عودة «داعش» الثانية

{خليفة البغدادي} يسعى إلى إعادة بناء التنظيم

أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم «داعش» في آخر ظهور له أبريل الماضي (رويترز)
أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم «داعش» في آخر ظهور له أبريل الماضي (رويترز)
TT

عودة «داعش» الثانية

أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم «داعش» في آخر ظهور له أبريل الماضي (رويترز)
أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم «داعش» في آخر ظهور له أبريل الماضي (رويترز)

مخطئ من يظن أن الأفكار تموت كالكائن البشري، إنها تنتقل عبر الأجيال بخيرها وشرها، وفي الجيل الواحد هناك مَن يقوم بعملية تسليم الآراء والمعتقدات، متطرفةً كانت أم معتدلةً، ومن سوء الطالع أن شرقنا الأوسط ومنذ أن وضعت جماعة «الإخوان المسلمين» في أواخر ثلاثينات القرن العشرين لبنات أفكارها المتطرفة، والمنطقة تشهد توالد جماعات عديدة من رحمها، تختلف في المظهر، لكن يظل المخبر واحداً، ويظن القائمون على الأمر في الحكومات أنهم قضوا على وجودها في فترات زمنية بعينها، غير أنها تعود من جديد بعد فترات كمون أو بيات شتوي، لتضرب من جديد وبأسوأ مشهد مما كان عليه الأمر من قبل.

تختفي «الإخوان» في الستينات، لتظهر جماعة «التكفير والهجرة» في السبعينات، يقبض الأمن على الخلية، فتظهر «الجماعة الإسلامية»، تواجه هذه الدولة المصرية، فتسقط، غير أن عناصرها يفرون إلى أفغانستان فتولد جماعات التطرف، ومن رحمها تقوم «القاعدة»، التي تضحى إحدى شعبها تنظيم «داعش» لاحقاً. ولهذا فإن القول بأن «داعش» قد قضى نحبه مرة وإلى الأبد، قول مغلوط، وليس أدل على صحة ما نقول به من مجموعة التصريحات والتقارير الدولية الأخيرة، التي تذهب في طريق التحذير من الاستكانة للهزائم العسكرية التي تعرضت لها في العامين السابقين في العراق وسوريا.
نهار السبت الماضي، كان العراق يشهد انطلاق المرحلة الرابعة من عملية «إرادة النصر»، بهدف تفتيش وتطهير كامل الصحراء، وبعض المناطق في محافظة الأنبار، من بقايا فلول تنظيم «داعش» الإرهابي، حسب تصريحات نائب قائد العمليات المشتركة الفريق عبد الأمير رشيد.
الفلول تعلِّمنا أن الاستراتيجيات نوعان؛ نوع ظاهر معروف بالأسماء والصفات من الأجهزة الأمنية والاستخبارية كافة، وهؤلاء التصدي لهم أمره ممكن عبر فرق المشاة، ولواءات المغاوير، وغيرهما من القوات المسلحة. أما الطامة الكبرى فموصولة بجماعات الفلول المؤدلجين، أولئك الذين لا يطفون على سطح الأحداث، لكنهم أخطر وقعاً، إذ يروجون للفكر المتطرف بهدوء ومن دون جلبة، معتمدين في ذلك على آليات التطرف المعاصرة المتمثلة في وسائط التواصل الاجتماعي، وعادةً ما يتم اختيار قيادات «القاعدة» و«داعش» من أسماء غير معروفة، لكنها تمثل الشر في ذاته.
الكثير من المعلومات تتواتر مؤخراً عن إصابة أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم، بنوع من الشلل يُقعده عن القيام بواجباته في متابعة أمر التنظيم الدموي، ولهذا فإنه أوكل لعبد الله قرداش إدارة شؤون الجماعة وإعادة ترتيب أوراقها. وفيما يبدو فإن الأجهزة الأمنية العراقية لديها الكثير من المعلومات عن الرجل الذي تدرج في صفوف التنظيم حتى أضحى حالياً الخليفة المنتظر.
لم يظهر قرداش الملقب بـ«الأستاذ» مرة واحدة على سطح الأحداث، بل تدرج عبر السنوات الخمس الماضية، ليصبح أحد أهم مساعدي البغدادي العسكريين، ويشير بعض التقارير الاستخباراتية إلى أن مهمته الرئيسة هي منع تفكك التنظيم، وإعادة ترتيب صفوفه، مستفيداً مما لديه من خبرة واسعة إبان عمله في الاستخبارات العراقية، ومعرفة بطبيعة وتضاريس العراق، ومعلوماته عن المجتمع وأفكاره، لا سيما ما يستجلب عناصر جديدة تزخم البناء الهيكلي للجماعة، وتعوض النقص الذي جرى في صفوفه بعد الاندحار العسكري والهزائم الثقيلة التي تعرض لها وقادته إلى ما يشبه الدياسبورا في المنطقة المجاورة، وعبر الإقليم بشكل أوسع.
تقول «التايمز» البريطانية في تقرير نُشر مؤخراً لها أن مهمة «الأستاذ» الثانية ستكون وأد الخلافات الواسعة بين أقطابه خصوصاً القيادات من الجنسيات العربية والأجنبية، هل لهذا الأمر علاقة بالتقرير الأميركي الأخير الذي توقع عودة الدواعش مرة جديدة وبشكل ربما أشرس مما عرفه العالم من قبل؟
في أوائل يوليو (تموز) الماضي كان معهد دراسات الحرب، وهو مؤسسة أبحاث غير حكومية مقرها واشنطن، يحذّر من أن «(داعش) لم يُهزم نهائياً»، ويستعد للعودة مجدداً، وعلى نحوٍ «أشد خطورة»، رغم خسارته الأراضي التي أقام عليها ما سُميت «دولة الخلافة»، في سوريا والعراق المجاور.
قراءة المعهد الأميركي المشار إليه جاءت في نحو ثمانين صفحة وتحت عنوان «عودة (داعش) الثانية... تقييم تمرد (داعش) المقبل»، وتركز على فكرة أن التنظيم اليوم لا يزال أقوى من سلفه «القاعدة» في العراق عام 2011 حين بدا ضعيفاً.
ما ورد في التقرير الأميركي مثير بل مخيف، إذ يشير إلى أن تنظيم «القاعدة» في العراق كان لديه ما بين سبعمائة وألف مسلح آنذاك، بينما كان «داعش» لديه ما يصل إلى 30 ألف مسلح في العراق وسوريا في أغسطس (آب) 2018، وفقاً لتقديرات الاستخبارات العسكرية.
وفي تحليلات التقدير نرى أن «داعش» بنى من مجموعات صغيرة من الفلول عام 2011 جيشاً كبيراً للسيطرة على الفلوجة والموصل ومدن أخرى في العراق، واستطاع السيطرة على معظم شرق سوريا في ثلاث سنوات فقط.
هل سيقدّر لـ«داعش» أن يستعيد قوته بشكل أسرع بكثير وإلى مستوى أكثر خطورة من القوة الأكبر بكثير التي لا تزال لديه حتى اليوم؟
حسب التقرير الأميركي، المعتمد بالأصل على معلومات وبيانات استخباراتية من العراق وسوريا، فإن «داعش» بقيادة البغدادي، كان لديه خطة للعودة، مهيأة وجاهزة قبل أن يتعرض لسلسة الضربات العسكرية الأخيرة، بل إنه كان يقوم بتنفيذها في أثناء الحملة العسكرية التي شنتها قوى الأمن العراقية، عطفاً على قوات سوريا الديمقراطية، والكل بالطبع بجانب التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية.
أحد الأسئلة المدّعاة للتحري عن مستقبل «داعش»: هل التنظيم لديه قوة مالية تكفي لاستمرار عملياته، وإعادة بناء هيكله التنظيمي ومن ثمّ مباشرة إرهابه إقليمياً وعالمياً؟
في تقرير قدمه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى مجلس الأمن الدولي، أشار إلى أن «داعش» يمتلك مبالغ تصل إلى 300 مليون دولار، ظلت معه بعد الزوال لتنظيم الخلافة المزعوم في العراق وسوريا.
وذكر غوتيريش أن تهديدات «داعش» لا تزال مخيفة، على الرغم من انخفاض وتيرة الهجمات التي يشنها، وبخاصة أنه انخفاض مؤقت.
يقطع غوتيريش بقدرة التنظيم على توجيه هذه الأموال لدعم أعمال إرهابية داخل العراق وسوريا وخارجهما عبر شركات غير رسمية لتحويل الأموال، وتمتعه بالاكتفاء الذاتي المالي عبر شبكة من المؤيدين والجماعات التابعة له في أماكن أخرى بالشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا.
والثابت أن مسألة التمويل لم يكن ليهملها التقرير الأميركي الذي أكد أن «داعش» يحتفظ بشبكة تمويل موّلت إعادته الثانية إلى التمرد، وتمكن من إعادة بناء قدراته الإعلامية الرئيسية، وكذلك الحفاظ على الأسلحة وغيرها من الإمدادات في شبكات الأنفاق ومناطق الدعم الأخرى من أجل تجهيز قوات المتمردين المجددة.
يتلفت النظر في خليفة البغدادي القادم على الطريق لاستكمال مسيرة «داعش» في نشر الفوضى والإرهاب إقليمياً وعالمياً، أنه يكاد يستلهم بعض تجارب وخبرات تنظيم «البعث» العراقي بنوع خاص.
في شهر يونيو (حزيران) الماضي، كانت الأمم المتحدة تنشر تقريراً بشأن «داعش» أشارت فيه إلى أن الجماعة الإرهابية تتغير وتتكيف وتوفر الشروط اللازمة للمقاومة داخل سوريا والعراق.
ولعل المثير أن الهيئة الأممية تشير أيضاً في أوراقها إلى أن المكان الأساسي لتجنيد عناصر جديدة هي السجون التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية في شمال شرقي سوريا. فالظروف الصعبة في تلك المعتقلات مناسبة للحفاظ على آيديولوجية التنظيم حيّةً بين المعتقلين من مناصريه وتجنيد آخرين.
ويحاول التنظيم استغلال كل فرصة ليقول إنه حاضر ولم يُهزم، كما لا يؤكد الأنباء التي تفيد بمقتل أو اعتقال قادته من الصف الأول. وفي هذا يختلف عن تنظيم «القاعدة»، حسبما ينقل موقع «المونيتور» الإخباري الذي يهتم بشؤون الشرق الأوسط، عن أبو علي البصري قوله: «لقد تعلم تنظيم (داعش) من نظام البعث، والكثير من عناصر التنظيم كانوا جزءاً من نظام البعث، ويكذبون ويخدعون كما كان يفعل نظام صدام حسين».
كارثة «داعش» الثانية اهتم بها ولها الإعلام الأوروبي، حيث نقرأ أحاديث مخيفة عن قيام عناصر مؤدلجة تابعة لـ«داعش» بالانتشار عمداً داخل السجون الأوروبية واللعب على أوتار الكراهية والقومية من جهة، والترويج للمفاهيم الدينية والإيمانية المغلوطة من جهة أخرى، بهدف اكتساب المزيد من العناصر الإجرامية إلى التنظيم في دورته التالية، لا سيما أن هناك احتمالات لعودة نحو 2000 عنصر من المقاتلين السابقين في التنظيم من العراق وسوريا إلى أوروبا.
«داعش» لن يعود هذه المرة من الشرق الأوسط فحسب، بل هناك احتمالات واسعة ومفتوحة لامتداد شره إلى أفغانستان، حيث حالة الانفلات الأمني تجعل نشوءه وارتقاءه من جديد أمراً وارداً وبقوة، فحسب تقرير أصدره مركز الدراسات الدولية في واشنطن «سي إس آي إس»، عقب تبني التنظيم مؤخراً الهجوم الانتحاري على عرس في كابل ومقتل العشرات، فإن عدد مقاتليه في أفغانستان يصل اليوم إلى نحو أربعة آلاف مقاتل، يرتكزون في إقليم ننغارهار. ويشير التقرير إلى أن فرع التنظيم في أفغانستان لديه طموحات للسيطرة على مساحات كبيرة من الأرض كما فعل في سوريا والعراق عام 2014. هل باتت عودة «داعش» الثانية معقودة بناصية الأستاذ ضابط استخبارات صدام؟
مهما يكن من شأن الجواب، فالمؤكد أن الخطر «الداعشي» سوف يتزايد وبنوع خاص ما دام بقي الشرق الأوسط فاقداً للاستقرار، وبقدر ما تظل دول بعينها في مقدمتها تركيا وإيران وقطر من الداعمين الظاهرين تارةً والخفيين تارة أخرى.
في كل الأحوال يمكن القطع بأن المعارك العسكرية بمفردها لن تقضي على «داعش»... حرب الأفكار هي الأصل والأهم.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.