لا تزال أوروبا والولايات المتحدة ترزح تحت تبعات التخلص من تنظيم «داعش» في العراق وسوريا وإشكالية كيفية التعامل مع «المقاتلين الأجانب»، على نسق ما حدث مع جاك لتس الملقب بـ«المتطرف جاك» مؤخراً. إذ سُحبت من جاك الجنسية البريطانية، وهو الذي كان يحمل الجنسيتين البريطانية والكندية، نتيجة سفره إلى سوريا للقتال في صفوف تنظيم «داعش» منذ عام 2014، الأمر الذي أدى إلى استياء كندا، حيث أُحيلت المسؤولية إليها، حيث تظهر الإشكالية القانونية إذ لا يُسمح للحكومات بترك مواطنين من دون جنسية.
وهي ليست بالقضية الأولى، حيث قامت السلطات البريطانية بسحب الجنسية ممن انخرط في القتال مع تنظيم «داعش» من مزدوجي الجنسية، على شاكلة شميمة بيغوم الملقبة بـ«عروس داعش» والتي انضمت إلى التنظيم منذ سن الخامسة عشرة، وتم تجريدها من جنسيتها وعدم السماح لها بالعودة إلى بريطانيا. وأكدت من جهتها رئيسة الحزب المسيحي الديمقراطي في ألمانيا أنغريت كرامب، خليفة أنجيلا ميركل في رئاسة حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي في ألمانيا، ضرورة تمرير قرار سحب الجنسية الألمانية ممن قاتل مع تنظيم «داعش» من ذوي الجنسيات المزدوجة. وهو أمر لا بد من مواجهته وتحديد سياسات في التعامل معه بالأخص بعد انخراط ما يزيد على 40 ألف مقاتل أجنبي، حسب إحصائيات الأمم المتحدة، قَدِموا إلى العراق وسوريا للانضمام إلى تنظيمات إرهابية. وإلى جانب المقاتلين الأجانب تأتي تبعات النساء والأطفال المنتمين إلى تلك التنظيمات. مخيم الهول في سوريا كشف عن أعداد هائلة من النساء والأطفال المنتمين إلى تنظيم «داعش» ممن قطنوا إقليم باغوز قبل نزوحهم إلى المخيم، وتجلت معاناتهم من أوضاع صحية سيئة إضافة إلى تأثرهم بالفكر الداعشي المتطرف، وتهديدهم للآخرين بالقتل والانتقام، وتأكيدهم استمرار تنظيم «داعش». مثل هذه السلوكيات من قِبل النساء والأطفال «الدواعش» أدت إلى فصلهم عن بقية قاطني المخيم. كما تعكس مدى التأثير السلبي على المحيط نتيجة التأثر بالفكر المتطرف والسلوكيات العنيفة. وعلى الرغم من ذلك فإنه يظهر توجه من قِبل الحكومات إلى استقبال الأطفال الذين رزحوا تحت وطأة قسوة وسلوكيات آبائهم نتيجة تطرفهم. وقد سمحت ألمانيا لأول مرة في أغسطس (آب) الحالي لأطفال يُشتبه في انتماء آبائهم إلى تنظيم «داعش» بالعودة إلى أراضيها. وصرح وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، بسعي بلاده لإعادة أطفال لآباء منتمين لـ«داعش» من سوريا إلى ألمانيا، وعدم تحميلهم مسؤولية ما فعله آباؤهم.
المحاكمة عبر السلطات
وتظهر ثلاثة توجهات نحو التعامل مع المقاتلين الأجانب: أولها أن تتم محاكمتهم من خلال السلطات المحلية، وهو أمر يصعب تحقيقه مثل ما حدث في العراق، حيث يتم فرض عقوبة الإعدام التي ترفضها السلطات الأوروبية. من جهته، أصدر القضاء العراقي حكم الإعدام بحق ما يصل إلى 11 فرنسياً ممن ينتمون إلى تنظيم «داعش». وذلك على الرغم من رفض السلطات الفرنسية تنفيذ حكم الإعدام بحق مواطنين من الجنسية الفرنسية، حيث إن الرئيس العراقي برهم صالح، أكد للسلطات الفرنسية أن الدواعش الأجانب سيحاكَمون وفق القانون العراقي.
محكمة دولية
التوجه الثاني جاء نتيجة مطالب أوروبية عراقية، ويتمحور حول إنشاء محكمة دولية مختصة بقضايا الإرهاب والمقاتلين الأجانب في العراق بمن فيهم المقاتلون الأجانب القادمون من دول أوروبية. وقد ناقشت وزيرة العدل الفرنسية نيكول بيلوبيه، في مطلع يونيو (حزيران) 2019 مقترحاً مع عدد من الدول الأوروبية من ضمنها ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا يقضي بتشكيل محكمة دولية تُعنى بمحاكمة «الإرهابيين» الأجانب الذين التحقوا بتنظيم «داعش». ويرى القانوني الألماني روبرت شولتس، أنه من الممكن إقامة مثل هذه المحكمة المستقلة على شاكلة نموج المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بشرط أن يتم اتفاق قانوني بين العراق ودول الاتحاد الأوروبي يستبعد عقوبة الإعدام. وقد تم إجراء دراسة احتمال وضع مسؤولية محاكمة المقاتلين الأجانب، الذين انضموا إلى تنظيم «داعش» من ِبل المحكمة الجنائية الدولية، كما أكدت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا، أمام مجلس الأمن الدولي، أن أجهزة المحكمة لديها الصلاحية للنظر في الجرائم التي يُتهم تنظيم «داعش» في ليبيا بارتكابها، حيث إن ذلك يعد من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ليشمل مثل هذه الجرائم المفترضة. لكنها أكدت أن المسؤولية تقع في الدرجة الأولى على عاتق الدول في محاكمة رعاياها الذين التحقوا بصفوف التنظيم.
إعادة المقاتلين
فيما يتمثل الخيار الثالث في إعادة المقاتلين الأجانب، إلى أوطانهم، وهو الخيار الذي دعا الرئيس الأميركي دونالد ترمب، إليه ليتم توزيع أعباء وتبعات الخلافة الداعشية التي اندثرت على الدول المختلفة. في فبراير (شباط) 2019 قام ترمب بدعوة الدول الأوروبية إلى استعادة مقاتليها الذين يتجاوز عددهم 800 مقاتل وتم اعتقالهم في سوريا وتقديمهم إلى المحاكمة. فيما توعد الرئيس الأميركي في 21 أغسطس الدول الأوروبية بتسليمها مقاتلي «داعش» الأسرى الذين يحملون جنسياتها قسرياً في حال لم يرغب بعض الدول في استعادتهم مثل ألمانيا وفرنسا. ويأتي ذلك في ظل مساعي الولايات المتحدة لتقليص دورها في مواجهة تنظيم «داعش» في العراق وسوريا، وتزايد احتمال معاودة التنظيم لملمة شتاته والقيام بضربات إرهابية جديدة. وقد صرح وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، في 20 أغسطس بأن تنظيم «داعش» لا يزال يمثل تهديداً وأنه «أقوى اليوم مما كان عليه قبل ثلاث أو أربع سنوات» وذلك في «بعض المناطق» في العراق وسوريا. هذا العبء لا يقتصر على الأوروبيين فحسب، إذ ظهرت قضايا لمن يحمل الجنسية الأميركية ممن سافر إلى العراق وسوريا وشارك في تنظيم «داعش». مثل ما حدث مع هدى مثنى وكيمبرلي بولمان الأميركيتين الكنديتين، وهما موجودتان في مخيم اللاجئين شمال شرقي سوريا، وعلى الرغم من أنهما أعربتا عن أسفهما العميق والرغبة في العودة إلى الولايات المتحدة فإنه لا يظهر استعداد لاستقبالهما مرة أخرى، وذلك إثر التشكيك في صحة حصول مثنى على الجنسية الأميركية وازدواجية جنسية بولمان. وهو ما يؤكد مدى تخوف الدول المختلفة من مخاطر عودتهم إلى دولهم.
العودة إلى الأوطان
لا تعد تبعات عودة المقاتلين الأجانب بالأمر السهل إن لم تتم معالجتها، بدءاً بوجود أعداد من المتطرفين ممن ليست لديهم قابلية لإعادة التأهيل بعد اعتيادهم على الممارسات المتطرفة، بالأخص مَن تقلد مناصب قيادية في التنظيم أو حمل قناعات دينية متشددة يصعب تغييرها. مثل هؤلاء يمكن تأثيرهم على المجتمع على اعتبار حيازتهم خبرة في ساحات القتال تضخم من قدراتهم وتسبغ عليهم قدرة على التأثير في المجتمعات بالأخص لدى مَن يشكّلون أقليات ولديهم قابلية للتطرف نتيجة شعورهم بالتهميش والانعزال عن بقية المجتمع لاختلافهم عنه. من جهة أخرى فإن الإعراب عن الندم على ما اقترفه المتطرف ورغبته في العودة إلى وطنه قد يكون نتيجة تضييق الحصار على التنظيم في كلٍّ من العراق وسوريا، وتغيير التنظيم لاستراتيجيته ورغبته في التغلغل في المجتمعات التي جاء منها المقاتلون الأجانب سواء عبر إيقاظ «خلايا نائمة» أو التأثير على الآخرين من خلال الرسائل الإعلامية إلكترونياً أو تحويل الأفراد إلى ذئاب منفردة بإمكانهم القيام بهجمات إرهابية.
أشارت الباحثة سيلفين سي، في المركز الدولي للعنف السياسي والإرهاب في سنغافورة، إلى مدى خطورة عودة المقاتلين الأجانب إلى بلدانهم، إذ سيحصلون على هوية خاصة لمقاتلين مسلحين مخضرمين مما يسبغ عليهم كاريزما مميزة تعطيهم قابلية لأن يصبحوا قادة متطرفين بإمكانهم التواصل مع من يعرفونهم من أعضاء التنظيم، الأمر الذي يعطيهم دافعاً لاستمرار انتمائهم لـ«داعش» والتواصل مع الآخرين إلكترونياً من أجل التجنيد أو نشر الحملات الدعائية لهم أو حتى التخطيط لعمليات إرهابية. فيما تطرق الباحث الزميل توماس هيغهامر في مركز أبحاث الدفاع النرويجي إلى عدد من العوامل التي تعزز ما وصفه بـ«الأزمة الجهادية في أوروبا»، وذكر أربعة أساسية منها وهي: زيادة عدد المسلمين الشباب ذوي الدخل الاقتصادي المحدود، الأمر الذي له صلة غير مباشرة بالتطرف أو الانضمام إلى التنظيمات المتطرفة، وزيادة عدد الناشطين ذوي الخبرة، أو بمعنى أوضح المقاتلين الأجانب العائدين من القتال المسلح إلى أوطانهم، إضافة إلى استمرار الأزمات المسلحة في عدد من دول العالم الإسلامي واستمرار أنشطة التنظيمات المتطرفة عبر الإنترنت واستغلالهم وسائل التواصل الاجتماعي. وعلى الرغم من إشكالية عودة المقاتلين الأجانب فإنه بالإمكان أن تتم مناصحة المتطرفين وإعادة تأهيلهم، لا سيما أولئك الذين لم ينخرطوا في قتال فعلي وإنما تم التغرير بهم، وذلك من خلال إعادة دمجهم في المجتمع. حيث إن ذلك أفضل لا محالة من بقاء المقاتلين الأجانب في العراق وسوريا.