صعوبات الانفصال القانوني أو الفعلي في جنوب اليمن

دبابة للجيش اليمني في مدينة تعز في مايو الماضي (أ.ف.ب)
دبابة للجيش اليمني في مدينة تعز في مايو الماضي (أ.ف.ب)
TT

صعوبات الانفصال القانوني أو الفعلي في جنوب اليمن

دبابة للجيش اليمني في مدينة تعز في مايو الماضي (أ.ف.ب)
دبابة للجيش اليمني في مدينة تعز في مايو الماضي (أ.ف.ب)

لا وحدة الدول تفرض بالقوة، ولا الانفصال. وإذا كان من الطبيعي أن تحافظ الدولة على تماسكها السياسي وعلى وحدة أراضيها، فإن ما هو ضروري أن تعرف هذه الدولة، أو من يمسكون شؤونها كيف تدار، وأن يتجنبوا دفع بعض الأجزاء إلى حلم الطلاق.
اليمن ليس استثناء إذن. والوحدة التي قامت سنة 1990 بعد سقوط النظام الذي كان قائماً في جنوب اليمن بفعل سقوط حمايته الخارجية، كما حصل مع كثير من الأنظمة الاشتراكية التي كانت موالية لموسكو في ذلك الحين، لم تؤسس لحكم يتسع لطموحات كل مواطنيه، جنوبيين وشماليين. وبعد أربع سنوات كانت الهزة الأولى ضد نظام الوحدة، التي انتهت باستعادة صنعاء السيطرة على مقدرات البلد.
لم تكن تلك السيطرة وردية دائماً. علي عبد الله صالح كان يصف قيادة اليمن بالرقص على رؤوس الأفاعي. تراكم الرقص والفشل، إلى أن انتهى الأمر بفتح أبواب اليمن أمام التدخل الإيراني وهيمنة الحوثيين على قسم كبير من أجزائه، بما فيها العاصمة صنعاء.
اليوم يعود همّ الانفصال يدغدغ أحلام بعض أهل الجنوب. ضعف السلطة المركزية وإمعان الحوثيين في تفكيك وحدة الدولة واستقلال قرارها السيادي يساعدان على ذلك. وفيما تتصدر هذه القضية الأخبار، تناقش صفحة «قضايا» الموضوع من 3 زوايا: دز حمزة الكمالي وكيل وزارة الشباب والرياضة يرى أنه لا خيار أمام اليمن سوى الدولة الاتحادية، والكاتب عبد الناصر المودع يدافع عن وحدة اليمن، ويعتبر أن دعوات الانفصال هي نتيجة ضعف السلطة المركزية وسيطرة الحوثيين على صنعاء، فيما يرى دكتور خال بامدهف رئيس الدائرة السياسية بـ«المجلس الانتقالي» أن إقصاء الجنوبيين عن الشراكة السياسية هو وراء الأزمة الحالية. ويرى أن «المجلس الانتقالي» امتداد طبيعي لما يسميها «المقاومة الجنوبية».

لم تكن وحدة اليمن أمراً حتمياً، فقد كان من الممكن أن يستمر اليمن مقسماً في دولتين إلى ما شاء الله. غير أن الصدف التاريخية أدت إلى قيام الوحدة في 22 مايو (أيار) 1990. ففي ذلك التاريخ، تم الإعلان عن قيام الجمهورية اليمنية، عبر توحيد جمهوريتي اليمن السابقتين في دولة بسيطة، وتم تشكيل سلطة انتقالية مؤقتة مناصفة، تقريباً، من قيادتي الدولتين، تنتهي بعد إجراء انتخابات برلمانية، وتشكيل سلطة جديدة، وفقاً لدستور الجمهورية اليمنية الذي كان موضوعاً على الرف منذ أن انتهت لجنة مشتركة من الدولتين من صياغته في عام 1981.
وفي مايو 1991، تم الاستفتاء على الدستور في جميع مناطق اليمن، وحصل على موافقة 98.3 في المائة، وتنص المادة الأولى منه، التي لم يطلها التغيير في التعديلات اللاحقة، على أن الجمهورية اليمنية هي وحدة لا تتجزأ، ولا يجوز التنازل عن أي جزءٍ منها. ووفقاً لذلك النص، فإن الوحدة اليمنية نهائية وأبدية.
ويقوم النظام الدولي على مبدأ سيادة الدول ووحدة أراضيها. ووفقاً لهذا المبدأ، يمنع القانون الدولي الانفصال من جانب واحد، لأن السماح بانفصال كهذا سيفكك معظم دول العالم، ويخلق فوضى لا نهاية لها. واستناداً إلى هذا المبدأ، رفض مجلس الأمن الدولي الاعتراف بدولة الجنوب التي تم الإعلان عنها خلال حرب 1994. ففي القرار رقم (924) و(931) اللذين أصدرهما المجلس خلال تلك الحرب، تعامل المجلس مع النزاع على أنه نزاع داخلي ضمن الجمهورية اليمنية.
وفي جميع القرارات الصادرة عن مجلس الأمن المتعلقة باليمن، التي تزيد على 10 قرارات، وبعضها تحت الفصل السابع، هناك تشديد على وحدة اليمن وسلامة أراضيه، وهذا يعني أن شعب اليمن واحد ينظم حياته دستور هذه الدولة.
وبما أن الدستور اليمني يُجرم أي عمل أو سلوك يهدد وحدة الدولة، فإن السلطة التنفيذية والتشريعية لا تستطيع أن تتفاوض أو تقبل بأي وضع يؤدي إلى ذلك. وعليه، فإن الانفصال القانوني الوحيد الذي سيعترف به الداخل اليمني والعالم لن يكون إلا بتغيير المادة الأولى من دستور الجمهورية اليمنية، بنص يسمح للمحافظات الجنوبية بإعلان الانفصال أو الاستفتاء لتقرير المصير، أو أي صيغة أخرى. وهذا التغيير يتطلب استفتاءً شعبياً من قبل جميع المواطنين اليمنيين، وحدوث هذا الأمر عملية شبه مستحيلة في ظل وجود أغلبية شمالية (85 في المائة من سكان اليمن) تعارض الانفصال.
وإذا كان الانفصال الشرعي والقانوني غير ممكن، فإن البديل للانفصاليين هو الانفصال الفعلي، الذي تم في أكثر من منطقة من العالم. فهل بالإمكان وفقاً لظروف اليمن الحالية حدوث انفصال فعلي؟ الجواب على هذا السؤال ليس سهلاً. فمن الناحية النظرية، هناك كثير من المؤشرات التي تشير إلى إمكانية حدوث هذا الأمر، فهناك انهيار للسلطة المركزية، وسيطرة قوى غير شرعية على أجزاء مهمة من الدولة، أهمها الحوثيون الذين يسيطرون على أجزاء من الدولة، وعلى العاصمة صنعاء، وهناك قوى انفصالية وجهوية تسيطر على مناطق واسعة من الدولة، وهناك تدخل خارجي كثيف جعل اليمن عملياً تحت وصاية هذه الدول التي يدعم بعضها المشروع الانفصالي.
مع ذلك، فإن الانفصال الفعلي غير ممكن أيضاً، فهذا الانفصال الذي نقصد به الإعلان عن قيام دولة في جنوب اليمن تمارس السلطة الفعلية على هذه المناطق أو أغلبها، دون أن تحصل على اعتراف دولي حقيقي، كما هو الحال في جمهورية شمال قبرص، وجمهورية أبخازيا، وجمهورية أوسيتيا الجنوبية، وجمهورية أرض الصومال، فهذه المناطق أعلنت انفصالها، وتسيطر حكوماتها على كل الأراضي التي ادعت أنها تابعة لها، إلا أن المجتمع الدولي لا يعترف بها، باستثناء عدد قليل من الدول.
ومن غير المرجح أن يوجد وضع مشابه في جنوب اليمن، لأن الظروف المحلية والدولية لا تسمح بقيام وضع كهذا. فنجاح الانفصال الفعلي يتطلب توفر عدد من الشروط، أهمها:
- وجود راعٍ خارجي قادر على حماية هذا الكيان، سياسياً وعسكرياً، وتوفير متطلباته المالية، وتنظيم شؤونه السياسية والإدارية، وتوفير الاحتياجات الأخرى، كجوازات السفر والعملة وغيرها. وفي حالة جنوب اليمن، فليست هناك دولة مرشحة للعب هذا الدور، على الأقل في الظروف الحالية.
ويزيد الأمر صعوبة وقوع اليمن عملياً تحت الوصاية الإقليمية - الدولية. فهناك تدخل عسكري وسياسي قائم، تحت قيادة التحالف العربي الذي يسعى إلى استعادة الشرعية، وعودة الأمن والاستقرار لليمن. وهناك أكثر من 10 قرارات صادرة عن مجلس الأمن تؤكد على وحدة وسيادة اليمن، ومعاقبة كل من يساهم في عدم الاستقرار فيه. وهناك ملف مفتوح داخل مجلس الأمن للوضع السياسي والإنساني في اليمن، الذي تصنفه الأمم المتحدة على أنه أسوأ أزمة إنسانية في العالم، كما أن هناك مبعوثاً أممياً للشؤون السياسية، وآخر للشؤون الإنسانية، يقدمون إحاطة شهرية لمجلس الأمن حول اليمن.
وفي ظل هذا الوضع، يستحيل على أي دولة أن تقوم برعاية كيان غير قانوني في جنوب اليمن، لأنها ستعرض نفسها لمساءلات قانونية وأخلاقية هائلة. إضافة إلى ذلك، تواجه الحكومة الشرعية صراعاً مع الحوثيين، ومن ورائهم إيران، والمشروع الانفصالي يعمل على ضخ مزيد من الفوضى في اليمن، الأمر الذي يقوي الحوثيين.
وما يمكن أن يقال في هذا الشأن أن الاتهامات الموجهة للإمارات برعاية المشروع الانفصالي تتم ضمن التدخل الذي تم بطلب من الحكومة الشرعية لليمن. وفي حال تحولت هذه الرعاية إلى حد الإعلان عن كيان انفصالي، فإن الوضع القانوني والسياسي، وربما العسكري، سيتغير بشكل جذري. وكل ذلك يشير إلى استحالة رعاية الإمارات لدولة انفصالية في الجنوب.
- الانفصال الفعلي يحتاج إلى سلطة محلية قوية، بجسم سياسي متماسك وتأييد شعبي واسع، وموارد ذاتية، وإن في الحدود الدنيا، وهذه الأمور غير متوفرة في الجنوب. فالجنوب يفتقر إلى الهوية السياسية الجامعة، ويعاني من حس جهوي انعزالي. ويرجع السبب في ذلك إلى حداثة الدولة المركزية في الجنوب، التي لم يتجاوز عمرها 23 سنة (1967 - 1990). وما يسمى «المجلس الانتقالي» الجنوبي هو كيان غير منسجم، تهيمن عليه قوى قبلية تنتمي إلى محافظتي لحج والضالع، اللتين تقعان في مساحة صغيرة غرب الجنوب.
ومن المتوقع أن تظهر النزاعات البينية داخل هذا المجلس، ومع قوى جنوبية أخرى، في حال سيطر على أي مناطق جنوبية، وأعلن قيام دولة. ووضع بهذه الهشاشة يفتح الباب أمام قوات الحكومة اليمنية والقوى السياسية الشمالية لأن تسند القوى الجنوبية المعارضة للمجلس الانتقالي، وتسحقه في حال ضعف الدعم الخارجي له، خصوصاً أن هذا العمل سيتم بغطاء شرعي.
إضافة إلى ذلك، لا يملك الجنوب موارد كافية لإنشاء جهاز إداري وقوات عسكرية، وتقديم خدمات للسكان، فإنتاج الجنوب من النفط لا يزيد على 40 ألف برميل، ويقع معظمه في محافظة حضرموت التي لديها طموحات استقلالية خاصة بها.
- يتطلب الانفصال الفعلي وجود انفصال ثقافي - اجتماعي حقيقي عن الطرف الآخر. وبالنظر إلى الحالة اليمنية، فليس هناك اختلاف ثقافي - اجتماعي، كاللغة أو الدين أو البنية الاجتماعية، يميز الجنوبيين عن الشماليين، والعكس هو الصحيح، فاليمنيون من الشعوب النادرة في العالم التي تمتاز بتجانس ثقافي عالٍ، وهي حقيقة يحاول الانفصاليون الادعاء بنقيضها.
- جنوب اليمن مساحته تقارب ثلثي مساحة الدولة اليمنية، وهو بهذه الصفة ليس منطقة معزولة هامشية في الدولة، يمكن تجاهلها من قبل بقية الدولة، والسماح لها بالانفصال الفعلي، كحال «جمهورية أرض الصومال». يضاف إلى ذلك حالة التداخل الاجتماعي الواسعة بين الشماليين والجنوبيين، وكذلك التداخل الاقتصادي والسياسي والجغرافي الكبير بين المنطقتين. فالجنوب يرتبط مع الشمال بحدود برية لا تفصل بينها حواجز طبيعية بما يزيد على 700 كم، وهذه العوامل تجعل من السهل على الشمال اختراق الجنوب، عسكرياً وسياسياً، خصوصاً أن النزعة الوحدوية عالية لدى الغالبية العظمى من الشماليين وجزء معتبر من الجنوبيين.
يدرك كل من يعرف طبيعة الوضع في اليمن بتعقيداته أن هذه الدولة يصعب تقسيمها، وما الدعوات الانفصالية إلا نتيجة ضعف السلطة المركزية بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء. وفي حال هزيمتهم، وبناء سلطة مركزية جديدة، سيكون من السهل احتواء الحركة الانفصالية في الجنوب، سياسياً وعسكرياً، فالدولة الواحدة في اليمن هي الصيغة الوحيدة القابلة للحياة والاستمرار، وما دون ذلك هو مشاريع فوضى دائمة.

* كاتب يمني



ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
TT

ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)

في قطاع غزة، كان لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب دور بارز في إقناع «حماس» وإسرائيل بضرورة التوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، وإعلان انتهاء الحرب التي استمرت لمدة عامين، دفع خلالها الفلسطينيون أثماناً لا تحتمل من خسائر بشرية ومادية وعلى صعد مختلفة، منها الصحة والبيئة والبنية التحتية وغيرها.

ويحسب لإدارة ترمب أنها نجحت فعلاً بالتوصل لاتفاق بعد محاولات حثيثة من إدارة جو بايدن للتوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، إلا أن كل الجهود فشلت آنذاك في ظل خلافات برزت بينها وبين الحكومة الإسرائيلية بزعامة بنيامين نتنياهو، الذي كان يتوق لعودة ترمب إلى الحكم. إلا أن هذه العودة لم تكن مثل ولاية ترمب الأولى التي منح خلالها لإسرائيل الكثير من الهدايا سواء الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، أو سيادتها على الجولان، أو حتى العمل على الاتفاقيات الإبراهيمية.

قبول مواقف «حماس»

وفرض ترمب على نتنياهو وحكومته العديد من القرارات المتعلقة بالشأن الفلسطيني والمنطقة بأسرها، وخاصةً فيما يتعلق بالحرب على إسرائيل، حين فاجأ الأخيرة بقبول موقف «حماس» من خطته التي طرحت على الحركة، بشأن وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وهو أمر فاجأ نتنياهو وحكومته بشكل خاص، قبل أن تقبل الحكومة الإسرائيلية، بالأمر الواقع، ويتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.

وعلى الرغم من أن هذا الإنجاز يحسب لإدارة ترمب، فإن الخروقات الإسرائيلية المستمرة لوقف إطلاق النار الهش للغاية، قد تفضي إلى إفشاله. لكن أيضاً حالة العجز الفلسطينية بعد حرب استمرت عامين واستنزفت كل قدرات فصائلها المسلحة وخاصةً «حماس» و «الجهاد الإسلامي»، ربما تدفع الجميع بقبول ما تطمح إليه الولايات المتحدة من العبور إلى المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار. ليتم ذلك لا بد من دعم من الوسطاء الذين يحاولون تقريب وجهات النظر بين «حماس» وإسرائيل من جانب، والولايات المتحدة من جانب آخر، ويتمحور دورها في الضغط على حكومة نتنياهو، بقبول الاتفاق والالتزام ببنوده. ففي أكثر من مرة منعت هذه الحكومة من اتخاذ إجراءات مثل إغلاق المعابر مجدداً للقطاع بحجة خروقات حصلت من جانب «حماس»، كما ضغطت عليها في العديد من المرات بالالتزام بزيادة عدد الشاحنات التجارية والمساعدات إلى القطاع.

«ضغوط وهمية»؟

رغم أن هذه الضغوط تؤتي أكلها وثمارها في بعض الأحيان، لكن الفصائل الفلسطينية والمراقبين للوضع في قطاع غزة، يرون أنها مجرد ضغوط وهمية في قضايا غير ملحة، وأن هناك حاجة أكثر لضرورة أن يكون الضغط فاعلاً تجاه قضايا أكبر ومهمة بالنسبة للسكان في القطاع، مثل البدء بتوفير المواد الإغاثية من خيام جيدة صالحة للحياة، وإدخال الكرفانات، والبدء بمسيرة إعمار جادة، بينما تتطلع إسرائيل للبدء بنزع سلاح «حماس» والفصائل الأخرى، وأن تتخلى الحركة عن حكمها للقطاع، وهي قضايا ما زالت تبحث ويدار حولها الكثير من اللقاءات والمحادثات الهادفة للانتقال لكل عناصر وبنود الاتفاق بمرحلته الثانية.

خريطة لمراحل الانسحاب من غزة وفق خطة ترمب (البيت الأبيض)

ولربما غالبية سكان قطاع غزة، كانوا يتطلعون لنجاحات أكبر من إدارة ترمب بعد أن فرضت على إسرائيل و«حماس» اتفاق وقف إطلاق النار، سواء من خلال الدبلوماسية التي قادتها هذه الإدارة من جانب، أو من خلال سياسة الضغط عبر الوسطاء وحتى عبر التهديدات التي كان يطلقها ترمب من حين إلى آخر، لكن هناك من يرى سياسياً وشعبياً أن الولايات المتحدة ما زالت لم تقدم الكثير تجاه إنجاح هذا الاتفاق في ظل أنه كان المأمول في أن يتغير واقع القطاع لأفضل من ذلك، خاصةً على مستوى الظروف الحياتية وبدء الإعمار، وهو الأمر الذي يهتم به المواطن في غزة أكثر من أي مطالب أخرى.

المرحلة الثانية

وفتحت اللقاءات المباشرة بين «حماس» والإدارة الأميركية، التي كانت مفاجئة بالنسبة لإسرائيل، أفقاً أكبر لإمكانية الانتقال للمرحلة الثانية بسلاسة كما جرى في المرحلة الأولى، حيث تحاول الحركة الفلسطينية إقناع إدارة ترمب بالعديد من المقترحات التي تقدمها عبر الوسطاء، لكنها كانت تتطلع لعقد لقاء آخر مع المبعوثين الأميركيين لبحث هذه القضايا بشكل مباشر، قبل أن تعترض إسرائيل على هذه اللقاءات، ما أدى لتأجيلها، في وقت جرت تسريبات عن أنها عقدت سراً، وهو الأمر الذي لم يؤكد سواء من الحركة أو الولايات المتحدة.

مسلحون من «حماس» يحملون أحد التوابيت في أثناء تسليم جثث رهائن إسرائيليين إلى «الصليب الأحمر» في خان يونس 20 فبراير 2025 (د.ب.أ)

ويبدو أن «حماس» التي تدرس جيداً الكثير من خطواتها، قبل أن تخطوها، تتفهم خريطة عمل إدارة ترمب التي تصنف في استراتيجية أمنها القومي منطقة الشرق الأوسط «منطقة شراكة» لا التزام عسكري طويل، بما يشير إلى أن الولايات المتحدة تحت حكم ترمب، منفتحة على أن حتى من يصنفون أنهم أعداؤها، يمكن أن تكون لهم الفرصة في حال أثبتوا قدرتهم على أن يصبحوا شركاء نافذين لها في منطقة الشرق الأوسط، وأنه لا يهمها من يحكم، إنما يهمها الشراكة المُجدية فقط.

انتصار مزدوج

وتتجه «حماس» لاستغلال هذه الفرصة التي وضعتها الإدارة الأميركية لنفسها، للتواصل مع جهات غير حكومية في سبيل حل التعقيدات التي تواجه سياساتها الخارجية، خاصةً في منطقة الشرق الأوسط، بما يحقق لها ولرئيسها دونالد ترمب، انتصاراً دبلوماسياً يطمح له الأخير لتحقيق هدفه بالحصول على جائزة «نوبل» للسلام من جانب، وبما يشكل من جانب آخر اتفاقاً قد يكون غير مسبوق فيما يتعلق بواقع القضية الفلسطينية ومصير الصراع مع إسرائيل.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في قمة شرم الشيخ لإنهاء حرب غزة بمصر يوم 13 أكتوبر 2025 (رويترز)

ورغم هذه الرؤية، فإن هناك في «حماس» من لا يأمن الجانب الأميركي الذي قدم في العديد من المرات وعوداً لم تتحقق بالنسبة للحركة، ومنها عندما أطلقت سراح الجندي الإسرائيلي الذي يحمل الجنسية الأميركية، عيدان ألكسندر، كهدية لترمب بعد لقاءات مباشرة بين الجانبين، وضمن اتفاق ضمني يسمح بفتح المعابر وإدخال المساعدات للقطاع، في وقت تهربت فيه إسرائيل من هذا الاتفاق، كما تهربت من اتفاق مماثل بتسليم جثة الضابط الإسرائيلي هدار غولدن مقابل حل أزمة العناصر المسلحة من «حماس» في أنفاق رفح، الأمر الذي قد يؤشر أيضاً إلى عدم قدرة تحقيق الإدارة الأميركية إنجازات حقيقية في قطاع غزة، حال بقيت سياستها على حالها دون ضغط حقيقي على إسرائيل.


نتنياهو لا يزال يدرس «ترمب الجديد»

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
TT

نتنياهو لا يزال يدرس «ترمب الجديد»

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزوجته سارة عند المدخل الجنوبي للبيت الأبيض يوم 7 يوليو 2025 (د.ب.أ)

لم تشهد العلاقات الأميركية الإسرائيلية اضطراباً كما هي الحال اليوم. ورغم دعم واشنطن الاستراتيجي، أمنياً وسياسياً واقتصادياً، والاحتضان الكبير من الرئيس دونالد ترمب لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي بلغ درجة التدخل العلني الصريح في شؤون القضاء، ومطالبته عبر رسالة رسمية من البيت الأبيض بإلغاء قضايا فساد يُحاكم عليها نتنياهو، فإن هناك قلقاً يساور تل أبيب وتساؤلات كثيرة من دون إجابات.

ومن بين أبرز الأسئلة ما يتعلق بترمب، وما إذا كان في الدورة الأولى من حكمه، هو الرئيس الجديد نفسه؟ وهل تخلى عن مفاهيمه حول «إسرائيل دولة صغيرة تحتاج إلى توسيع؟».

في وثيقة نشرتها إدارة ترمب مطلع ديسمبر (كانون الأول) 2025، وحددت فيها الأهداف الاستراتيجية لإدارته، جاء أن القضية الفلسطينية غير قابلة للحل قريباً. فهل هذا يعني أن بالإمكان تخطي خطة ترمب لوقف الحرب في غزة، وإقامة سلام شامل في الشرق الأوسط؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فهل يمكن أن يمارس ضغوطاً على إسرائيل لفرض التسوية؟ وما حدود الدعم لإسرائيل؟ وأي اتفاق مساعدة سيمنحه ترمب في عهده للسنوات العشر المقبلة؟

في محيط نتنياهو لا تبدو الأمور واضحة، رغم التصريحات التي تبث تفاؤلاً حول متانة العلاقات.

نعم، حتى نتنياهو الذي يعد نفسه «أكبر خبير إسرائيلي في الشؤون الأميركية»، لا يبدو قادراً على تحديد موقف ترمب، ويمضي ساعات في دراسة شخصية «ترمب الجديد».

يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وهو يشير بيده بجانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مطار بن غوريون الدولي أثناء زيارته إسرائيل 13 أكتوبر 2025 (رويترز)

نتنياهو الذي عاش في أميركا

يسجل التاريخ السياسي أن 8 من مجموع 13 رئيس وزراء حكموا إسرائيل حتى الآن، عاشوا في الولايات المتحدة لفترة زمنية ما تزيد على ستة شهور. أكثر رئيس حكومة عاش في أميركا، كانت غولدا مائير، 18 عاماً. يأتي بعدها بنيامين نتنياهو، الذي عاش فيها 16 عاماً. وكلاهما كان يتباهى بأنه أكثر من يعرف أميركا من الداخل، بفضل عيشهما الطويل فيها.

إلا أن المؤرخين الإسرائيليين يرون الأمر بشكل معاكس. ويقول الصحافي والمؤرخ، تاني غولدشتاين، إن هناك من يعد غولدا ونتنياهو أسوأ رئيسي حكومة في إسرائيل مع الولايات المتحدة، وسجل في تاريخهما أنهما تسببا بأكبر عدد من الأزمات في العلاقات بين البلدين.

غولدا، كانت وزيرة خارجية إسرائيل عام 1958، عندما تدخلت الولايات المتحدة في لبنان خلال أزمتها الدستورية، وبالاتفاق مع رئيس الوزراء بن غوريون، وضعت أجهزة المخابرات الإسرائيلية في خدمة القوات الأميركية. وبذلك تم وضع قاعدة لأول تعاون أمني بين تل أبيب وواشنطن، وبعد ثلاث سنوات عقد أول لقاء رسمي بين رئيس حكومة إسرائيلية وبين الرئيس الأميركي، الذي كان يومها جون كيندي. لكن غولدا نفسها، عندما أصبحت رئيسة للحكومة الإسرائيلية، أثارت أول أزمة كبيرة في العلاقات.

في مطلع السبعينات، بدأ الأميركيون طرح مشروع سلام إسرائيلي عربي، عرف باسم وزير الخارجية، ويليام روجرز. وبعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، حاول الرئيس أنور السادات إحياء هذه الجهود بقوة، وأبدى استعداداً واضحاً لهذا السلام. واعتقد الرئيس ريتشارد نيكسون أن غولدا ستتصرف معه بصفتها شريكة وحليفة استراتيجية ستتحمس لاتفاق السلام الذي سيجلبه إلى إسرائيل، وقد صدم عندما رفضت.

الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر يصفق في حين يعانق رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن الرئيس المصري أنور السادات بالبيت الأبيض سبتمبر 1978 (أ.ف.ب)

في حرب 1973، عندما دخلت إسرائيل في أزمة أمنية، وشعرت بأن الجيشين المصري والسوري يهددان وجودها، سامح نيكسون غولدا، وأرسل شحنات أسلحة ضخمة وطائرات مقاتلة دخلت الحرب ضد مصر وسوريا، يقودها طيارون من سلاح الجو الأميركي.

ويقول المؤرخ المتخصص في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، البروفسور إيلي لادرهندلر، إن غولدا أثبتت أن ادعاءاتها بأنها تعرف أميركا من الداخل انعكست على إسرائيل بشكل سلبي. وثبُت أنها كانت متبجحة، وتتمتع بقدر عال من الثقة الزائدة بالنفس، فأسهمت معرفتها بأميركا بشكل عكسي في المصلحة الإسرائيلية.

ويتمتع نتنياهو أيضاً بثقة زائدة بالنفس، في الشعور بأنه يعرف أميركا من الداخل. وقد تفوق على غولدا في عدد وعمق الأزمات التي تسبب بها في العلاقات بين البلدين، خلال معظم سنوات حكمه. فقد شنّ حرباً على الرئيس باراك أوباما، ليمنعه من توقيع الاتفاق النووي مع إيران في سنة 2015.

ودخل نتنياهو في أزمة مع الرئيس السابق جو بايدن، الذي هب لنجدة إسرائيل بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وأفشل مبادراته لوقف النار في غزة. وفي الوقت الذي حاول فيه كل رؤساء الحكومات الإسرائيلية إقامة علاقات متوازنة بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري الأميركي، لكي تحظى إسرائيل بدعم من كليهما، سمح نتنياهو لنفسه بالتدخل في الانتخابات الأميركية لصالح مرشحي الحزب الجمهوري، ودخل في مشكلة مع الديمقراطيين.

ويقول خصوم نتنياهو في واشنطن إنه هو الذي أقنع الرئيس دونالد ترمب في دورته الأولى بإلغاء الاتفاق النووي. وصار يشار إليه بالبنان كمن يريد توريط الولايات المتحدة بحرب. وخلال السنة الماضية، ثبت هذا التقدير ودخلت الولايات المتحدة في حرب مع إيران، قصيرة وخاطفة ولكنها حرب. وهو لا يكتفي بذلك، بل يسعى إلى إقناع الرئيس الأميركي بجولة أخرى، لتكون حرباً أميركية أو حرباً مشتركة بينهما ضد إيران.

جنود من الجيش الإسرائيلي يقفون فوق برج دبابة متمركزة في جنوب إسرائيل بالقرب من الحدود مع قطاع غزة (أ.ف.ب)

متانة العلاقة

ليس هناك شك في أن العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة استراتيجية ومتينة، وهي كذلك في زمن ترمب أيضاً. لكنّ شيئاً ما تغير يجب أن يقلق إسرائيل، وبدأ يقلقها بالفعل.

الحلف مع الولايات المتحدة متين، لأن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تقبل على نفسها أن تكون خط الدفاع والهجوم الأول للمصالح الغربية عموماً والأميركية خصوصاً في الشرق الأوسط. الجنرال ألكسندر هيغ، الذي كان قائداً لحلف شمال الأطلسي، وأصبح وزيراً للخارجية الأميركية، كان يقول إن إسرائيل هي «حاملة الطائرات الأميركية في الشرق الأوسط التي تخوض حروبنا من دون مشاركة أي جندي أميركي». والمستشار الألماني الحالي، ميرتس، قال إن «إسرائيل تقوم بالأعمال القذرة عنا».

لهذا تحظى إسرائيل بهذا الدعم الهائل. وعلى مدى العقود الماضية نما حجم المساعدات العسكرية الأميركية بشكل كبير، ففي عام 1998 كان المبلغ السنوي حوالي 1.8 مليار دولار وبحلول 2028 سيصل إلى 3.8 مليار دولار سنوياً.

وتطلب إسرائيل زيادته للمرحلة المقبلة، وهذا لا يشمل ما قدمته الولايات المتحدة خلال الحرب على غزة، الذي بلغ أكثر من 22 مليار دولار. وحسب صحيفة «هآرتس»، في 18 ديسمبر 2025 أنفقت الولايات المتحدة بسبب الحرب، ما مجموعه حوالي 32 مليار دولار أميركي مساعدات لإسرائيل خلال العامين الماضيين. ونقلت الصحيفة عن مركز أبحاث الكونغرس وجامعة براون في واشنطن، أنه «إلى جانب تكاليف المساعدات المباشرة، المتمثلة في العمليات العسكرية الأميركية في اليمن وإيران، حوّلت واشنطن 21.7 مليار دولار أميركي إلى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية خلال العامين الماضيين. إضافةً إلى ذلك، وافق مجلس النواب في بداية 2025 على مساعدات عسكرية خاصة بقيمة 26 مليار دولار أميركي، خُصص منها حوالي 4 مليارات دولار أميركي لصواريخ اعتراض ضمن برنامج الدفاع الصاروخي، و1.2 مليار دولار أميركي لنظام الليزر الجديد (أور إيتان)».

وكان التحالف الاستراتيجي الأميركي الإسرائيلي مبنياً على «قيم مشتركة» للبلدين ورسم مشترك للمصالح، لكن الحرب على غزة أحدثت هزة شديدة في هذه القواعد، التي كان تستند على دولة عظمى، إذ تحتضن «ابنها المدلل» في منطقة الشرق الأوسط.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس خلال اجتماع في أحد مقار الجيش (الحكومة الإسرائيلية)

ترمب «غير المتوقع»

يدرك نتنياهو قوة الخدمة التي تقدمها إسرائيل للولايات المتحدة، واستغلها هو بطريقة شرسة، خصوصاً في ظل إدارتي أوباما وبايدن، لكن قدوم ترمب إلى البيت الأبيض أحدث تغييراً في المعادلة لدرجة أربكت نتنياهو وحكومته، وجعلته يخطو بحذر حتى يبتعد عن المتاهات. فالولايات المتحدة تتغير، والأمر تجلى بشكل كبير في السنة الأولى من إدارة ترمب.

يُنظر إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب على أنه شخصية غير تقليدية، تتسم قراراته بعدم القابلية للتنبؤ، ما يفرض على من يتعامل معه قدراً أكبر من الحذر مقارنة برؤساء سابقين. وتقول الصحافة الإسرائيلية إن هذا النهج يثير قلقاً حتى لدى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي يُشار إلى أنه يخشى التعرض لانتقادات علنية على غرار ما واجهه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. ورغم إدراك ترمب للأهمية الاستراتيجية لإسرائيل، فإن تقديرات تشير إلى أن حساباته لا تقتصر على هذا العامل وحده.

وترمب من نوع القادة الذين يؤمنون بأنهم يعرفون مصلحة إسرائيل أكثر منها ومن قادتها، ومثلما يراها «حاملة طائرات أميركية» يقدر عالياً «الحروب» التي تخوضها الدولة العبرية، وتدفع ثمنها بأرواح الإسرائيليين، ولا تكلف أميركا أي جندي.

لكنه في الوقت نفسه مقتنع بأنه يستطيع توفير سلام حقيقي وشامل لإسرائيل في هذا العصر، مع الدول العربية والإسلامية، وهو يقرأ استطلاعات رأي تنشر في تل أبيب، مثل الذي صدر عن معهد أبحاث الشعب اليهودي في 21 ديسمبر 2025، وجاء فيه أن 60 في المائة من الإسرائيليين يثقون في أن ترمب يعمل وفق رؤية تغلب مصالح إسرائيل.

وفي الولايات المتحدة، ثمة تراجع في قوة ونفوذ المسيحيين الصهيونيين المناصرين لإسرائيل، وكذلك في قوة اللوبي اليهودي (أيباك)، مقابل القوة الصاعدة لحركة «ماغا» التي تضع مصلحة أميركا أولاً، إذ تسمع في صفوفها الأصوات التي تطالب بتقليص الدعم لإسرائيل وزيادة الرقابة على الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين وضد سوريا ولبنان.

كما أن هناك تراجعاً حاداً في التأييد الأميركي الشعبي لإسرائيل. وجاء في دراسة لمعهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، أن «هناك أزمة خطيرة في مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة، لدرجة الحديث عن خطر تشكيل تهديد استراتيجي».

وجاء في الدراسة التي نشرت في مطلع ديسمبر 2025، وأجراها الباحثان إلداد شافيت وتيد ساسون، أن «مكانة إسرائيل في الولايات المتحدة وقعت في أزمة غير مسبوقة. الدعم التقليدي تآكل بشكل ملموس في أوساط الديمقراطيين وحتى لدى جزء من الجمهوريين».

وتظهر استطلاعات أن الرأي العام تجاه إسرائيل يتأثر سلباً بشكل مباشر من سلوك إسرائيل في الحرب، ومن الوضع الإنساني في قطاع غزة. كما يلاحظ في الجالية اليهودية خصوصاً في الأوساط الليبرالية، تراجع الدعم، وازدياد الانتقادات لإسرائيل، التي قد تضر بحرية العمل سواء السياسي أو العسكري لإسرائيل، وتشكل تهديداً حقيقياً على أمنها.

ولا يستطيع ترمب إهمال هذه التغيرات إذا أراد أن يحافظ على جمهوره، وإذا وجد أن نتنياهو يضع عراقيل أمام مخططات إدارته. وهو نفسه كان قد أشار إلى أن إسرائيل في عهد نتنياهو باتت من دون أصدقاء سوى الولايات المتحدة، وأنه هو وحده الذي يساندها، وعليها أن تتصرف بما لا يمس مصالح وإرادة الولايات المتحدة.

وتشهد هذه المصالح تغييراً مهماً في منطقة الشرق الأوسط، يتمثل في اللغة الجديدة التي يستخدمها ترمب مع القادة العرب في المنطقة. ويستمع نتنياهو إلى هذه «الموسيقى» بإصغاء، محاولاً فهم حدودها.

الآن، وبعد عام في ظل الرئيس الأميركي، يقال في محيط نتنياهو إنه لا يزال يحاول دراسة «شخصية ترمب الجديدة»، ويجد أن ما تعلمه عن الولايات المتحدة يحتاج إلى نسخة محدثة من الفهم.


كيف غيَّرت قرارات ترمب وجه سوريا؟

صورة لاجتماع ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع في واشنطن بتاريخ 10 نوفمبر الماضي (أ.ف.ب)
صورة لاجتماع ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع في واشنطن بتاريخ 10 نوفمبر الماضي (أ.ف.ب)
TT

كيف غيَّرت قرارات ترمب وجه سوريا؟

صورة لاجتماع ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع في واشنطن بتاريخ 10 نوفمبر الماضي (أ.ف.ب)
صورة لاجتماع ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع في واشنطن بتاريخ 10 نوفمبر الماضي (أ.ف.ب)

في مشهد إقليمي ودولي بالغ التعقيد، تتداخل فيه الملفات الأمنية بالاستراتيجية، والاقتصادية بالسياسية، تعكف إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، منذ عودتها إلى البيت الأبيض في يناير (كانون الثاني) 2025، على إعادة رسم مقاربتها للملف السوري. فبعد سنوات من سياسات أميركية اتسمت بالتردد وتضارب الأجندات، ولا سيما خلال حقبتي باراك أوباما وجو بايدن، تتجه واشنطن اليوم بخطى ثابتة نحو سياسة أكثر مباشرة و«براغماتية»، عنوانها الأبرز تحقيق النتائج على الأرض وضبط التوازنات الدقيقة، بعيداً عن الاعتبارات الآيديولوجية أو الرهانات الطويلة الأمد.

وتأتي هذه المقاربة المستجدة استجابة لمتغيرات جوهرية طرأت على الساحة السورية، يتصدرها سقوط النظام السابق، وصعود حكومة جديدة تسعى بدأب لتثبيت شرعيتها الداخلية وانتزاع اعتراف دولي، بالتوازي مع استمرار المخاطر التي يمثلها تنظيم «داعش»، وتراجع النفوذ الإيراني، وتنامي الأدوار الإقليمية الفاعلة لكل من السعودية وتركيا وقطر. وضمن هذا المشهد، تعيد واشنطن تموضعها بما ينسجم مع «عقيدة ترمب» للشرق الأوسط، القائمة على فرض الاستقرار، وتقليص تكلفة الانخراط العسكري المباشر، وفتح الأبواب أمام مشاريع التنمية والاستثمار.

المصالح قبل الآيديولوجيا

في قراءة لهذا التحول، يرى فراس فحام، الباحث في «مركز أبعاد للدراسات»، أن سياسة الرئيس ترمب تجاه سوريا يمكن توصيفها بأنها «سياسة براغماتية بامتياز»، تركز في جوهرها على المصالح الدولية والاقتصادية، متجاوزة الخلفيات الفكرية أو الآيديولوجية للحكومة السورية الجديدة. ويشير فحام إلى أن نقطة الارتكاز في التقاطع المستجد بين واشنطن ودمشق تتمثل في «منع عودة النفوذ الإيراني إلى سوريا»، وهو هدف يحتل الصدارة في حسابات الإدارة الأميركية الحالية.

ويضيف الباحث أن هذه المقاربة لا يمكن فصلها عن مواقف الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة، التي أبدت دعماً صريحاً للحكومة السورية الجديدة، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، تليها تركيا وقطر، لافتاً إلى أن إدارة ترمب أبدت «استعداداً للاستجابة لهذه المواقف» بعدّها ركيزة أساسية في عملية إعادة بناء منظومة التحالفات الإقليمية.

ولدى عقد مقارنة مع الإدارات السابقة، يعدّ فحام أن نهج أوباما وبايدن كان أقرب إلى «إطلاق يد إيران في المنطقة»، ودعم نفوذ الأقليات، ولا سيما من خلال التحالف الوثيق مع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، ما أسهم في تعقيد المشهد وإضعاف فرص قيام دولة مركزية قادرة على ضبط الأمن ومنع عودة التنظيمات المتطرفة.

توم برّاك مبعوث الولايات المتحدة إلى سوريا يلتقي بالرئيس السوري أحمد الشرع في تركيا يوم 24 مايو (إ.ب.أ)

من الرياض إلى واشنطن: محطات تحول

يرصد فحام المحطات المفصلية في مسار سياسة ترمب الجديدة، مشيراً إلى أن نقطة البداية كانت في اللقاءات التي شهدتها الرياض في يونيو (حزيران) الماضي، حين أعلن الرئيس الأميركي، بطلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، رفع العقوبات عن سوريا، في خطوة قُرئت بوصفها «أول رسالة إيجابية من واشنطن تجاه دمشق». وقد تبع ذلك لقاء ثلاثي جمع ترمب بولي العهد السعودي والرئيس السوري أحمد الشرع، تخللته إشادة لافتة من الرئيس الأميركي بنظيره السوري، عكست رغبة واشنطن في الانفتاح السياسي.

غير أن المحطة الأهم، وفقاً لفحام، تمثلت في «قمة واشنطن» التي عقدت في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث استقبل ترمب الرئيس الشرع في البيت الأبيض، في لقاء وصفه الباحث بأنه «نقطة تحول مفصلية». فعقب هذا اللقاء، بدأت الإدارة الأميركية حراكاً فعلياً للضغط على الكونغرس لإبطال قانون «قيصر»، بالتزامن مع الإعلان عن ضم سوريا إلى التحالف الدولي ضد «داعش»، ما نقل العلاقة بين الجانبين من التنسيق المحدود إلى ما يشبه «علاقة التحالف».

أنصار الرئيس السوري خارج البيت الأبيض بعد لقاء الشرع بالرئيس الأميركي ترمب في واشنطن 10 نوفمبر (إ.ب.أ)

«قسد» ومستقبل شرق الفرات

وحول ملف «قوات سوريا الديمقراطية»، يوضح فحام أن إدارة ترمب تتعاطى مع هذا الملف من زاوية عملية بحتة، توازن بين مصالحها مع الحكومة السورية الجديدة - وهو ما انعكس في تراجع الدعم لـ«قسد» مقارنة بعهد بايدن - ومصالح الحليف التركي. وباتت واشنطن تنظر إلى دمشق بوصفها «الطرف الأكثر فاعلية» في الحرب على تنظيم «داعش». وتستند هذه الرؤية إلى توصيات مراكز أبحاث أميركية أكدت أن الاعتماد الأحادي السابق على المكون الكردي، وما رافقه من ممارسات في شرق سوريا، خلقا «حالة من المظلومية» استثمرها التنظيم المتطرف في التجنيد. وعليه، اقتنعت الإدارة بأن التعاون مع دمشق أكثر جدوى، مع السعي لدمج «قسد» ضمن الدولة السورية وترتيب وضعها أمنياً، لا التخلي عنها في المطلق.

وفي سياق متصل، وحول التوغلات الإسرائيلية جنوب سوريا، يؤكد فحام أن واشنطن تنظر «بعدم رضا» لسياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عادّة أنها تقوض الاستقرار الإقليمي وتعارض رؤية ترمب للتنمية.

كما تتخوف الولايات المتحدة من أن إضعاف الحكومة السورية قد يفتح الباب مجدداً لعودة النفوذ الإيراني ونشاط «داعش». أما فيما يخص محافظة السويداء، فيشير فحام إلى تبني الإدارة الأميركية ضرورة إدماج المحافظة في الدولة، مستشهداً بتصريحات للمبعوث الأميركي توم برّاك، الذي عدّ «اللامركزية فشلت في الشرق الأوسط»، ما يعكس توجهاً لدعم سوريا موحدة.

صورة لاجتماع ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع في واشنطن بتاريخ 10 نوفمبر الماضي (أ.ف.ب)

المؤسسة العسكرية: قراءة موازية

من زاوية أخرى، يقدم الباحث في الجماعات المسلحة، رائد الحامد، قراءة مكملة للموقف الأميركي، مشيراً إلى أنه على الرغم من توجه ترمب في ولايته الأولى لسحب القوات وفض الشراكة مع «قسد»، فإن تحذيرات كبار القادة العسكريين من عودة «داعش» بعد معارك الباغوز (مارس «آذار» 2019) دفعته للإبقاء على نحو 2000 جندي. ويذكّر الحامد بأن الشراكة مع «قسد» تعود لمعارك كوباني 2015، حيث اعتمدت عليها واشنطن بوصفها قوة برية.

لكن الحامد يلفت إلى أن «السياسة الجديدة» لما بعد سقوط نظام بشار الأسد، وبعد انضمام سوريا للتحالف الدولي، باتت تقوم على عدم الاعتراف بأي كيان مستقل شرق الفرات، ورفض الصيغ الفيدرالية المشابهة لإقليم كردستان العراق. ويختم الحامد بأن هذه السياسة الجديدة «لا تتضمن ضمانات أميركية حقيقية لقسد في مواجهة تركيا»، وتتقاطع مع ضغوط لدمجها في المؤسستين العسكرية والأمنية السورية وفق رؤية الحكومة السورية التي ترفض أي وجود مسلح خارج إطار الدولة، وهو ما ترفضه «قسد» حتى الآن مع اقتراب نهاية السقف الزمني لتنفيذ اتفاقية مارس مع الحكومة في دمشق المقرر لها نهاية هذا العام، وفق الحامد.

وعلى ما يبدو فإن المشهد السوري قد دخل مرحلة مفصلية تتجاوز معادلات الصراع التقليدية، لتؤسس لواقع جديد تحكمه لغة المصالح والترتيبات الأمنية المتبادلة. وإذ تراهن واشنطن وحلفاؤها الإقليميون، وتحديداً الرياض وأنقرة، على قدرة القيادة الجديدة في دمشق على فرض الاستقرار وإنهاء حقبة الفوضى، فإن نجاح هذا المسار يبقى، وفقاً للمراقبين، رهناً باختبارات الميدان خلال الأشهر المقبلة. وستكون قدرة «الجمهورية الجديدة» على الموازنة بين متطلبات المصالحة الداخلية واشتراطات التحالفات الخارجية، هي المعيار الحاسم لتحديد ما إذا كانت هذه الانعطافة تمثل بالفعل الفصل الأول الذي سيضع حداً لسنوات من التردد الأميركي في المنطقة.