشب، ما تزال أجزاء كبيرة من المدينة لا تصلح للسكن.
ويمكنك التعرف على المناطق التي بدأ الناس في العودة إليها، تحديداً بين تلال الركام، وذلك من خلال أغطية من القماش حلت محل جدران المنازل التي لم يعد لها وجود. في واحدة من البنايات، كانت ثريا يغطيها اللون الأسود واضحة عبر ثقوب واسعة في الجدران التي تحولت إلى شاهد على تحطم الطبقة الوسطى في دوما. وقادنا أحد الأطفال ممن كانوا يلعبون في الخارج نحو أعلى السلالم لمقابلة جده، علي حمود طعمة، وزوجته أم فارس.
كان الجد والجدة قد عادا إلى شقتهما في مايو (أيار)، ليجداها منهوبة ومحترقة. أما قطعة الأثاث الوحيدة التي نجحا في إنقاذها فهي قطعة سجاد تمزج بين اللونين الخمري والأزرق حملتها أم فارس معها عندما فرا إلى قبو على الجانب الآخر من المدينة خلال الأيام الأولى من الحرب. وعلى مدار السنوات السبع التي عاشاها تحت الأرض، بعض الأحيان من دون طعام أو شراب، رفضت أم فارس استخدام السجادة، وظلت في انتظار اليوم الذي يعودان فيه إلى منزلهما من جديد. بحلول وقت عودتهما، كان 20 من أفراد أسرتهما قد لقي مصرعه. وتولت أم فارس وزوجها تربية 11 حفيداً يتيماً داخل مبنى مهجور في معظمه. أما بالنسبة للأصدقاء والجيران القلائل الذين تبقوا، فقد قالت أم فارس: «نتحاشى رؤية بعضنا البعض لأننا جميعاً لدينا نفس القصص الحزينة».
بالجوار، جلس حفيدها، خالد (9 سنوات)، يمسح عينيه الممتلئتين بالدموع ويدفن رأسه من حين لآخر في وسادة. وأوضحت أم فارس أنه لا يبكي على والده المتوفى، وإنما لأنه يعمل في ورشة حدادة، ويتقاضى أجراً يومياً يكافئ ثمن ساندويتش واحد، وتتسبب الشظايا والمواد الكيماوية المتطايرة في التهاب عينيه. بالنسبة للدواء، فإنه خارج حدود مقدرة الأسرة المادية، لكن من دون عمل خالد، لن يكون هناك طعام.
ونهض طعمة وعاد إلينا حاملاً طبقاً زجاجياً به فطائر محشوة بالتمر والفول السوداني. في الواقع، جميع السوريين الذين التقيناهم حرصوا دوماً على أن يقدموا لنا شيئاً مهما بلغ ضيق العيش بهم. وشعرنا أنه من غير اللائق أن نرفض بادرة تهامي السخية هنا داخل منزله البسيط. في وقت لاحق، أخبرتني المصورة المرافقة لنا، أنها رأته يبحث بيديه عبر كومة كبيرة من المتعلقات داخل دولاب الملابس وحمل شيئاً من الأسفل: علبة الحلوى، واحدة من آخر ما تملك الأسرة، والتي يحافظون عليها بحرص.

شرف لنا أن نضحي به

تضاعفت أعداد أتباع الحكومة من حولنا عندما قادتنا السيارة نحو مدينة اللاذقية الساحلية. وتضم المدينة أعداداً كبيرة من المسلمين العلويين الذين يشاركهم الأسد الطائفة، وقد كانوا من قبل أقلية دينية مهمشة داخل البلاد. وتعج صفوف الجيش وقوات الأمن من أبناء العلويين، وكان واضحاً أن اللاذقية تشكل معقل الرئيس.
في قرية بيت ياشوط الجبلية، تظهر صور لشباب قضوا أثناء قتالهم من أجل الأسد - أطلق عليهم «الشهداء» - معلقة على أعمدة خطوط الهاتف. وقامت مجموعة تضمنت لواءً عسكرياً ومسؤولاً بالقرية واثنين من المعنيين بشؤون الجنود، بمرافقتنا من منزل لآخر. سألت والد أحد الجنود القتلى، ياسين حسنا، عن تضحيته، وما إذا كان الأمر يستحق هذه التضحية. قال الأب وعيناه تنظر باتجاه اللواء الذي هز رأسه بالموافقة: «مستعد لتقديم أي شيء من أجل سوريا - أتمنى لو نصبح جميعاً شهداء من أجل الوطن». وأشارت لنا أم تدعى زكية أحمد حسن، إلى مقعد بلاستيكي غالباً ما تجلس عليه بجوار قبر ابنها لتشرب القهوة وتغني له. وقالت: «كان شرف لنا أن نضحي به. لقد كان يدافع عن الوطن».
يفترض الكثير من غير العلويين أن العلويين نالوا مكافآت سخية مقابل ولائهم، لكن الحقيقة أن هذه الأسر كانت تحصل على قوت يومها بالكاد، وتحدث أفرادها عن عجزهم عن توفير الحليب للأطفال والأسعار الباهظة للبطاطا والزيت والسكر، وأنهم توقفوا تماماً عن الذهاب إلى اللحام. وأشارت زكية إلى مجموعة من الخضراوات تزرعها بجوار قبر ابنها، وقالت: «حتى لو فرض الأميركيون حصاراً ضدنا، على الأقل ما يزال بإمكاننا تناول الخيار والخبز!».
وأبدى الحاكم المحلي، إبراهيم خضر السالم، حرصه على التأكيد على أن الحكومة توفر موارد إضافية إلى أسر الجنود، ومن المفترض حصولهم على أولوية فيما يخص الوظائف الحكومية، بجانب ميزات صغيرة أخرى مثل إلغاء ضرائب السيارات ومصاريف الدراسة الجامعية. وأضاف السالم: «السيد الرئيس شخصياً يولي أولوية لهذه القضايا. وفي كل يوم، يتابع والحكومة أوضاع أسر الشهداء».
جدير بالذكر أن ثلاثة مصورين حكوميين تولوا تصوير مقابلتنا حتى أنهى الحاكم حديثه تماماً.

في حلب ليل بلا أضواء

في طريقنا بالسيارة شمالاً نحو حلب، كانت هناك سيارات محترقة على جانب الطريق، بينما تصاعدت ألسنة دخان رمادية من واحدة من الحرائق التي تسببت في وقت قريب في حرق آلاف الأفدنة من المحاصيل. ويبدو أن أحداً لم يكن يعرف المسؤول عن هذا الحريق، الأمر الوحيد المؤكد أن الجوع في سوريا في طريقه نحو مزيد من التفاقم.
قبل الحرب، كانت حلب المنافس الأكبر لدمشق، وكبرى مدن البلاد والمحرك التجاري لها. وتبعاً لما ذكرته رنا، التي رافقتنا في جولتنا: «لا ينام أهل المدينة مطلقاً أو هكذا جرت العادة فيما مضى». إلا أن الحصار الحكومي تسبب في خراب سوق المدينة الذي يعود تاريخ إنشائه إلى القرن الـ14. وفي انطفاء الأضواء.
وبعد مرور عامين ونصف العام عما أسماه كل من التقيناهم «تحرير شرق حلب من قبضة الجماعات المسلحة»، ما تزال الكهرباء تأتي بصورة أساسية من المولدات. ومن دون أموال إعادة الإعمار من الحكومة، تعتمد أعمال إعادة البناء على القدرات المالية للأفراد. كان هناك أشخاص عاجزون عن شراء أبواب أو نوافذ، وآخرون يعيشون على قدر يسير للغاية من الكهرباء لدرجة تضطرهم إلى الجلوس خارج منازلهم كل ليلة حتى وقت النوم. وتعد المستشفيات الخاصة المؤسسات الوحيدة التي بدأت العمل من جديد، ربما لأن الحكومة قصفت المستشفيات باستمرار وما تزال العامة منها مدمرة.
ومع هذا، خلال ساعات النهار، بدت المنطقة تعج بحركة بائعي البطيخ وحركة المرور. وأخبرتنا سيدة التقيناها داخل صالون تجميل أنها تقص شعرها للمرة الأولى منذ الحرب داخل صالون متخصص. كما أعادت المدارس فتح أبوابها. وفي أحد الشوارع، كانت هناك لافتة كبيرة مكتوب عليها «عاد الأمن إلى سوريا».
ومع هذا، ظل الأمن حلماً بعيد المنال بالنسبة لأم أحمد (28 عاماً)، التي كانت تجلس بجوار شقيقتها عند المغيب، وتحيطها مجموعة من تلال المباني المدمرة.
قالت السيدتان إن زوجيهما من المفقودين، وأنهما احتجزا مع تقدم قوات موالية للحكومة في شرق حلب عام 2015. واقترب من يرافقوننا من رقباء الحكومة، وأخبرت رنا، التي لم تفصح قط عن اسمها الثاني، أم أحمد، بأن الأمر أكثر تعقيداً مما تقوله، وأنه لا ينبغي لها التفوه بمثل هذا الحديث إلى صحافيين. وهنا، ردت أم أحمد: «هل ينبغي أن نكذب؟ هذا ما حدث». وهنا، اصطحبتها رنا إلى المطبخ حيث ارتفع صوتهما في الحديث. وعندما عادت (أم أحمد)، ظلت هادئة.
في وقت لاحق، شكوت إلى وزير الإعلام كثرة المرافقين لنا، فأجابني بقوله: «عليك أن تعي أننا لسنا أميركيين. وندير أمورنا هنا على نحو مختلف. والجميع هنا يفترض أنكم جواسيس». عندما حان الوقت لمغادرة سوريا، رافقنا الرقباء من الاستخبارات العسكرية حتى الحدود اللبنانية. واضطررنا للتوقف أربع مرات خلال الطريق بسبب تعطل السيارة.
ما الذي يبدو عليه النصر؟ على الأقل نصف مليون قتيل، وأكثر عن 11 مليون شردوا من منازلهم. وتحولت المدن إلى ركام ومدن أشباح. وبينما يتسوق البعض في مراكز تجارية، يعيش آخرون على تناول الخيار الذي يزرعونه.
وأبدى غالبية من قابلناهم حذراً شديداً لدى الحديث إلينا، ورفضوا تماماً الحديث عن الماضي أو المستقبل، بينما انحنت ظهورهم تحت وطأة المهمة اليومية: ضمان البقاء. ومع هذا، من حين لآخر، كان يظهر لنا شيء يذكرنا بأن سوريا كانت أكثر بكثير من مجرد الحرب، رغم طول أمد هذه الحرب وبشاعتها.
خلال وقت العشاء في ليلتنا الأولى في حلب، قال سائقنا، أبو عبده، إنه يعرف بضعة أماكن يمكننا تناول العشاء فيها قرب الفندق الذي نقيم فيه، منذ أيام ما قبل الحرب عندما كان يرافق سائحين في جولاتهم بالمدينة.
وكان المطعم الأول الذي تذكره قد اختفى، وكذلك الثاني. وعند البناية التالية، وقف رجل إلى جوار لافتة كتب عليها «روستو أبو نواس»، وسارع نحوه أبو عبده بمجرد رؤيته. وقال له: «محمود، هل تذكرني؟ لقد اعتدت القدوم هنا كثيراً. أنتم تقدمون الطعام الأفضل على الإطلاق». في البداية، لم يتعرف عليه مالك المطعم، عبد الغني محمود، لكن بعد ذلك أضاء وجهه فجأة وقال: «أها. نعم، نعم».
كان المطعم خالياً سوى من شيف يقف بإحدى الزوايا. وكانت قطعة القماش التي تغطي الطاولة ملطخة، وكذلك الجداريات الخاصة بحلب القديمة على الجدران. وحام داخل منطقة تناول الطعام بعض الذباب. أما الشيء الوحيد الذي لم يبد قديماً ومتهالكاً فهو الطاولة التي كانت عليها أكوام طازجة من الطماطم والخيار والنعناع والفجل. وعندما طلب أبو عبده مشروباً مثلجاً، اعتذر محمود، مشيراً إلى أن المولد الذي يعتمد عليه المبرد تعطل، وبالتالي ليس هناك ثلج. وهنا، حدقت في وجه المترجمة المرافقة متسائلة: «كيف سنتناول لحوماً هنا؟». في البداية، جاءت الخضراوات، ثم سلطة الحمص والمتبلات وسلطة باذنجان مدخن. بعد ذلك، جاءت العديد من أطباق الدجاج المشوي الحار والكباب. بدأت في تناول الطعام وعلى الفور نسيت أمر المبرد المعطل. ورغم أني تناولت مثل هذه الأطباق عدة مرات من قبل في لبنان وسوريا، لكن تلك كانت الأفضل. وقال أبو عبده معلقاً على الطعام: «ما يزال الطعام كما هو، مثلما أتذكره».
عندما غادرنا، كان الشارع مظلماً وفارغاً. كان الوقت ما يزال مبكراً، لكن مرت سنوات كثيرة منذ الأيام التي اعتاد أبناء حلب خلالها السهر طوال الليل في الشوارع.
*خدمة نيويورك تايمز



فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

TT

فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)
جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)

216 ليس مجرد رقم عادي بالنسبة لعائلة «سالم» الموزعة بين مدينة غزة وشمالها. فهذا هو عدد الأفراد الذين فقدتهم العائلة من الأبناء والأسر الكاملة، (أب وأم وأبنائهما) وأصبحوا بذلك خارج السجل المدني، شأنهم شأن مئات العائلات الأخرى التي أخرجتها الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة منذ عام.

سماهر سالم (33 عاماً) من سكان حي الشيخ رضوان، فقدت والدتها وشقيقها الأكبر واثنتين من شقيقاتها و6 من أبنائهم، إلى جانب ما لا يقل عن 60 آخرين من أعمامها وأبنائهم، ولا تعرف اليوم كيف تصف الوحدة التي تشعر بها ووجع الفقد الذي تعمق وأصبح بطعم العلقم، بعدما اختطفت الحرب أيضاً نجلها الأكبر.

وقالت سالم لـ«الشرق الأوسط»: «أقول أحياناً إنني وسط كابوس ولا أصدق ما جرى».

وقصفت إسرائيل منزل سالم وآخرين من عائلتها في 11 ديسمبر (كانون الأول) 2023، وهو يوم حفر في عقلها وقلبها بالدم والألم.

رجل يواسي سيدة في دفن أفراد من عائلتهما في خان يونس في 2 أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)

تتذكر سالم لحظة غيرت كل شيء في حياتها، وهي عندما بدأت تدرك أنها فقدت والدتها وشقيقاتها وأولادهن. «مثل الحلم مثل الكذب... بتحس إنك مش فاهم، مش مصدق أي شي مش عارف شو بيصير». قالت سالم وأضافت: «لم أتخيل أني سأفقد أمي وأخواتي وأولادهن في لحظة واحدة. هو شيء أكبر من الحزن».

وفي غمرة الحزن، فقدت سالم ابنها البكر، وتحول الألم إلى ألم مضاعف ترجمته الأم المكلومة والباقية بعبارة واحدة مقتضبة: «ما ظل إشي».

وقتلت إسرائيل أكثر من 41 ألف فلسطيني في قطاع غزة خلال عام واحد في الحرب التي خلّفت كذلك 100 ألف جريح وآلاف المفقودين، وأوسع دمار ممكن.

وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي، بين الضحايا 16.859 طفلاً، ومنهم 171 طفلاً رضيعاً وُلدوا وقتلوا خلال الحرب، و710 عمرهم أقل من عام، و36 قضوا نتيجة المجاعة، فيما سجل عدد النساء 11.429.

إلى جانب سالم التي بقيت على قيد الحياة، نجا قلائل آخرون من العائلة بينهم معين سالم الذي فقد 7 من أشقائه وشقيقاته وأبنائهم وأحفادهم في مجزرة ارتكبت بحي الرمال بتاريخ 19 ديسمبر 2023 (بفارق 8 أيام على الجريمة الأولى)، وذلك بعد تفجير الاحتلال مبنى كانوا بداخله.

وقال سالم لـ«الشرق الأوسط»: «93 راحوا في ضربة واحدة، في ثانية واحدة، في مجزرة واحدة».

وأضاف: «دفنت بعضهم وبعضهم ما زال تحت الأنقاض. وبقيت وحدي».

وتمثل عائلة سالم واحدة من مئات العائلات التي شطبت من السجل المدني في قطاع غزة خلال الحرب بشكل كامل أو جزئي.

وبحسب إحصاءات المكتب الحكومي في قطاع غزة، فإن الجيش الإسرائيلي أباد 902 عائلة فلسطينية خلال عام واحد.

أزهار مسعود ترفع صور أفراد عائلتها التي قتلت بالكامل في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة (رويترز)

وقال المكتب الحكومي إنه في إطار استمرار جريمة الإبادة الجماعية التي ينفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، فقد قام جيش الاحتلال بإبادة 902 عائلة فلسطينية ومسحها من السجل المدني بقتل كامل أفرادها خلال سنة من الإبادة الجماعية في قطاع غزة.

وأضاف: «كما أباد جيش الاحتلال الإسرائيلي 1364 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها، ولم يتبقَّ سوى فرد واحد في الأسرة الواحدة، ومسح كذلك 3472 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها ولم يتبقَّ منها سوى فردين اثنين في الأسرة الواحدة».

وأكد المكتب: «تأتي هذه الجرائم المتواصلة بحق شعبنا الفلسطيني في إطار جريمة الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، وبمشاركة مجموعة من الدول الأوروبية والغربية التي تمد الاحتلال بالسلاح القاتل والمحرم دولياً مثل المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول».

وإذا كان بقي بعض أفراد العائلات على قيد الحياة ليرووا ألم الفقد فإن عائلات بأكملها لا تجد من يروي حكايتها.

في السابع عشر من شهر سبتمبر (أيلول) المنصرم، كانت عائلة ياسر أبو شوقة، من بين العائلات التي شطبت من السجل المدني، بعد أن قُتل برفقة زوجته وأبنائه وبناته الخمسة، إلى جانب اثنين من أشقائه وعائلتيهما بشكل كامل.

وقضت العائلة داخل منزل مكون من عدة طوابق قصفته طائرة إسرائيلية حربية أطلقت عدة صواريخ على المنزل في مخيم البريج وسط قطاع غزة.

وقال خليل أبو شوقة ابن عم العائلة لـ«الشرق الأوسط»: «لا يوجد ما يعبر عن هذه الجريمة البشعة».

وأضاف: «كل أبناء عمي وأسرهم قتلوا بلا ذنب. وذهبوا مرة واحدة. شيء لا يصدق».

الصحافيون والعقاب الجماعي

طال القتل العمد عوائل صحافيين بشكل خاص، فبعد قتل الجيش الإسرائيلي هائل النجار (43 عاماً) في شهر مايو (أيار) الماضي، قتلت إسرائيل أسرته المكونة من 6 أفراد بينهم زوجته و3 أطفال تتراوح أعمارهم بين عامين و13 عاماً.

وقال رائد النجار، شقيق زوجة هائل: «لقد كان قتلاً مع سبق الإصرار، ولا أفهم لماذا يريدون إبادة عائلة صحافي».

وقضى 174 صحافياً خلال الحرب الحالية، آخرهم الصحافية وفاء العديني وزوجها وابنتها وابنها، بعد قصف طالهم في دير البلح، وسط قطاع غزة، وهي صحافية تعمل مع عدة وسائل إعلام أجنبية.

الصحافي غازي أشرف علول يزور عائلته على شاطئ غزة وقد ولد ابنه في أثناء عمله في تغطية أخبار الموت (إ.ب.أ)

إنه القتل الجماعي الذي لا يأتي بطريق الخطأ، وإنما بدافع العقاب.

وقال محمود بصل، المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني بغزة، إن الاحتلال الإسرائيلي استخدم الانتقام وسيلة حقيقية خلال هذه الحرب، وقتل عوائل مقاتلين وسياسيين ومسؤولين حكوميين وصحافيين ونشطاء ومخاتير ووجهاء وغيرهم، في حرب شنعاء هدفها إقصاء هذه الفئات عن القيام بمهامها.

وأضاف: «العمليات الانتقامية كانت واضحة جداً، واستهداف العوائل والأسر والعمل على شطب العديد منها من السجل المدني، كان أهم ما يميز العدوان الحالي».

وأردف: «ما حدث ويحدث بحق العوائل جريمة مكتملة الأركان».