عودة «داعش» الثانية

{خليفة البغدادي} يسعى إلى إعادة بناء التنظيم

أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم «داعش» في آخر ظهور له أبريل الماضي (رويترز)
أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم «داعش» في آخر ظهور له أبريل الماضي (رويترز)
TT

عودة «داعش» الثانية

أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم «داعش» في آخر ظهور له أبريل الماضي (رويترز)
أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم «داعش» في آخر ظهور له أبريل الماضي (رويترز)

مخطئ من يظن أن الأفكار تموت كالكائن البشري، إنها تنتقل عبر الأجيال بخيرها وشرها، وفي الجيل الواحد هناك مَن يقوم بعملية تسليم الآراء والمعتقدات، متطرفةً كانت أم معتدلةً، ومن سوء الطالع أن شرقنا الأوسط ومنذ أن وضعت جماعة «الإخوان المسلمين» في أواخر ثلاثينات القرن العشرين لبنات أفكارها المتطرفة، والمنطقة تشهد توالد جماعات عديدة من رحمها، تختلف في المظهر، لكن يظل المخبر واحداً، ويظن القائمون على الأمر في الحكومات أنهم قضوا على وجودها في فترات زمنية بعينها، غير أنها تعود من جديد بعد فترات كمون أو بيات شتوي، لتضرب من جديد وبأسوأ مشهد مما كان عليه الأمر من قبل.

تختفي «الإخوان» في الستينات، لتظهر جماعة «التكفير والهجرة» في السبعينات، يقبض الأمن على الخلية، فتظهر «الجماعة الإسلامية»، تواجه هذه الدولة المصرية، فتسقط، غير أن عناصرها يفرون إلى أفغانستان فتولد جماعات التطرف، ومن رحمها تقوم «القاعدة»، التي تضحى إحدى شعبها تنظيم «داعش» لاحقاً. ولهذا فإن القول بأن «داعش» قد قضى نحبه مرة وإلى الأبد، قول مغلوط، وليس أدل على صحة ما نقول به من مجموعة التصريحات والتقارير الدولية الأخيرة، التي تذهب في طريق التحذير من الاستكانة للهزائم العسكرية التي تعرضت لها في العامين السابقين في العراق وسوريا.
نهار السبت الماضي، كان العراق يشهد انطلاق المرحلة الرابعة من عملية «إرادة النصر»، بهدف تفتيش وتطهير كامل الصحراء، وبعض المناطق في محافظة الأنبار، من بقايا فلول تنظيم «داعش» الإرهابي، حسب تصريحات نائب قائد العمليات المشتركة الفريق عبد الأمير رشيد.
الفلول تعلِّمنا أن الاستراتيجيات نوعان؛ نوع ظاهر معروف بالأسماء والصفات من الأجهزة الأمنية والاستخبارية كافة، وهؤلاء التصدي لهم أمره ممكن عبر فرق المشاة، ولواءات المغاوير، وغيرهما من القوات المسلحة. أما الطامة الكبرى فموصولة بجماعات الفلول المؤدلجين، أولئك الذين لا يطفون على سطح الأحداث، لكنهم أخطر وقعاً، إذ يروجون للفكر المتطرف بهدوء ومن دون جلبة، معتمدين في ذلك على آليات التطرف المعاصرة المتمثلة في وسائط التواصل الاجتماعي، وعادةً ما يتم اختيار قيادات «القاعدة» و«داعش» من أسماء غير معروفة، لكنها تمثل الشر في ذاته.
الكثير من المعلومات تتواتر مؤخراً عن إصابة أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم، بنوع من الشلل يُقعده عن القيام بواجباته في متابعة أمر التنظيم الدموي، ولهذا فإنه أوكل لعبد الله قرداش إدارة شؤون الجماعة وإعادة ترتيب أوراقها. وفيما يبدو فإن الأجهزة الأمنية العراقية لديها الكثير من المعلومات عن الرجل الذي تدرج في صفوف التنظيم حتى أضحى حالياً الخليفة المنتظر.
لم يظهر قرداش الملقب بـ«الأستاذ» مرة واحدة على سطح الأحداث، بل تدرج عبر السنوات الخمس الماضية، ليصبح أحد أهم مساعدي البغدادي العسكريين، ويشير بعض التقارير الاستخباراتية إلى أن مهمته الرئيسة هي منع تفكك التنظيم، وإعادة ترتيب صفوفه، مستفيداً مما لديه من خبرة واسعة إبان عمله في الاستخبارات العراقية، ومعرفة بطبيعة وتضاريس العراق، ومعلوماته عن المجتمع وأفكاره، لا سيما ما يستجلب عناصر جديدة تزخم البناء الهيكلي للجماعة، وتعوض النقص الذي جرى في صفوفه بعد الاندحار العسكري والهزائم الثقيلة التي تعرض لها وقادته إلى ما يشبه الدياسبورا في المنطقة المجاورة، وعبر الإقليم بشكل أوسع.
تقول «التايمز» البريطانية في تقرير نُشر مؤخراً لها أن مهمة «الأستاذ» الثانية ستكون وأد الخلافات الواسعة بين أقطابه خصوصاً القيادات من الجنسيات العربية والأجنبية، هل لهذا الأمر علاقة بالتقرير الأميركي الأخير الذي توقع عودة الدواعش مرة جديدة وبشكل ربما أشرس مما عرفه العالم من قبل؟
في أوائل يوليو (تموز) الماضي كان معهد دراسات الحرب، وهو مؤسسة أبحاث غير حكومية مقرها واشنطن، يحذّر من أن «(داعش) لم يُهزم نهائياً»، ويستعد للعودة مجدداً، وعلى نحوٍ «أشد خطورة»، رغم خسارته الأراضي التي أقام عليها ما سُميت «دولة الخلافة»، في سوريا والعراق المجاور.
قراءة المعهد الأميركي المشار إليه جاءت في نحو ثمانين صفحة وتحت عنوان «عودة (داعش) الثانية... تقييم تمرد (داعش) المقبل»، وتركز على فكرة أن التنظيم اليوم لا يزال أقوى من سلفه «القاعدة» في العراق عام 2011 حين بدا ضعيفاً.
ما ورد في التقرير الأميركي مثير بل مخيف، إذ يشير إلى أن تنظيم «القاعدة» في العراق كان لديه ما بين سبعمائة وألف مسلح آنذاك، بينما كان «داعش» لديه ما يصل إلى 30 ألف مسلح في العراق وسوريا في أغسطس (آب) 2018، وفقاً لتقديرات الاستخبارات العسكرية.
وفي تحليلات التقدير نرى أن «داعش» بنى من مجموعات صغيرة من الفلول عام 2011 جيشاً كبيراً للسيطرة على الفلوجة والموصل ومدن أخرى في العراق، واستطاع السيطرة على معظم شرق سوريا في ثلاث سنوات فقط.
هل سيقدّر لـ«داعش» أن يستعيد قوته بشكل أسرع بكثير وإلى مستوى أكثر خطورة من القوة الأكبر بكثير التي لا تزال لديه حتى اليوم؟
حسب التقرير الأميركي، المعتمد بالأصل على معلومات وبيانات استخباراتية من العراق وسوريا، فإن «داعش» بقيادة البغدادي، كان لديه خطة للعودة، مهيأة وجاهزة قبل أن يتعرض لسلسة الضربات العسكرية الأخيرة، بل إنه كان يقوم بتنفيذها في أثناء الحملة العسكرية التي شنتها قوى الأمن العراقية، عطفاً على قوات سوريا الديمقراطية، والكل بالطبع بجانب التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية.
أحد الأسئلة المدّعاة للتحري عن مستقبل «داعش»: هل التنظيم لديه قوة مالية تكفي لاستمرار عملياته، وإعادة بناء هيكله التنظيمي ومن ثمّ مباشرة إرهابه إقليمياً وعالمياً؟
في تقرير قدمه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى مجلس الأمن الدولي، أشار إلى أن «داعش» يمتلك مبالغ تصل إلى 300 مليون دولار، ظلت معه بعد الزوال لتنظيم الخلافة المزعوم في العراق وسوريا.
وذكر غوتيريش أن تهديدات «داعش» لا تزال مخيفة، على الرغم من انخفاض وتيرة الهجمات التي يشنها، وبخاصة أنه انخفاض مؤقت.
يقطع غوتيريش بقدرة التنظيم على توجيه هذه الأموال لدعم أعمال إرهابية داخل العراق وسوريا وخارجهما عبر شركات غير رسمية لتحويل الأموال، وتمتعه بالاكتفاء الذاتي المالي عبر شبكة من المؤيدين والجماعات التابعة له في أماكن أخرى بالشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا.
والثابت أن مسألة التمويل لم يكن ليهملها التقرير الأميركي الذي أكد أن «داعش» يحتفظ بشبكة تمويل موّلت إعادته الثانية إلى التمرد، وتمكن من إعادة بناء قدراته الإعلامية الرئيسية، وكذلك الحفاظ على الأسلحة وغيرها من الإمدادات في شبكات الأنفاق ومناطق الدعم الأخرى من أجل تجهيز قوات المتمردين المجددة.
يتلفت النظر في خليفة البغدادي القادم على الطريق لاستكمال مسيرة «داعش» في نشر الفوضى والإرهاب إقليمياً وعالمياً، أنه يكاد يستلهم بعض تجارب وخبرات تنظيم «البعث» العراقي بنوع خاص.
في شهر يونيو (حزيران) الماضي، كانت الأمم المتحدة تنشر تقريراً بشأن «داعش» أشارت فيه إلى أن الجماعة الإرهابية تتغير وتتكيف وتوفر الشروط اللازمة للمقاومة داخل سوريا والعراق.
ولعل المثير أن الهيئة الأممية تشير أيضاً في أوراقها إلى أن المكان الأساسي لتجنيد عناصر جديدة هي السجون التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية في شمال شرقي سوريا. فالظروف الصعبة في تلك المعتقلات مناسبة للحفاظ على آيديولوجية التنظيم حيّةً بين المعتقلين من مناصريه وتجنيد آخرين.
ويحاول التنظيم استغلال كل فرصة ليقول إنه حاضر ولم يُهزم، كما لا يؤكد الأنباء التي تفيد بمقتل أو اعتقال قادته من الصف الأول. وفي هذا يختلف عن تنظيم «القاعدة»، حسبما ينقل موقع «المونيتور» الإخباري الذي يهتم بشؤون الشرق الأوسط، عن أبو علي البصري قوله: «لقد تعلم تنظيم (داعش) من نظام البعث، والكثير من عناصر التنظيم كانوا جزءاً من نظام البعث، ويكذبون ويخدعون كما كان يفعل نظام صدام حسين».
كارثة «داعش» الثانية اهتم بها ولها الإعلام الأوروبي، حيث نقرأ أحاديث مخيفة عن قيام عناصر مؤدلجة تابعة لـ«داعش» بالانتشار عمداً داخل السجون الأوروبية واللعب على أوتار الكراهية والقومية من جهة، والترويج للمفاهيم الدينية والإيمانية المغلوطة من جهة أخرى، بهدف اكتساب المزيد من العناصر الإجرامية إلى التنظيم في دورته التالية، لا سيما أن هناك احتمالات لعودة نحو 2000 عنصر من المقاتلين السابقين في التنظيم من العراق وسوريا إلى أوروبا.
«داعش» لن يعود هذه المرة من الشرق الأوسط فحسب، بل هناك احتمالات واسعة ومفتوحة لامتداد شره إلى أفغانستان، حيث حالة الانفلات الأمني تجعل نشوءه وارتقاءه من جديد أمراً وارداً وبقوة، فحسب تقرير أصدره مركز الدراسات الدولية في واشنطن «سي إس آي إس»، عقب تبني التنظيم مؤخراً الهجوم الانتحاري على عرس في كابل ومقتل العشرات، فإن عدد مقاتليه في أفغانستان يصل اليوم إلى نحو أربعة آلاف مقاتل، يرتكزون في إقليم ننغارهار. ويشير التقرير إلى أن فرع التنظيم في أفغانستان لديه طموحات للسيطرة على مساحات كبيرة من الأرض كما فعل في سوريا والعراق عام 2014. هل باتت عودة «داعش» الثانية معقودة بناصية الأستاذ ضابط استخبارات صدام؟
مهما يكن من شأن الجواب، فالمؤكد أن الخطر «الداعشي» سوف يتزايد وبنوع خاص ما دام بقي الشرق الأوسط فاقداً للاستقرار، وبقدر ما تظل دول بعينها في مقدمتها تركيا وإيران وقطر من الداعمين الظاهرين تارةً والخفيين تارة أخرى.
في كل الأحوال يمكن القطع بأن المعارك العسكرية بمفردها لن تقضي على «داعش»... حرب الأفكار هي الأصل والأهم.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.