صعوبات الانفصال القانوني أو الفعلي في جنوب اليمن

دبابة للجيش اليمني في مدينة تعز في مايو الماضي (أ.ف.ب)
دبابة للجيش اليمني في مدينة تعز في مايو الماضي (أ.ف.ب)
TT

صعوبات الانفصال القانوني أو الفعلي في جنوب اليمن

دبابة للجيش اليمني في مدينة تعز في مايو الماضي (أ.ف.ب)
دبابة للجيش اليمني في مدينة تعز في مايو الماضي (أ.ف.ب)

لا وحدة الدول تفرض بالقوة، ولا الانفصال. وإذا كان من الطبيعي أن تحافظ الدولة على تماسكها السياسي وعلى وحدة أراضيها، فإن ما هو ضروري أن تعرف هذه الدولة، أو من يمسكون شؤونها كيف تدار، وأن يتجنبوا دفع بعض الأجزاء إلى حلم الطلاق.
اليمن ليس استثناء إذن. والوحدة التي قامت سنة 1990 بعد سقوط النظام الذي كان قائماً في جنوب اليمن بفعل سقوط حمايته الخارجية، كما حصل مع كثير من الأنظمة الاشتراكية التي كانت موالية لموسكو في ذلك الحين، لم تؤسس لحكم يتسع لطموحات كل مواطنيه، جنوبيين وشماليين. وبعد أربع سنوات كانت الهزة الأولى ضد نظام الوحدة، التي انتهت باستعادة صنعاء السيطرة على مقدرات البلد.
لم تكن تلك السيطرة وردية دائماً. علي عبد الله صالح كان يصف قيادة اليمن بالرقص على رؤوس الأفاعي. تراكم الرقص والفشل، إلى أن انتهى الأمر بفتح أبواب اليمن أمام التدخل الإيراني وهيمنة الحوثيين على قسم كبير من أجزائه، بما فيها العاصمة صنعاء.
اليوم يعود همّ الانفصال يدغدغ أحلام بعض أهل الجنوب. ضعف السلطة المركزية وإمعان الحوثيين في تفكيك وحدة الدولة واستقلال قرارها السيادي يساعدان على ذلك. وفيما تتصدر هذه القضية الأخبار، تناقش صفحة «قضايا» الموضوع من 3 زوايا: دز حمزة الكمالي وكيل وزارة الشباب والرياضة يرى أنه لا خيار أمام اليمن سوى الدولة الاتحادية، والكاتب عبد الناصر المودع يدافع عن وحدة اليمن، ويعتبر أن دعوات الانفصال هي نتيجة ضعف السلطة المركزية وسيطرة الحوثيين على صنعاء، فيما يرى دكتور خال بامدهف رئيس الدائرة السياسية بـ«المجلس الانتقالي» أن إقصاء الجنوبيين عن الشراكة السياسية هو وراء الأزمة الحالية. ويرى أن «المجلس الانتقالي» امتداد طبيعي لما يسميها «المقاومة الجنوبية».

لم تكن وحدة اليمن أمراً حتمياً، فقد كان من الممكن أن يستمر اليمن مقسماً في دولتين إلى ما شاء الله. غير أن الصدف التاريخية أدت إلى قيام الوحدة في 22 مايو (أيار) 1990. ففي ذلك التاريخ، تم الإعلان عن قيام الجمهورية اليمنية، عبر توحيد جمهوريتي اليمن السابقتين في دولة بسيطة، وتم تشكيل سلطة انتقالية مؤقتة مناصفة، تقريباً، من قيادتي الدولتين، تنتهي بعد إجراء انتخابات برلمانية، وتشكيل سلطة جديدة، وفقاً لدستور الجمهورية اليمنية الذي كان موضوعاً على الرف منذ أن انتهت لجنة مشتركة من الدولتين من صياغته في عام 1981.
وفي مايو 1991، تم الاستفتاء على الدستور في جميع مناطق اليمن، وحصل على موافقة 98.3 في المائة، وتنص المادة الأولى منه، التي لم يطلها التغيير في التعديلات اللاحقة، على أن الجمهورية اليمنية هي وحدة لا تتجزأ، ولا يجوز التنازل عن أي جزءٍ منها. ووفقاً لذلك النص، فإن الوحدة اليمنية نهائية وأبدية.
ويقوم النظام الدولي على مبدأ سيادة الدول ووحدة أراضيها. ووفقاً لهذا المبدأ، يمنع القانون الدولي الانفصال من جانب واحد، لأن السماح بانفصال كهذا سيفكك معظم دول العالم، ويخلق فوضى لا نهاية لها. واستناداً إلى هذا المبدأ، رفض مجلس الأمن الدولي الاعتراف بدولة الجنوب التي تم الإعلان عنها خلال حرب 1994. ففي القرار رقم (924) و(931) اللذين أصدرهما المجلس خلال تلك الحرب، تعامل المجلس مع النزاع على أنه نزاع داخلي ضمن الجمهورية اليمنية.
وفي جميع القرارات الصادرة عن مجلس الأمن المتعلقة باليمن، التي تزيد على 10 قرارات، وبعضها تحت الفصل السابع، هناك تشديد على وحدة اليمن وسلامة أراضيه، وهذا يعني أن شعب اليمن واحد ينظم حياته دستور هذه الدولة.
وبما أن الدستور اليمني يُجرم أي عمل أو سلوك يهدد وحدة الدولة، فإن السلطة التنفيذية والتشريعية لا تستطيع أن تتفاوض أو تقبل بأي وضع يؤدي إلى ذلك. وعليه، فإن الانفصال القانوني الوحيد الذي سيعترف به الداخل اليمني والعالم لن يكون إلا بتغيير المادة الأولى من دستور الجمهورية اليمنية، بنص يسمح للمحافظات الجنوبية بإعلان الانفصال أو الاستفتاء لتقرير المصير، أو أي صيغة أخرى. وهذا التغيير يتطلب استفتاءً شعبياً من قبل جميع المواطنين اليمنيين، وحدوث هذا الأمر عملية شبه مستحيلة في ظل وجود أغلبية شمالية (85 في المائة من سكان اليمن) تعارض الانفصال.
وإذا كان الانفصال الشرعي والقانوني غير ممكن، فإن البديل للانفصاليين هو الانفصال الفعلي، الذي تم في أكثر من منطقة من العالم. فهل بالإمكان وفقاً لظروف اليمن الحالية حدوث انفصال فعلي؟ الجواب على هذا السؤال ليس سهلاً. فمن الناحية النظرية، هناك كثير من المؤشرات التي تشير إلى إمكانية حدوث هذا الأمر، فهناك انهيار للسلطة المركزية، وسيطرة قوى غير شرعية على أجزاء مهمة من الدولة، أهمها الحوثيون الذين يسيطرون على أجزاء من الدولة، وعلى العاصمة صنعاء، وهناك قوى انفصالية وجهوية تسيطر على مناطق واسعة من الدولة، وهناك تدخل خارجي كثيف جعل اليمن عملياً تحت وصاية هذه الدول التي يدعم بعضها المشروع الانفصالي.
مع ذلك، فإن الانفصال الفعلي غير ممكن أيضاً، فهذا الانفصال الذي نقصد به الإعلان عن قيام دولة في جنوب اليمن تمارس السلطة الفعلية على هذه المناطق أو أغلبها، دون أن تحصل على اعتراف دولي حقيقي، كما هو الحال في جمهورية شمال قبرص، وجمهورية أبخازيا، وجمهورية أوسيتيا الجنوبية، وجمهورية أرض الصومال، فهذه المناطق أعلنت انفصالها، وتسيطر حكوماتها على كل الأراضي التي ادعت أنها تابعة لها، إلا أن المجتمع الدولي لا يعترف بها، باستثناء عدد قليل من الدول.
ومن غير المرجح أن يوجد وضع مشابه في جنوب اليمن، لأن الظروف المحلية والدولية لا تسمح بقيام وضع كهذا. فنجاح الانفصال الفعلي يتطلب توفر عدد من الشروط، أهمها:
- وجود راعٍ خارجي قادر على حماية هذا الكيان، سياسياً وعسكرياً، وتوفير متطلباته المالية، وتنظيم شؤونه السياسية والإدارية، وتوفير الاحتياجات الأخرى، كجوازات السفر والعملة وغيرها. وفي حالة جنوب اليمن، فليست هناك دولة مرشحة للعب هذا الدور، على الأقل في الظروف الحالية.
ويزيد الأمر صعوبة وقوع اليمن عملياً تحت الوصاية الإقليمية - الدولية. فهناك تدخل عسكري وسياسي قائم، تحت قيادة التحالف العربي الذي يسعى إلى استعادة الشرعية، وعودة الأمن والاستقرار لليمن. وهناك أكثر من 10 قرارات صادرة عن مجلس الأمن تؤكد على وحدة وسيادة اليمن، ومعاقبة كل من يساهم في عدم الاستقرار فيه. وهناك ملف مفتوح داخل مجلس الأمن للوضع السياسي والإنساني في اليمن، الذي تصنفه الأمم المتحدة على أنه أسوأ أزمة إنسانية في العالم، كما أن هناك مبعوثاً أممياً للشؤون السياسية، وآخر للشؤون الإنسانية، يقدمون إحاطة شهرية لمجلس الأمن حول اليمن.
وفي ظل هذا الوضع، يستحيل على أي دولة أن تقوم برعاية كيان غير قانوني في جنوب اليمن، لأنها ستعرض نفسها لمساءلات قانونية وأخلاقية هائلة. إضافة إلى ذلك، تواجه الحكومة الشرعية صراعاً مع الحوثيين، ومن ورائهم إيران، والمشروع الانفصالي يعمل على ضخ مزيد من الفوضى في اليمن، الأمر الذي يقوي الحوثيين.
وما يمكن أن يقال في هذا الشأن أن الاتهامات الموجهة للإمارات برعاية المشروع الانفصالي تتم ضمن التدخل الذي تم بطلب من الحكومة الشرعية لليمن. وفي حال تحولت هذه الرعاية إلى حد الإعلان عن كيان انفصالي، فإن الوضع القانوني والسياسي، وربما العسكري، سيتغير بشكل جذري. وكل ذلك يشير إلى استحالة رعاية الإمارات لدولة انفصالية في الجنوب.
- الانفصال الفعلي يحتاج إلى سلطة محلية قوية، بجسم سياسي متماسك وتأييد شعبي واسع، وموارد ذاتية، وإن في الحدود الدنيا، وهذه الأمور غير متوفرة في الجنوب. فالجنوب يفتقر إلى الهوية السياسية الجامعة، ويعاني من حس جهوي انعزالي. ويرجع السبب في ذلك إلى حداثة الدولة المركزية في الجنوب، التي لم يتجاوز عمرها 23 سنة (1967 - 1990). وما يسمى «المجلس الانتقالي» الجنوبي هو كيان غير منسجم، تهيمن عليه قوى قبلية تنتمي إلى محافظتي لحج والضالع، اللتين تقعان في مساحة صغيرة غرب الجنوب.
ومن المتوقع أن تظهر النزاعات البينية داخل هذا المجلس، ومع قوى جنوبية أخرى، في حال سيطر على أي مناطق جنوبية، وأعلن قيام دولة. ووضع بهذه الهشاشة يفتح الباب أمام قوات الحكومة اليمنية والقوى السياسية الشمالية لأن تسند القوى الجنوبية المعارضة للمجلس الانتقالي، وتسحقه في حال ضعف الدعم الخارجي له، خصوصاً أن هذا العمل سيتم بغطاء شرعي.
إضافة إلى ذلك، لا يملك الجنوب موارد كافية لإنشاء جهاز إداري وقوات عسكرية، وتقديم خدمات للسكان، فإنتاج الجنوب من النفط لا يزيد على 40 ألف برميل، ويقع معظمه في محافظة حضرموت التي لديها طموحات استقلالية خاصة بها.
- يتطلب الانفصال الفعلي وجود انفصال ثقافي - اجتماعي حقيقي عن الطرف الآخر. وبالنظر إلى الحالة اليمنية، فليس هناك اختلاف ثقافي - اجتماعي، كاللغة أو الدين أو البنية الاجتماعية، يميز الجنوبيين عن الشماليين، والعكس هو الصحيح، فاليمنيون من الشعوب النادرة في العالم التي تمتاز بتجانس ثقافي عالٍ، وهي حقيقة يحاول الانفصاليون الادعاء بنقيضها.
- جنوب اليمن مساحته تقارب ثلثي مساحة الدولة اليمنية، وهو بهذه الصفة ليس منطقة معزولة هامشية في الدولة، يمكن تجاهلها من قبل بقية الدولة، والسماح لها بالانفصال الفعلي، كحال «جمهورية أرض الصومال». يضاف إلى ذلك حالة التداخل الاجتماعي الواسعة بين الشماليين والجنوبيين، وكذلك التداخل الاقتصادي والسياسي والجغرافي الكبير بين المنطقتين. فالجنوب يرتبط مع الشمال بحدود برية لا تفصل بينها حواجز طبيعية بما يزيد على 700 كم، وهذه العوامل تجعل من السهل على الشمال اختراق الجنوب، عسكرياً وسياسياً، خصوصاً أن النزعة الوحدوية عالية لدى الغالبية العظمى من الشماليين وجزء معتبر من الجنوبيين.
يدرك كل من يعرف طبيعة الوضع في اليمن بتعقيداته أن هذه الدولة يصعب تقسيمها، وما الدعوات الانفصالية إلا نتيجة ضعف السلطة المركزية بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء. وفي حال هزيمتهم، وبناء سلطة مركزية جديدة، سيكون من السهل احتواء الحركة الانفصالية في الجنوب، سياسياً وعسكرياً، فالدولة الواحدة في اليمن هي الصيغة الوحيدة القابلة للحياة والاستمرار، وما دون ذلك هو مشاريع فوضى دائمة.

* كاتب يمني



السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.