سارة الهاني تغني وردة مفتتحة «مهرجانات صيدا الدولية»

حضرها جمهور احتشد بالآلاف على الواجهة البحرية للمدينة

«سارة الهاني تغني وردة» عنوان الحفل التكريمي للراحلة وردة في مهرجانات صيدا
«سارة الهاني تغني وردة» عنوان الحفل التكريمي للراحلة وردة في مهرجانات صيدا
TT

سارة الهاني تغني وردة مفتتحة «مهرجانات صيدا الدولية»

«سارة الهاني تغني وردة» عنوان الحفل التكريمي للراحلة وردة في مهرجانات صيدا
«سارة الهاني تغني وردة» عنوان الحفل التكريمي للراحلة وردة في مهرجانات صيدا

في أجواء اتسمت بالطرب الأصيل، وبحضور حاشد لجمهور متعطش لأغاني الفن الجميل، افتتحت مهرجانات صيدا الدولية فعالياتها بحفل للفنانة سارة الهاني تغني فيه أغاني وردة الجزائرية.
وتأتي هذه الأمسية كتحية تكريمية أرادتها لجنة مهرجانات صيدا للمطربة الراحلة التي تركت هذا العالم في عام 2012.
وبدأ الحضور بالتوافد إلى مكان المهرجان قبل ساعات من بدايته، وتقدمهم الرئيس الأسبق فؤاد السنيورة الذي جلس كعادته في هذه المناسبة في المقاعد الخلفية للمهرجان، وإلى جانبه النائبة بهية الحريري، وعدد من نواب صيدا.
وقبيل وقوف الفنانة سارة الهاني على المسرح، كانت إطلالة للراحلة وردة الجزائرية من خلال شريط مصور، تلقي فيه التحية على جمهورها وترسل له القبلات، في إحدى حفلاتها السابقة في لبنان.
واستهلت سارة الهاني السهرة التي حملت عنواناً لها «سارة الهاني تغني وردة» بأغنية «في يوم وليلة»، وقد ارتدت فستانا زهرياً. وأرفقت هذه المشهدية مع خلفية على شاشة عملاقة تتوسط المسرح، تحمل صورة للراحلة وردة في غالبية وصلاتها الغنائية.
وبعيد هذه الافتتاحية التي صدح فيها صوت الهاني بمقاطع من أشهر أغاني الفنانة الراحلة، توجهت بالشكر إلى الجمهور الواسع الذي يحضرها، واصفة شعورها بـ«الرائع والجميل»، كونها تغني لأحد عمالقة الفن الجميل (وردة الجزائرية)، وأضافت: «أنا خائفة وسعيدة في الوقت نفسه، لأن المسؤولية التي حمّلتني إياها لجنة مهرجانات صيدا كبيرة، وأشكرهم عليها».
ووقفت سارة الهاني على طلبات الجمهور أكثر من مرة خلال الحفل، تسأله عن الأغاني التي يرغب في الاستماع إليها، كاسرة بذلك ولمرات كثيرة البرنامج المعد لهذه المناسبة. وقد رافقها بها على المسرح فرقة موسيقية بقيادة المايسترو مازن الزوائدي. وكرّت سبحة أغانيها لتطال «أكدب عليك» و«دندنة» و«حكايتي مع الزمان» و«يا ليل»، مضيئة بذلك على مجموعة أغاني قديمة لوردة الجزائرية قدمتها في أفلام سينمائية لعبت بطولتها، كـ«آه يا ليل يا زمن» في منتصف السبعينات، و«ليه يا دنيا؟» في عام 1994.
وكان لأغنية «بتونس بيك» وقعها الحماسي على الجمهور، إذ وقف يتمايل مع موسيقاها لصلاح الشرنوبي، الذي معه استطاعت وردة الجزائرية قلب صفحة في تاريخ الموسيقى الشرقية، بخليط مع موسيقى غربية حديثة. وعلّقت يومها على نجاح الأغنية الراحلة صباح تقول: «شرنبت معو صلاح».
ومن ريبرتوار أغاني وردة الجزائرية الشهيرة التي حصدت نجاحاً ملحوظاً لا يزال عدد من الفنانين يقدمونها في حفلاتهم وفي ألبوماتهم الغنائية، أدت سارة الهاني: «لولا الملامة» و«قلبي سعيد» و«حرمت أحبك»، فاشتعلت أجواء المدرج تصفيقاً وترداداً لكلماتها، مع جمهور وقف يتفاعل معها رقصاً وغناء وهتافات تشيد بصوت وأداء سارة الهاني الرخيم الشجي.
وفي وقت استراحة قصير لم يتجاوز الدقائق الخمس، تم عرض شريط مصور للفنانة سارة الهاني تؤدي فيه أغنية خاصة (صيدا)، في لفتة تكريمية منها للمدينة الجنوبية العريقة ولجنة مهرجاناتها. وهي من كلمات وألحان شادي أبو السعيد، عازف القانون في فرقتها الموسيقية. وبعيد وقوف سارة الهاني من جديد على المسرح، علّقت تقول: «أغنية (صيدا) نابعة لاشعورياً من حبّي لهذه المدينة الجنوبية العزيزة على قلوب اللبنانيين أجمعين، وأردتها هدية رمزية أقدمها لها في هذه المناسبة، وستستمعون إليها مرة ثانية في نهاية الحفل».
وعلى هامش المهرجان، أشارت النائبة بهية الحريري، ممثلة بحضورها رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري، إلى أن مدينة صيدا استطاعت، وعلى مدى أربع سنوات متتالية (عمر مهرجاناتها الفنية)، أن تثبت وجودها على خريطة المهرجانات الفنية السياحية في لبنان. فتحولت إلى مناسبة سنوية تعبر عن توق المدينة للفرح، والتواصل مع أهالي المنطقة، وهي تنبض بالعراقة والحياة والثقافة والفنون.
وفي القسم الأخير من الحفل الذي استغرق نحو ساعتين، أعادت الفنانة سارة الهاني الحضور إلى زمن الفن الأصيل، فقدّمت مجموعة أخرى من أغاني وردة الجزائرية: «داري على الجراح» و«ليالينا» و«كان اسمو حبيبي»، التي أظهرت قدراتها على أداء فن الطرب الأصيل، ولتعيد أداء مقطع من أغنية «حرمت أحبك» للمرة الثانية، مختتمة معها هذه السهرة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)