الحضارة الغربية مع التاريخ... ولكن!

الحضارة الغربية مع التاريخ... ولكن!
TT

الحضارة الغربية مع التاريخ... ولكن!

الحضارة الغربية مع التاريخ... ولكن!

رغم اتفاقهما على أن الحضارة الغربية قوية، وستظل قوية، ورغم معارضتهما لآراء تقول إنها ستنهار، أو بدأت تنهار، يختلف اثنان من أشهر المثقفين الأميركيين، واحد ليبرالي والآخر محافظ، حول أسباب المشكلات الحالية التي تواجهها.
الليبرالي هو ستيف بانكر، أستاذ علم النفس في جامعة هارفارد، مؤلف كتاب صدر في العام الماضي بعنوان «التنوير الآن: انتصار المنطق والعلم».
والمحافظ هو بن شابيرو، مقدم حلقات ثقافية سينمائية وتلفزيونية، مؤلف كتاب «غسيل المخ: كيف تغسل جامعاتنا عقول أبنائنا»، وكتاب «جيل الخلاعة: كيف تهدد الليبرالية مستقبلنا»، وهذا الكتاب «مع التاريخ الصادق: الحضارة الغربية».
يستعمل المؤلف كلمة «رايت» (صادق)، التي تعنى أيضاً كلمة «اليمين»، إشارة إلى الفكر الذي يؤمن به.
ويكاد هذا الكتاب الأخير يركز على هجوم مستمر على بانكر، وعلى كتابه «التنوير الآن» الذي ملخصه هو أن العقلانية، لا العاطفة، تدفع الحضارة الغريبة. وذلك لأن «العاطفة ليست سهلة سيطرة العقل عليها، بينما يقدر العقل، بالطبع، أن يسيطر على نفسه».
اشتهر كتاب «التنوير» أكثر لأن بيل غيتس، مؤسس «مايكروسوفت»، قال إنه كتابه المفضل الذي قرأه في ذلك الوقت، وذلك لأنه «يركز على التفاؤل، لا على التشاؤم».
وجاء في الكتاب: «إذا كنت تعتقد أن العالم يقترب من نهايته، فكر مرة أخرى: يعيش الناس حياة أطول، وأكثر صحة وأكثر حرية وأكثر سعادة، رغم أن مشكلاتنا هائلة؛ تكمن الحلول في المثل العليا، المتمثلة في استخدام العقل والعلم». غير أن ما أثار معارضة شابيرو هو قول كتاب بانكر: «هذا التقدم ليس نتيجة بعض القوى الكونية؛ إنه هدية من التنوير، من القناعة بأن العقل والعلم وراء ازدهار الإنسان».
في الجانب الآخر، يقول كتاب شابيرو: «تعيش الحضارة الغربية في خضم أزمة هدف. فضلنا الشكاوى على الحلول، وفضلنا المنفعة السياسية الشخصية على المنفعة الوطنية، وصرنا نعلم أطفالنا أن المعنى الوحيد في الحياة هو حب النفس»، ويضيف: «كمجتمع، ننسى أن كل شيء عظيم حدث في التاريخ حدث بسبب أشخاص يؤمنون بكل من القيم المسيحية اليهودية، وبقوة العقل المولودة في اليونان».
هكذا، يريد شابيرو اليميني أن يجمع بين التفكير العقلي العلماني اليوناني القديم والتفكير الديني، لكنه يركز على التفكير الأخير.
هنا، يعود شابيرو إلى عقلانية بانكر العلمانية، ويراها تناقض عقلانيته هو (العقلانية الدينية). وبينما يثنى بانكر على دور «التنوير»، يثنى شابيرو على دور «الدين والروحانيات»، ويقول: «نقدر على أن نشكر هذه القيم (الدينية) لأنها وراء ولادة العلم، ووراء التقدم، ووراء حقوق الإنسان، ووراء الازدهار، ووراء السلام؛ إنها وراء كل شيء لأنها جاءت من خالقنا. لكننا بصدد التخلي عن القيم اليهودية المسيحية، ولهذا نشاهد حضارتنا تنهار، ومجتمعاتنا تتحول إلى قبائل عرقية، وقد غرقنا في المتعة الفردية والأنانية، والذاتية الأخلاقية».
هكذا، يبدو أن شابيرو لا يختلف عن بانكر في عرض المشكلات التي تواجهها الحضارة الغربية، لكن بينما يقول بانكر إن الحل هو «التنوير»، يقول شابيرو إن الحل هو «الدين»؛ يتفقان في المشكلة، ويختلفان في الحل.



ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
TT

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية

كشفت أعمال المسح المتواصلة في الإمارات العربية المتحدة عن مواقع أثرية موغلة في القدم، منها موقع تل أبرق التابع لإمارة أم القيوين. يحوي هذا التل حصناً يضمّ سلسلة مبانٍ ذات غرف متعددة الأحجام، يجاوره مدفن دائري جماعي كبير. وتُظهر الدراسات أن هذه المنشآت تعود إلى فترة تمتد من الألف الثالث إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وترتبط بمملكة عُرفت في تراث بلاد الرافدين باسم ماجان. خرجت من هذا التل مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية كبيرة في الأساليب، وضمَّت هذه المجموعة بضع قطع ذهبية، منها قطعة منمنمة على شكل كبش، وقطعة مشابهة على شكل وعلَين متجاورين.

يقع تل أبرق عند الخط الحدودي الفاصل بين إمارة أم القيوين وإمارة الشارقة، حيث يجاور الطريق الرئيسي المؤدي إلى إمارة رأس الخيمة. شرعت بعثة عراقية باستكشاف هذا الموقع في عام 1973، وبعد سنوات، عُهد إلى بعثة دنماركية تابعة لجامعة كوبنهاغن بإجراء أعمال المسح والتنقيب فيه، فأجرت تحت إدارة العالِم دانيال بوتس خمس حملات بين عامَي 1989 و1998. خرج تل أبرق من الظلمة إلى النور إثر هذه الحملات، وعمد فريق من الباحثين التابعين لكلية برين ماور الأميركية وجامعة توبنغن الألمانية على دراسة مكتشفاتها في 2007. تواصلت أعمال التنقيب في السنوات التالية، وأشرفت عليها بشكل خاص بعثة إيطالية تعمل في إمارة أم القيوين منذ مطلع 2019.

استعاد دانيال بوتس فصول استكشاف هذا الموقع في كتاب صدر عام 1999 تحت عنوان «ماجان القديمة... أسرار تل أبرق». زار الباحث تل أبرق للمرة الأولى في 1986، يوم كان يقود أعمال التنقيب في مواقع مجاورة، وزاره ثانية بعد عامين، بحثاً عن مؤشرات أثرية خاصة تتعلّق بالأبحاث التي كان يقودها، وكان يومها يعتقد أن تاريخ هذا التل يعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ثم عهد إلى العالِمة الدنماركية آن ماري مورتنسن بمشاركته في استكشاف هذا الموقع، وتبيّن له سريعاً أن الأواني التي كشفت عنها أعمال المسح الأولى تعود إلى القرون الثلاثة الأولى قبل الميلاد بشكل مؤكّد. إثر هذا الاكتشاف، تحوّل موقع تل أبرق إلى موقع رئيسي في خريطة المواقع الأثرية التي ظهرت تباعاً في الأراضي التابعة للإمارات العربية المتحدة، وتوّلت البعثة الدنماركية مهمة إجراء أعمال المسح المعمّق فيه خلال خمسة مواسم متتالية.

حمل عنوان كتاب دانيال بوتس اسم «ماجان القديمة»، وهو اسم تردّد في تراث بلاد الرافدين، ويمثّل جزءاً من شبه جزيرة عُمان كما تُجمع الدراسات المعاصرة. يذكر قصي منصور التركي هذا الاسم في كتابه «الصلات الحضارية بين العراق والخليج العربي»، ويقول في تعريفه به: «تعدّدت الإشارات النصية المسمارية عن المنطقة التي عُرفت باسم ماجان، وهي أرض لها ملكها وحاكمها الخاص، أي إنها تمثّل تنظيماً سياسياً، جعل ملوك أكد يتفاخرون بالانتصار عليها واحداً تلو الآخر». عُرف ملك ماجان بأقدم لقب عند السومريين وهو «إين» أي «السيد»، كما عُرف بلقب «لوجال»، ومعناه «الرجل العظيم». واشتهرت ماجان بالمعادن والأحجار، وشكّلت «مملكة ذات شأن كبير، لها ملكها واقتصادها القوي»، ودلَّت الأبحاث الحديثة على أن مستوطنات هذه المملكة، «بما فيها الإمارات العربية وشبه جزيرة عُمان الحالية، كانت لها قاعدة زراعية، ولكي تجري حماية استثماراتهم هذه شعر المستوطنون بضرورة بناء التحصينات الدفاعية الممكنة لقراهم، حيث احتوت كل قرية أو مدينة صغيرة على أبراج مرتفعة، بمنزلة حصن مغلق واسع، يتفاوت ارتفاعاً ومساحةً بين مدينة وأخرى». يُمثّل تل أبرق حصناً من هذه الحصون، ويُشابه في تكوينه قلعة نزوى في سلطنة عُمان، وموقع هيلي في إمارة أبو ظبي.

يتوقّف دانيال بوتس أمام اكتشافه قطعةً ذهبيةً منمنمةً على شكل كبش في مدفن تل أبرق، ويعبّر عن سعادته البالغة بهذا الاكتشاف الذي تلاه اكتشاف آخر هو كناية عن قطعة مشابهة تمثّل كما يبدو وعلَين متجاورين. وتحمل كلٌّ من هاتين القطعتين ثقباً يشير إلى أنها شُكّلت جزءاً من حليٍّ جنائزية. إلى جانب هاتين الحليتين الذهبيتين، تحضر حلقة على شكل خاتم، وقطعة على شكل ورقة نباتية مجرّدة، إضافةً إلى زر صغير، وتُكوّن هذه القطع معاً مجموعة ذهبية صغيرة تجذب ببيرقها كما بصناعتها المتقنة. يحضر الكبش في وضعية جانبية، ويتميّز بطابع تجسيمي دقيق، يتجلى في جانبيه. في المقابل، يحضر الوعلان متقابلين بشكل معاكس، أي الذيل في مواجهة الذيل، ويتميّزان كذلك بحذاقة في التنفيذ تظهر في صياغة أدّق تفاصيل ملامح كل منهما.

يذكر احد النقوش أن «لوجال ماجان»، أي عظيم ماجان، أرسل ذهباً إلى شولكي، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة الذي حكم من 2049 إلى 2047 قبل الميلاد. ويربط دانيال بوتس بين قطع تل أبرق الذهبية وبين هذا الذهب، مستنداً إلى هذه الشهادة الأدبية، ويجعل من هذه القطع قطعاً ملكية ماجانية. في الخلاصة، يبرز كبش تل أبرق ووعلاه بأسلوبهما الفني الرفيع، ويشكّلان قطعتين لا نرى ما يماثلهما في ميراث مكتشفات تل أبرق الذي ضمّ مجموعة من البقايا الحيوانية، تُعد الأكبر في شبه الجزيرة العربية.

من هذا الموقع كذلك، عثرت البعثة الإيطالية في عام 2021 على مجموعة من اللقى، منها تمثال نحاسي صغير على شكل وعل، يبلغ طوله 8.4 سنتيمتر. يعود هذا التمثال إلى فترة زمنية مغايرة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي، ويتميّز بطابعه الواقعي الذي يعكس أثراً هلنستياً واضحاً. يماثل هذا التمثال مجموعة كبيرة من القطع مصدرها جنوب الجزيرة العربية، كما يماثل قطعاً معدنية عُثر عليها في قرية الفاو، في الربع الخالي من المملكة السعودية.